قبل خمس سنوات من الآن كانت الجزائر تعيش شبح الإفلاس، وصل إلى حدّ تصريح أحمد أويحيى رئيس الوزراء حينها بأنّ حكومته باتت عاجزة حتى عن تسديد رواتب موظفيها، وذلك بعد أزمة اقتصادية مؤلمة عصفت باقتصاد إحدى أكبر الدول المنتجة والمصدرة للغاز والنفط في أفريقيا، نتيجة سوء الإدارة والفساد الكبير الذي ضيّع على البلاد نحو تريليون دولار خلال سنوات حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
وصارعت الجزائر تلك الأزمة طيلة السنوات الماضية متحديةً شبح الانخفاض السريع للاحتياطي النقدي، واستطاعت، رغم عدم الاستقرار السياسي، أن تتجاوز في 2022 السنوات السبع العجاف التي مرّ بها الاقتصاد الجزائري بدءًا من سنة 2014 التي شهدت تهاويًا في أسعار النفط، والتي تعدّ المورد الأساسي للجزائر من العملة الصعبة.
وكان ذلك بفضل الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها التي فتحت الباب للجزائر للخروج بشكلٍ تدريجيٍ من أزمتها الاقتصادية، فمع صعود أسعار النفط عالميًا، ارتفعت معها مداخيل البلاد من العملة الصعبة لتشكل أرقامًا قياسية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري.
فبلغت قيمة صادرات الجزائر من المحروقات حتى شهر مايو (أيار) 2022 نحو 21.5 مليار دولار، كما تضاعفت أهمية البلاد باعتبارها مصدرةً للطاقة نتيجة للأزمة التي تشهدها أوروبا عقب فرضها عقوباتٍ كبيرة على روسيا؛ الأمر الذي جعل الجزائر تستحوذ على جزء من مكانة روسيا كثاني مورّد أساسي للغاز إلى أوروبا، بحيث تصدّر الجزائر نحو 90 مليون متر مكعب يوميًا إلى أوروبا، في حين تراجعت روسيا إلى المرتبة الثالثة بنحو 80 مليون متر مكعب يوميًا.
ولعلّ أبرز المشاهد التي رسمت الوضع الجديد للجزائر من الناحية الاقتصادية؛ الاستعراض العسكري الضخم الذي نظمته الجزائر في الخامس من يوليو (تموز) 2022 احتفالًا بمرور الذكرى الستين للاستقلال، وهو الاحتفال الذي أعطى رسائل تفيد بوجود وفرة مالية في البلاد، ودلَّ على ذلك الأسلحة المتطورة التي جرى عرضها في احتفالية الاستقلال، فضلًا عن تكلفة الاستعراض العسكري والاحتفالات المرافقة له، والتي بلغت 30 مليون يورو.
وفي هذا السياق يأتي التنظيم الناجح لدورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط بوهران في يونيو (حزيران) الماضي، وهي المؤشرات التي توحي بأنّ الجزائر بدأت تتعافى بشكل كبيرٍ من أزمتها الاقتصادية.
كيف ساهمت الحرب الأوكرانية في استرجاع الجزائر عافيتها الاقتصادية
لحظات فقط بعد أن أنهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابه المقتضب، والذي أعلن من خلاله شنّ قواته حملةً عسكرية على أوكرانيا حتى تخطت أسعار النفط عتبة 100 دولار للبرميل للمرة الأولى منذ أكثر من سبع سنوات، كان ذلك يوم الخميس 24 فبراير (شباط) 2022، وتواصلت منذ تلك اللحظة أسعار النفط في الارتفاع لتبلغ حدود 130 دولارًا، قبل أن تستقر في حدود 100 دولار للبرميل.
ومنذ بداية السنة شهد سعر خام الجزائر المعروف بـ«صحارى بلاند» ارتفاعًا هائلًا محطمًا بذلك كل يوم الأرقام القياسية منذ سنة 2014، حتى وصل بتاريخ التاسع من مارس (أذار) 2022 إلى مستوى قياسي لامس 136 دولارًا للبرميل ليصبح أحد أغلى خامات النفط في العالم.
وكانت الجزائر، وهي إحدى الدول الأعضاء بمنظمة الأوبك؛ قد قررت مضاعفة حصة إنتاجها من النفط ليبلغ ابتداءً من الشهر أغسطس (آب) 2022 مليون و55 ألف برميل يوميًا بحسب تصريحٍ لوزير الطاقة والمناجم محمد عرقاب.
وبلغت عائدات صادرات النفط الجزائرية، خلال الخمس أشهر الأولى من العام الجاري نحو 21.5 مليار دولار، وذلك مقارنة بنحو 12.6 مليار دولار في نهاية شهر مايو من العام الماضي، بزيادة بلغت نحو 70%محققة انتعاشة هي الأفضل على مدار الأعوام الثمانية الماضية.
وتُشير توقعات مجلة «ميس» الأمريكية المتخصصة في الطاقة إلى أن الجزائر ستسجل عائدات تتراوح ما بين 35 و36 مليار دولار بنهاية العام الجاري من صادرات النفط، في وقتٍ تتوقع فيه شركة المحروقات «سوناطراك» أن تحقق 50 مليار دولار إيرادات بنهاية عام 2022.

شركة سوناطراك
ولم تكن أسعار النفط الملتهبة الفائدة الوحيدة التي جنتها البلاد من حرب تبعد عنها آلاف الأميال وجعلت اقتصادها ينتعش؛ إذ قفزت الجزائر سريعًا إلى المرتبة الثانية لأكبر مصدري الغاز لأوروبا عبر الأنابيب، متفوقة على روسيا، وذلك بعد أن أصبح يتدفق عبر الأنابيب الجزائرية العابر للبحار نحو أوروبا نحو 90 مليون متر مكعب يوميًا، في حين تراجعت روسيا إلى المرتبة الثالثة بنحو 80 مليون متر مكعب يوميًا.
وتسعى الجزائر بخطى ثابتة من أجل تأمين احتياجات العديد من دول الأوروبية الساعية إلى الخروج من «حصار الطاقة» الروسي؛ فخلال الأشهر الماضية، وقعت الجزائر عددًا من الصفقات، أبرزها صفقة مع إيطاليا لزيادة الإمدادات إلى روما عبر خط «ترانسميد»، كما عمدت البلاد إلى إعادة تعديل اتفاقيات الغاز مع فرنسا وإسبانيا، ومراجعة أسعار الغاز مع البلدين دون التسبب في خسارة شركائها رغم الأزمة السياسية التي تعكر صفو العلاقات الجزائر مع باريس ومدريد.
آخر فصول مساعي البلاد إلى لعب دور إقليميٍ هام في المستجدات التي يشهدها العالم على مستوى تلك الصفقة التي وقعتها الجزائر مع كل من شركة «أوكسيدنتال» الأمريكية، وإيني الإيطالية، وتوتال إنرجي الفرنسية، باستثمارات تصل إلى 4 مليارات دولار.
وتهدف الصفقة الجديدة إلى إنتاج نحو مليار برميل من النفط المكافئ من «حوض بركين»، موقع جنوب شرق «حاسي مسعود»؛ وكذلك من شأنها زيادة الصادرات نحو أوروبا، ما يعزز مكانة البلد الشمال أفريقي بصفتها مصدرًا موثوقًا للطاقة عالميًا.
علاوةً على ذلك أعلنت الجزائر عن مضاعفة صادراتها من الغاز لإيطاليا إلى 25 مليار متر مكعب، بعد اتفاق على زيادتها 4 مليارات متر مكعب، خلال زيارة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي الأسبوع الماضي للجزائر.
ومن المتوقع أن ترتفع مداخيل البلاد أكثر بعد مراجعة أسعار الغاز في عقودها مع كلٍ من فرنسا وإسبانيا التي تعدّ من أبرز المستوردين للغاز الجزائري بأنواعه المسال والمميع، وما يعزّز هذا الارتفاع من توقعات تحقيق الخزينة الجزائرية مداخيل قياسية هذا العام، علمًا بأن الجزائر تبني موازنتها الداخلية على سعرٍ مرجعي هو 45 دولارًا.
جهود الجزائر للخروج من «عباءة المحروقات»
رغم التفاؤل الحذر الذي يسيطر على الجزائريين خلال الفترة الحالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط، فإن هاجس تكرار نفس التجربة التي مرّت بها البلاد بعد سنة 2014، بعد انهيار أسعار النفط وتهاوي احتياطي صرف البلاد من 194 مليار دولار إلى 42 مليار دولار نهاية 2021، والركود الكبير وارتفاع الأسعار وندرة الوظائف، لا يزال يرافق تفكير الكثير من الجزائريين، خاصةً أنّ اقتصاد البلاد لا يزال ملتصقًا بقوة بما تجلبه عائدات النفط والغاز التي لا تعرف أسعارها استقرارًا؛ إذ تمثل عائدات النفط والغاز 93% من إيرادات البلاد من النقد الأجنبي.
وتحاول الحكومة الجزائرية تفادي الوقوع في نفس الخطأ القاتل الذي كاد يؤدي بالبلاد إلى الإفلاس، وذلك من خلال جملة من الإصلاحات التي تعكف الحكومة على تطبيقها؛ فمنذ انتخابه رئيسًا للجزائر في ديسمبر (كانون الأول) 2019، رفع الرئيس عبد المجيد تبون شعار إصلاح الاقتصاد، وتقليص تبعيته للمحروقات، وهي المهمة التي اعتبرها تبون ذات أولوية في برنامجه.
وفي ديسمبر 2021 أعلن تبون أنّ سنة 2022 ستكون سنةً اقتصادية بامتياز، وذلك بعد أن استطاع تمرير رؤيته السياسية بنجاح من خلال إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد الحراك الشعبي، وخلال ندوة نظمها حول الانعاش الاقتصادي، رسم الرئيس عبد المجيد تبون أولويات المرحلة القادمة، وهي بناء اقتصاد متنوع لا يعتمد على المحروقات.
وأفاد الرئيس تبون بأن الرهان يتمثل في مساهمة الصناعة في الناتج المحلّي الخام إلى نسبة تتراوح ما بين 10 و15%، كما أبدى أسفه من كون قطاع الصناعة حاليًا يتراوح ما بين خمسة إلى 6% من الناتج المحلي الخام.

جلسة لمجلس الوزراء برئاسة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون
ولعلّ أبرز خطوة قامت بها البلاد في هذا الصدد إصدار قانونٍ جديدٍ للاستثمار من شأنه أن يعطي دفعة لعجلة الاقتصاد غير النفطي، وتركز أهم محاور قانون الاستثمار الجديد على إعادة تنظيم الإطار المؤسسي المتعلق بالاستثمار من خلال تركيز مهام المجلس الوطني للاستثمار وتحويل الوكالة الوطنية لدعم الاستثمار إلى الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار ووضعها تحت سلطة رئيس الوزراء.
وقد جرى منح هذه الوكالة دور المرّوج والمرافق للاستثمارات، عبر استحداث شباك وحيد ذي اختصاص وطني للمشاريع الكبرى، والاستثمارات الأجنبية، وكذا استحداث شبابيك وحيدة، غير ممركزة للاستثمار المحلي، وتعزيز صلاحياتها.
كما سيكون للوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار دور في «محاربة البيروقراطية عبر رقمنة الإجراءات المتصلة بعملية الاستثمار عن طريق استحداث المنصة الرقمية للمستثمر»، وكذا التسليم الفوري لشهادة تسجيل المشروع الاستثماري، وفق بيان مجلس الوزراء.
وتشير تقارير دولية حول مناخ الأعمال في البلدان لمجموعة البنك الدولي، إلى أن الجزائر تحتل مراتب متأخرة في ترتيبها السنوي؛ إذ جاءت في المرتبة 157 في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2020، من بين 190 بلدًا، وذلك بسبب جملة من العراقيل التي تقف في طريق المستثمرين ورجال الأعمال.
ولعلّ أهم الانتقادات الموجهة للجزائر من البنك الدولي، فيما يخص ممارسة أنشطة الأعمال، تأخر وثقل الإجراءات البنكية، وسيطرة البيروقراطية عليها، وصعوبة تحويل الأرباح للخارج للشركات الأجنبية، وتأخر منح العقار لإقامة المشاريع، وطول فترة الحصول على وثائق إنشاء الشركات وغيرها، وهي العراقيل التي أتى قانون الاستثمار الجديد للحد منها ومحاربتها، وليفتح صفحة جديدة مع المستثمرين الأجانب.

ترتيب الجزائر في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2020، المعد من طرف مجموعة البنك الدولي
وفي خطوة لدفع قطاع الزراعة الذي يعدّ ثاني قطاع مدرٍّ للعلمة الصعبة بعد المحروقات قامت الحكومة الجزائرية باقتطاع 70% من التمويلات الموجهة للمؤسسات المصغرة في السنة الجارية 2022 لفائدة قطاع الزراعة والمستثمرين به، وتجدر الإشارة إلى أنّ قطاع الزراعة قد حقق مداخيل تفوق 25 مليار دولار سنة 2021، وهي الأرقام التي فاقت مداخيل المحروقات في تلك السنة.
رغم الانتعاش.. البطالة تحاصر الشباب الجزائري
بالرغم من الأرقام الإيجابية التي يحققها الاقتصاد الجزائري حاليًا نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، غير أنّ الهجرة غير الشرعية لا تزال تجتذب مئات الشباب اليائس من واقعه، وهي الظاهرة التي لا تزال السلطات تبحث لها عن حلٍّ رغم قرارها بصرف منحة البطالة تقدّر قيمتها بـ13 ألف دينار (ما يقارب 100 دولار)، لفائدة أكثر من 300 ألف شاب من طالبي العمل، كما كشفت وزارة المالية أيضًا عن زيادة ثانية للأجور نهاية شهر أبريل 2022.
وكذلك أعلن الرئيس عبد المجيد تبون تجميد كل الضرائب والرسوم حتى إشعار آخر، ولاسيما التي تضمنها قانون المالية 2022 على بعض المواد الغذائية، مع إلغاء كل الضرائب والرسوم على التجارة الإلكترونية، والهواتف المحمولة الفردية، ومستلزمات الإعلام الآلي الموجهة للاستعمال الفردي والمؤسسات الناشئة.

الهجرة غير الشرعية
ولم تفلح تلك القرارات غير المسبوقة في منع الشباب الجزائري من ركوب البحار إلى الضفة الأخرى من المتوسط؛ إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ 9664 جزائريًا هاجروا بشكل غير شرعي إلى إسبانيا سنة 2021، بينما أحبطت قوات خفر السواحل رحلة 4704 أفراد نحو إسبانيا في عام 2021.
ولا تزال وتيرة الهجرة السرية مرتفعة سنة 2022؛ إذ سجلت السلطات الإسبانية شهر مايو الماضي وصول 400 مهاجر جزائري خلال يومين فقط، وهو رقم يدق ناقوس الخطر لمعالجة إحدى أكبر المشاكل التي تتخبط فيها البلاد، فرغم الانتعاش الاقتصادي لا يزال الشباب يركبون القوارب بعيدًا عن وطنهم في مجازفة تصل إلى الموت.