دائمًا ما نشاهد تلك التحذيرات المرتبطة بالمضادات الحيوية وضرورة عدم تناولها إلا تحت إشراف الطبيب، لأن التناول العشوائي والمستمر لتلك الأدوية يتسبب في حدوث مقاومة البكتيريا مما يجعل المضادات الحيوية غير نافعة لاحقًا. هذا الأمر يمثل مشكلة كبيرة تواجه القطاع الطبي حول العالم بالفعل، خصوصًا مع تزايد مقاومة أنواع عديدة من البكتيريا كل يوم.

وكما أن مشكلة الاحتباس الحراري لا تمس الفرد ولا تؤثر فيه سلبًا بشكل مباشر، ما يجعله لا يهتم كثيرًا ببعض الأفعال التي تسبب زيادة هذه الأزمة، فالأمر نفسه ينطبق على مقاومة المضادات الحيوية، فيظل عدد ليس بالقليل من الناس يمارس العادات الخاطئة نفسها تجاه هذه الأدوية، مثل عدم إكمال جرعة العلاج للنهاية أو تناول المضادات الحيوية بشكل عشوائي دون داع طبي لها.

لكن هناك مشكلة جديدة ظهرت نتيجة تناول المضادات الحيوية والتي يمكن أن تغير من نظرة الإنسان لها لأنها تسبب مشكلة تمس الإنسان بشكل مباشر وتسبب ضررًا في أحد وظائفه الأساسية، ألا وهي: المهارات المعرفية والإدراكية.

المضادات الحيوية vs المهارات المعرفية

أظهرت آخر الأبحاث وجود علاقة بين تناول المضادات الحيوية وبين تراجع المهارة المعرفية لدى البشر. إذ وجدت دراسة شملت 14542 امرأة، ارتباطًا لم يتم تفسيره حتى الآن، بين تناول المضادات الحيوية لمدة شهرين على الأقل في مرحلة منتصف العمر، والانخفاض في تقييمات واختبارات المهارات المعرفية التي أجريت بعد عدة سنوات.

Embed from Getty Images

أجريت هذه الدراسة بقيادة علماء الأوبئة من كلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية، وأوضحت مدى أهمية مراقبة استخدام المضادات الحيوية بعناية، وأيضًا مدى أهمية فهمنا للرابط بين ما يحدث في أحشائنا وعلاقته بما يحدث في أدمغتنا. وتمثل هذه الدراسة أول دراسة كبيرة الحجم لتأثير الاستخدام المزمن طويل الأمد للمضادات الحيوية والإدراك.

وكتب الباحثون في ورقتهم البحثية إنه في المجموعة التي خضعت للدراسة، لاحظوا أن استخدام المضادات الحيوية في منتصف العمر كان مرتبطًا بشكل كبير بالدرجات الضعيفة اللاحقة للإدراك المعرفي والتعلم والذاكرة العاملة والحركية والانتباه.

لا يهم نوع المضاد الحيوي.. الأثر السلبي واحد

تناولت النساء في المجموعة البحثية السابقة عقاقير المضادات الحيوية لعدة أسباب، بما في ذلك التهابات الجهاز التنفسي ومشاكل الأسنان، وحب الشباب، والتهابات المسالك البولية. وهو ما يعني أن التأثيرات السلبية على المهارات المعرفية لا تتعلق بنوع معين من المضادات الحيوية.

بالنسبة لأولئك الذين يتناولون المضادات الحيوية، فإن الانخفاض الناتج في قوة الدماغ عبر مختلف فئات التعلم والاستجابة والذاكرة كان يعادل حوالي ثلاث أو أربع سنوات من الشيخوخة الطبيعية. بكلمات أبسط، فإن حجم التراجع الحادث نتيجة تناول المضادات الحيوية يكافئ ما يحدث بعد مرور ثلاث أو أربع سنوات على الإنسان في مرحلة الشيخوخة.

ولتوضيح كيفية الوصول لهذه النتيجة، فقد قام الباحثون بقياس وتقييم القدرة المعرفية في المتوسط ​​بعد سبع سنوات من بدء استخدام المضادات الحيوية، من خلال اختبار عبر الإنترنت أكمله المشاركون في المنزل. يتضمن الاختبار أربع مهام مختلفة في المجموع، مصممة لقياس جوانب مختلفة من الأداء المعرفي.

Embed from Getty Images

وقام العلماء بضبط النتائج بطريقة تجعلهم يزيلون العديد من العوامل الأخرى التي قد تسبب ارتباكًا أو تغييرًا في النتائج، بحيث يتبقى في النهاية عامل واحد متحكم في النتيجة هو تناول المضادات الحيوية. لأنه كالعادة مع دراسات مثل هذه، فإن الرابط ليس كافيًا لإثبات العلاقة السببية – أي أن البيانات لا تظهر أن استخدام المضادات الحيوية بالتأكيد هو الذي يؤدي إلى انخفاض في الإدراك. فمن الممكن أن تكون الظروف التي كانت المضادات الحيوية تهدف إلى علاجها، وليس المضادات الحيوية نفسها، هي التي تسببت في هذا الانخفاض الطفيف في الإدراك، على سبيل المثال.

ومع ذلك، هناك ما يكفي هنا للإشارة إلى إمكانية وجود هذه العلاقة بالفعل مع الحاجة للتأكيد على ضرورة القيام بمزيد من الأبحاث. تتمثل حدود هذه الدراسة في أنها لم تبحث في أي نوع معين من المضادات الحيوية، وأنها اعتمدت على الإبلاغ الذاتي في استخدام المضادات الحيوية.

ومع ذلك، فإن حجم العينة الكبير وضبط العوامل الأخرى وأخذها بعين الاعتبار، بما في ذلك النظام الغذائي والأدوية الأخرى، يزيدان من قيمة هذه الدراسة وقوتها.

وأوضح الباحثون في دراستهم أنه نظرًا للتأثير العميق لاستخدام المضادات الحيوية في ميكروبيوم الأمعاء (البكتيريا الموجودة في أمعاء الإنسان بشكل طبيعي) مع دراسات سابقة تظهر تغيرات في المهارات والقدرات الوظيفية بعد سنتين وأربع سنوات من التعرض للمضادات الحيوية؛ يمكن أن يكون محور الأمعاء والدماغ آلية محتملة لربط المضادات الحيوية بالوظيفة المعرفية.

لكن.. ما العلاقة بين بكتيريا الأمعاء والدماغ؟

سلطت الكثير من الدراسات السابقة الضوء على الرابطة بين ميكروبيوم الأمعاء (البكتيريا الموجودة في الأمعاء الدقيقة) والدماغ. ورغم أنه حتى هذه اللحظة، ليس من الواضح بالضبط ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين ميكروبيوم الأمعاء وبين الدماغ، فإن المزيد من الدراسات توضح لنا وجود ارتباط ما رغم أننا لم نتمكن من فهم آليته بعد.

على سبيل المثال، اكتشف العلماء المزيد من الأدلة الجديدة على أن مرض باركنسون (الشلل الرعاش) يمكن أن يبدأ في القناة الهضمية قبل أن ينتشر إلى الدماغ، مع ملاحظة معدلات أقل للمرض لدى المرضى الذين خضعوا لعملية تسمى «بضع العصب الحائر».

تزيل هذه العملية أجزاءً من «العصب الحائر» الذي يربط الجهاز الهضمي بالدماغ. ويساعد العصب المبهم في التحكم في عمليات اللاوعي المختلفة مثل معدل ضربات القلب والهضم، وعادةً ما يستأصل أجزاء منه في عمليات إزالة القرحة إذا كانت المعدة تنتج مستوى خطيرًا من الحمض.

على مدار هذه الدراسة التي استمرت خمس سنوات، كان المرضى الذين أزالوا هذا الرابط تمامًا أقل عرضة بنسبة 40% للإصابة بمرض باركنسون من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك. توفر هذه النتائج دليلًا أوليًا على أن مرض باركنسون قد يبدأ في الأمعاء.

Embed from Getty Images

هناك دليل آخر على هذه الفرضية، وهو أن الأشخاص المصابين بمرض باركنسون غالبًا ما يعانون من مشاكل في الجهاز الهضمي مثل الإمساك، والتي يمكن أن تبدأ قبل عقود من الإصابة بالمرض.

هناك مثال آخر يتمثل في أن حالات الإصابة بمرض وعائي عصبي نادر يسمى «الورم الوعائي الكهفي» يمكن أن تحدث بسبب مزيج معين من البكتيريا في الجهاز الهضمي. والأورام الوعائية الكهفية عبارة عن آفات تتكون من الأوعية الدموية المتوسعة بشكل غير عادي في الدماغ والحبل الشوكي.

لحسن الحظ، إنه ليس مرضًا شائعًا تمامًا، حيث يحدث في 0.2% فقط من سكان العالم، ويعتمد تأثير المرض إلى حد كبير على مكان تطور هذه الأوعية غير الطبيعية، في بعض مناطق الجهاز العصبي، يمكن أن يتسببوا في حدوث نوبات، والتي غالبًا ما تزداد سوءًا بمرور الوقت. في حالات أخرى، يمكن أن يؤدي إلى ضعف في الأطراف أو مشاكل في الرؤية أو ضعف في الذاكرة. وأشارت الدراسة إلى وجود علاقة واضحة بين حالة الأوعية الدموية العصبية وهيمنة أنواع معينة من البكتيريا تسمى «البكتيريا سالبة الجرام».

صحة

منذ سنة واحدة
علاج منذ قديم الأزل: ما قد لا تعرفه عن قدرة الطعام على علاج الأمراض

المصادر

تحميل المزيد