هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010-2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ إلى وثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكافة الوثائق متاحةٌ للتصفح على الإنترنت.
دفع المجلس العسكري الانتقالي في السودان 6 ملايين دولار لعميل استخبارات إسرائيلي سابق في فترةٍ وجيزة، على أمل تحقيق رزمة من الأهداف، منها تلميع صورة المجلس ومساعدته في إحكام السيطرة على السلطة بعد الثورة السودانية المندلعة في نهاية 2018.
يعرض هذا التقرير التفاصيل الكاملة لتعاقد المجلس العسكري، الذي يمثله الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، مع آري بن ميناشي، وهو إسرائيلي كندي عمل سابقًا في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وينشط في مجال الضغط السياسي الدولي، ويعمل مستشارًا لعدة حكومات وجهات بالشرق الأوسط وأفريقيا، منها: الإمارات، وحليفها في ليبيا اللواء خليفة حفتر، والسياسي التونسي نبيل قروي.
ويظهر التعاقد سعي المجلس للحصول على اعتراف دولي، ودعم أمريكي وروسي. ومن ناحية ثانية يضغط بن ميناشي على المجلس لمنح شركة «موانئ دبي» الإماراتية احتكارًا لتشغيل الميناء الجنوبي في بورتسودان.
متظاهرون سودانيون في احتجاجات ثورة ديسمبر 2019.
أزمة المجلس العسكري السوداني: البحث عن اعتراف دولي
حكم عمر البشير السودان طوال 30 عامًا، وانتهت حياته السياسية بسقوطه في 11 أبريل (نيسان) 2019، بعد شهور شهدت احتجاجات شعبية توسعت يومًا بعد يوم منذ انطلاقها في ديسمبر (كانون الأول) 2018.
تغيّر جديد في خارطة الشرق الأوسط، وتحول جذري في السياسة السودانية، لم يكن ليحدث لولا الثورة، ومع سقوط البشير سرعان ما تحركت طموحات جنرالات السودان.
بعد خلع البشير بأيام قليلة أعلن عن تأسيس المجلس العسكري الانتقالي ليشرف على مرحلة انتقالية من عامين، وترأس المجلس الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، الجهاز المتهم بتنفيذ فضّ الاعتصام السلمي أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
حصل آري بن ميناشي على مليون و500 ألف دولار من زبونه الإماراتي: موانئ دبي، ليحصّل لهم موافقةً من زبونه الآخر: محمد حمدان دقلو حميدتي والمجلس العسكري الانتقالي في السودان، لتدير موانئ دبي الميناء الجنوبي في بورتسودان لمدة 20 عامًا، والطريف في الأمر أنه أخذ من حميدتي 6 ملايين دولار أيضًا.
* بحسب وثائق وزارة العدل الأمريكية
في هذا السياق يأتي تعاقد حميدتي والمجلس مع آري بن ميناشي وشركته «ديكنز آند ماديسون كندا (Dickens & Madson Canada)»، وسجّل العقد في 7 مايو (أيار) 2019، ويحوي كثيرًا من الأهداف.
تنويه: التقرير مبني على المعلومات الواردة في وثائق شركة «ديكنز آند ماديسون كندا (Dickens & Madson Canada)»، الشركة الكندية التي يقدم من خلالها بن ميناشي خدمات الضغط السياسي حول العالم، وليس في الولايات المتحدة فقط. تنشر وزارة العدل الأمريكية هذه الوثائق في إطار قانون تسجيل الوكلاء الأجانب، ويعرف اختصارًا باسم قانون «فارا»، وهو قانون يلزم شركات الضغط السياسي التي تعمل في الولايات المتحدة بالإفصاح عن أنشطتها والأموال التي تتلقاها نظيرًا لخدماتها لصالح جهات غير أمريكية. هذه الوثائق متاحة للاطلاع على موقع الوزارة، تحت رقم تسجيل الشركة: 6200.
المجلس العسكري يرسخ سلطته ويسعى لقيادة البلاد وحيدًا
كان الهدف الأول والأساسي للعقد آنذاك: تحصيل اعتراف أمريكي وروسي بالمجلس الانتقالي، والضغط ليمتلك المجلس صلاحيات أعلى وأوسع من القوى المدنية.

توقيع محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، على التعاقد مع شركة آري بن ميناشي، مسؤول سابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
لتحقيق هذه الغاية يذكر العقد أن الشركة ستضغط على الحكومة الأمريكية، وروسيا، ومؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة، وإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي. وكذلك تنسيق اجتماعات مع شخصيات أمريكية رفيعة المستوى، وتنسيق لقاء علني بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمجلس. وبالمثل تنسيق اجتماعات مع مسؤولين روس، والعمل لتحصيل دعم عسكري للجيش السوداني.
أما الملف الثاني على الأجندة فهو: إسقاط تهم الإرهاب الأمريكية عن السودان، ورفع اسمه من لائحة الدول الداعمة للإرهاب. ولم تذكر ملفات الشركة أي عمل على ملف الحرب الأهلية في دارفور، والمطالبات الدولية والقضائية بمحاسبة المسؤولين السودانيين عنها.
عسكر السودان مع عسكر ليبيا
على المستوى الإقليمي وعدت الشركة بتنسيق اجتماعات مع قادة في المنطقة «لتسوية الخلافات» معها، فيما قد تكون إشارة لإسرائيل. وبخصوص ليبيا، وعدت الشركة بالعمل مع حفتر للحصول على تمويل للمجلس، لم يحدد العقد ماهيته أو حجمه، مقابل دعم عسكري من الجيش السوداني له في الحرب الليبية.
ويُورد العقد أن الشركة ستقدم دعوة لشخصية سياسية لتزور السودان في نهاية مايو 2019، ولكن اسم الشخصية طُمس من وثيقة العقد. حمل العقد أهدافًا أخرى طموحة، منها بناء سوق اقتصادية مشتركة، مركّزة على المعادن والنفط بين السودان وجنوب السودان «مثل الاتحاد الأوروبي»، كما ينص العقد.
وتنتهي قائمة الخدمات الطويلة التي ستقدمها الشركة بالعمل على تأمين مِنحة من الحكومة الروسية من مواد تموينية، تتضمن: 300 ألف طن من القمح، و200 ألف طن لمواد تغذية للحيوانات، و100 ألف طن من السولار. ومثل كثير من عقود آري بن ميناشي، يعدُ بالتواصل مع روسيا والضغط عليها لتأمين هذه الموارد.
تذكر وثائق الشركة أنها تتواصل مع أجهزة أمنية أمريكية ومع الحكومة الأمريكية لتُطلعها بشكل مستمر على أنشطتها لصالح المجلس.
ماذا يمكن أن يقدم ضابط استخبارات إسرائيلية للمجلس العسكري؟
منذ بداية التعاقد، دافعت الشركة عن المجلس العسكري وعملت على تحسين صورته على المستوى الدولي خاصةً بعد الفضّ الدموي للاعتصام، ويظهر هذا بوضوح في مقابلة بن ميناشي مع «بي بي سي».
ينفي بن ميناشي أنه يعمل لتحسين صورة المجلس، ويؤكد على أن حميدتي «زاهد في الحكم»، وأن المجلس بلا أطماع وهَمُّه أن يتجاوز السودان المرحلة الانتقالية بسلام، ويطرح على الطاولة سردية «الاستقرار»، وهي أن المجلس العسكري هو الوحيد القادر على العبور بالسودان من هذه المرحلة.
وتذكر الملفات أن بن ميناشي يقدم استشارات سياسية للمجلس بشأن العملية الانتقالية، وفي شؤون اقتصادية، وأنه بحث فرص إنشاء اتحاد سوداني بين السودان وجنوب السودان.
لكن أكثر ما يلفت النظر في هذه العلاقة كلفتها المالية الباهظة، إذ دفع المجلس 6 ملايين دولار في شهرين فقط، على 13 دفعة متتالية منذ منتصف مايو وحتى 17 يونيو (حزيران) 2019، ولا تورد آخر وثائق الشركة وجود أي مدفوعات إضافية.
الصورة من وثائق شركة ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق آري بن ميناشي، شركة «ديكنز آند ماديسون كندا»، العقدُ باسم حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، وتظهر في الصورة مدفوعات المجلس، وتصل إلى 6 ملايين دولار دُفعت خلال شهرين فقط. المصدر: موقع وزارة العدل الأمريكية.
عقد موانئ دبي.. آري بن ميناشي يضغط على السودان لصالح الإمارات
تذكر وثائق الشركة أن بن ميناشي عمل على توفير «مشغّل لميناء بورت سودان». ويصدف أن المشغّل هي الشركة الإماراتية الشهيرة: موانئ دبي، التي يعمل بن ميناشي لصالحها بعقدٍ منفصل.
وقع بن ميناشي تعاقده مع موانئ دبي في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2019، وهدف العقد بسيط وواضح: الحصول على حق مدته 20 عامًا لتشغيل الميناء الجنوبي في بورتسودان، بدولة السودان.
ومن الطريف أن العقد يذكر أن بن ميناشي «سيضغط على حكومة السودان» للموافقة على منح هذا الحق لموانئ دبي. وببساطة حصل آري بن ميناشي على مليون و500 ألف دولار من زبونه الإماراتي ليضغط على زبونه السوداني، ووفقًا للعقد بينه وبين موانئ دبي، من المفترض أن يحصل في النهاية من الإمارات على ما مجموعه 5 ملايين دولار، ولم ينتهِ التعاقد بين الطرفين حتى الآن.

موقع ميناء بورتسودان على الخريطة. مصدر الصورة: خرائط جوجل.
وقد وقّع عن الشركة الإماراتية في هذا التعاقد سلطان بن سليم، المدير التنفيذي لموانئ دبي.
وتظهر وثائق الشركة تواصلها مع الحكومة الأمريكية وأجهزتها الأمنية لالتماس الموقف الأمريكي من صفقة موانئ دبي وللتأكد من عدم مخالفتها لقوانين أو عقوبات أمريكية. ولن تضغط الشركة فقط على الحكومة السودانية، ولكن على أمريكا أيضًا لتوافق على الصفقة ولتمويل مشروع تشغيل الميناء بمنحة أمريكية.
ويحدّد العقد أن موانئ دبي تسعى للحصول على «بوابة بشاير مارين» في بورتسودان، ويصفها القعد بـ«بوابة النفط» في الميناء. ولكن باقي أنشطة بن ميناشي متعلقة بميناء بورتسودان كاملًا لا بالبوابة فقط، وفي أبريل 2020 نفت الحكومة السودانية أنباء تناقلها الإعلام السوداني عن بيع الميناء لدولة أجنبية، بصفقة أشرف عليها حميدتي، ومن اللافت أن الحكومة لم تنفِ وجود صفقة لتأجير الميناء لجهات أجنبية، واكتفت بنفي وجود صفقة لبيعه.
هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.