«إنه أمر مؤلم جدًّا. أسر الموتى تلعنك. ستكون ملعونًا ما حييت» * د. جون ستون متحدثًا عن ماضيه مع «الفأس السوداء» لـ«بي بي سي» 

في سبعينيات القرن الماضي، تجمع تسعة طلاب في جامعة بينين جنوب نيجيريا، وقرروا تشكيل حركة أطلقوا عليها اسم «الحركة السوداء الأفريقية الجديدة». وتعهدوا بتطهير أفريقيا من العنصرية والقمع، وتشجيع الثقافة التقليدية. وقال مؤسسوها إن الهدف منها هو محاربة الظلم والقمع، وكان شعارها عبارة عن فأس سوداء تحطم قيودًا.

وبرزت الحركة جماعةً تحرريةً للقوة السوداء، وكان النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مصدر إلهام للحركة الأفريقية السوداء الجديدة، وكانت هيكليتها وسريتها والتلاحم الأخوي الذي تبنته، من التقاليد التي استقتها من التنظيمات السرية الأخرى وخاصة الماسونية، التي كان لها وجود في نيجيريا خلال فترة الاستعمار البريطاني.

فأس تكسر القيود أم تبطش بالعبيد

سرعان ما استحوذت رسالة «الفأس السوداء» المعادية للاستعمار على خيال آلاف الشباب، وأنتجت مجلة تسمى «الفأس السوداء»، نشرت فيها أبيات الشعر، إلى جانب الكتابات الدعائية للحركة، وكتب أحد أعضائها المؤسسين: «كانت مؤسستنا ستصبح في طليعة التحرك لإنشاء أمة سوداء جديدة.. كان علينا أن نرى أنفسنا قادةً لجميع الرجال السود في جميع أنحاء العالم».

وكانت مدينة بنين التاريخية الموطن الروحي للحركة، التي توسعت لتشغل الكادر الإداري والتعليمي في معظم مؤسسات التعليم العالي الرئيسية في نيجيريا في غضون 10 سنوات. ولا تزال الحركة الأفريقية السوداء الجديدة قائمة إلى اليوم، ومسجلة قانونيًّا لدى مفوضية الشؤون التجارية النيجيرية، وتقول إن عدد أعضائها في العالم يبلغ 3 ملايين عضو. وتُعلن الحركة دوريًّا عن مساهمتها في الأعمال الخيرية مثل جمع التبرعات لملاجئ الأيتام والمدارس والشرطة في نيجيريا وخارجها.

لكن الكثيرين في نيجيريا وخارجها يعتقدون أن هذه الصورة مزيفة، وأن الجمعية التي تأسست لمحاربة الظلم، تحولت إلى عصابة مافيا مُخيفة، تتوغل أذرعها في الحياة السياسية في نيجيريا، وتمارس نشاطات إجرامية تشمل العالم بأسره. فكيف حدث هذا التحول؟

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، انخفض سعر النفط، وجفت صناديق التعليم العام وجفت معها فرص العمل، بينما ارتفعت على الجانب الآخر معدلات الجريمة، يقول ستيفن إليس، صحافي بريطاني ومؤرخ لنيجيريا لـ«بي بي سي»، إنه في تلك الفترة «أصبحت المهمة الرئيسية للدولة هي تجميع الأموال.. وغرست الطغمة العسكرية في نفوس الشباب النيجيري المبدأ القائل بأن أفضل طريقة لتحقيق القوة والثروة هي القوة الغاشمة». 

ومع استمرار مجموعات اتحاد الطلاب في الاحتجاج من أجل الديمقراطية، ومواجهة القادة العسكريين ذلك الحراك عبر تمويل العصابات بالمال والبنادق، التي استخدموها لسحق المعارضة الطلابية؛ انزلقت الجماعات الطلابية في نيجيريا إلى العنف الذي أخذ يتفشى، وتحول الحرم الجامعي إلى أرض خصبة للجريمة المنظمة النيجيرية.

وفي نهاية التسعينيات، انفصل مجموعة من الأعضاء المنتسبين إلى الحركة الأفريقية السوداء الجديدة، وأعادوا تسمية أنفسهم تحت عنوان المجلة السابق للحركة «الفأس السوداء»، وأخذوا يبسطون نفوذهم داخل المدن النيجيرية وخارجها، ويضلعون في أعمال إجرامية، منها ما حدث في 10 يوليو (تموز) 1999 عندما اقتحم 40 ملثمًا من رجال الفأس السوداء مسكنًا في إحدى الجامعات النيجيرية، وذبحوا خمسة من قادة اتحاد الطلاب الذين كانوا قد احتجوا على انتشار العصابات أو الطوائف.

استقطاب للشباب وطقوس انتساب وحشية

كشف تحقيق أجرته «بي بي سي» آلاف الوثائق السريَّة التي تسرَّبت من اتصالات العصابة، وتشير إلى أن الفأس السوداء أصبحت في العقد الأخير إحدى أخطر عصابات الجريمة المنظمة وأكثرها انتشارًا في العالم، حيث ينتشر أعضاؤها في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. وفي نيجيريا، يُنظر إلى «الفأس السوداء» على أنها «طائفة»، ويرجع ذلك إلى طقوس الانضمام السرية التي تعتمدها، والتي تخلق علاقات اتصال روحية، وتعزز نشوء ولاء متين بين أعضائها. 

وتستهدف المنظمة خريجي الجامعات الذكور، الذين تتراوح أعمارهم بين الـ16 والـ23، وتتصف طقوس الانتساب إليها التي تُعرف بالـ«بامينج» بوحشيتها الشديدة. مع ذلك، يُقبل بعض الشباب على الانضمام إلى العصابة للاستفادة من منافع العضوية الكثيرة حسبما يرون، في حين يجري تجنيد بعضهم الآخر بالإجبار.

وقد وصف أحد أولئك الذين انضموا إلى العصابة طوعًا، ما مر به خلال طقوس التعميد في مداخلة نشرها أحد أفراد العصابة في منتدى سري عام 2016، قال فيها «إنه اقتِيد من كليته (معتقدًا أنه سيحضر حفلًا خاصًّا) إلى غابة كان ينتظره فيها عدد من الرجال، الذين جردوه من ملابسه وأجبروه على الاستلقاء على بطنه في الطين. ثم أخذوا يضربونه بعصي من الخيزران حتى كاد أن يفقد الوعي». ويقول في مداخلته: «اعتقدت بأن ذلك سيكون يوم هلاكي».

ثقافة

منذ 4 سنوات
71% من مسلميها يريدون تطبيق الشريعة.. 6 أشياء قد لا تعرفها عن نيجيريا!

وبعد ذلك الضرب المبرح، بدأت سلسلة من الطقوس التي منها الزحف بين سيقان معذبيه – تقليد يُطلق عليه «ممر الشيطان»- جرح إبهامه وشرب ما نزف من دمٍ منه، ومضغ جوزة كولا – جوز يحتوي على الكافيين وينتشر في غرب أفريقيا- وفي النهاية، عانقه الرجال نفسهم الذين قاموا بتعذيبه وسط غناء وترديد هتافات، وبالنسبة إليهم فقد وُلد من جديد بهيئة أخرى يطلقون عليها «رجل فؤوس مطيع».

د. جون ستون، الذي كان أحد أبرز أعضاء «الفأس السوداء» ويُلقب بـ«الجزار»، ثم أصبح واحدًا من 12 عضوًا من الطائفة، الذين قرروا كسر قسم الولاء للجماعة، والآن هو يُدرس العلوم السياسية بجامعة بنين، يقول «إن العديد من رجال الفؤوس ينضمون إلى العصابة فقط من أجل شبكة من علاقات السلطة والنفوذ». 

وتملك نيجيريا ثاني أعلى معدل بطالة في العالم، وفي ظل هذه البيئة القاسية، يقول ستون «إن الانضمام إلى الفأس السوداء قد يضمن للفرد الحماية، ويفتح بوجهه فرص دخول المجال التجاري» ويضيف إنه ليس كل المنتمين إلى العصابة مجرمون، و«يوجد بين الأعضاء أفراد في الجيش والبحرية والقوة الجوية، وأكاديميون وحتى كهنة ورجال دين». ويعترف ستون بارتكابه فظائع في السنوات التي قضاها مع «الفأس السوداء»، التي يندم عليها اليوم وأصبح من أشد منتقدي للعصابة التي خدمها في الماضي. 

وتشتهر الجماعة باستخدامها العنف المفرط، والتنكيل وقتل من يحاولون التصدي لها ونشر صور جثثهم على مواقع التواصل الاجتماعي النيجيرية، وهي مشوهة أو تبدو عليها علامات التعذيب، وتخوض «الفأس السوداء» صراعات ضد الطوائف المنافسة لها داخل نيجيريا؛ من أجل بسط سيادتها وهيمنتها.

هكذا تحصل «الفأس السوداء» على مصدر دخلها

يعد الاحتيال الإلكتروني مصدر الدخل الرئيسي للعصابة، وكشفت وثائق مسربة اطلعت عليها «بي بي سي» عن فواتير وتحويلات مصرفية، وآلاف الرسائل الإلكترونية التي توضح ضلوع أعضاء «الفأس السوداء» في عمليات احتيال ممنهجة عبر الإنترنت، تُدر أرباحًا هائلة، ويشارك فيها عشرات العناصر الذين يعملون بالتنسيق عبر عدة قارات، وأظهرت الوثائق أيضًا الاتصالات بين أفراد العصابة في نيجيريا وبريطانيا وماليزيا ودول الخليج و12 دولة أخرى.

وتشمل عمليات الاحتيال استغلال العلاقات العاطفية، وتتعلق أخرى بالإرث والأملاك والأعمال التجارية، والتي يفتح من أجلها أعضاء العصابة حسابات بريدية تبدو وكأنها تعود إلى محامي أو محاسبي الضحايا من أجل اعتراض المدفوعات المالية والاستحواذ عليها، وفقًا لـ«بي بي سي»، ويستخدم رجال الفؤوس أسماء من جوازات سفر مسروقة أو مزورة في عمليات الاحتيال تلك.

وجاء ضمن الرسائل المسربة أن شبكة تابعة لرجال الفؤوس في نيجيريا وإيطاليا استهدفت رجلًا في ولاية كاليفورنيا الأمريكية عام 2010 ما أدى إلى خسارة الرجل 3 ملايين دولار في عملية احتيال، كذلك، أعلنت السلطات الكندية إحباط مخطط لتبييض الأموال يعود للعصابة، تتجاوز قيمته 5 مليارات دولار في عام 2017. 

ويقول سكوت آوجنباوم، الموظف السابق لدى مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي، والخبير في الأمن السيبراني لـ«بي بي سي»: «إن الجريمة السيبرانية صناعة تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، وهي خارج نطاق السيطرة» ويضيف أنه تعامل مع مئات من ضحايا «الفأس السوداء»، وقال: «رأيت أرواحًا تدمر وشركات تعلن إفلاسها وضياع كل ما ادخره الناس طيلة أعمارهم. هذه الجرائم تؤثر في الجميع».

انغماس في السياسة المحلية وعلاقات مع المافيا العالمية

«السياسة في نيجيريا تشبه المافيا؛ فسياسيونا وحكومتنا في كل درجاتها تشجع شبابنا على الانتماء إلى الطوائف والعصابات»، هكذا يصف الناشط كورتيس أوجبيبور، الحياة السياسية في ولاية إيدو المكتظة بأعضاء «الفأس السوداء» ويقول أيضًا «إن السياسيين النيجيريين يستأجرون أعضاء الفأس السوداء؛ لتخويف منافسيهم وحراسة صناديق الاقتراع، وإجبار الناس على التصويت» وبعد فوز هؤلاء السياسيين، يكافئون رجال الفؤوس بوظائف في الحكومة، وفقًا لأوجبيبور الذي يقول «يسلحونهم ويغدقون عليهم الأموال خلال الانتخابات، ويعدونهم بتعيينات ومناصب سياسية».

وقد قال توني كاباكا، العضو في الحركة الأفريقية السوداء الجديدة لـ«بي بي سي»: «إذا أجلستني وسألتني هل تتمكن من التعرف إلى وجود الفأس السوداء في الحكومة؟ سأرد بالإيجاب. فمعظم السياسيين متورطون». وأضاف: «إذا رغبت الحكومة في إعادة انتخابها، ستكون بحاجة إلى هؤلاء. ولا تزال هذه العصابات موجودة لأن الحكومة متورطة، وهذه هي الحقيقة».

دولي

منذ 4 سنوات
تسوق لذلك بعض وسائل الإعلام الغربية.. هل الإسلام في نيجيريا هو سبب البلاء حقًا؟

ولم تكتف العصابة بالانغماس في الحياة السياسية النيجيرية، بل مدت خيوط شباكها للتواصل مع عصابات المافيا العالمية، مثل المافيا الإيطالية؛ حيث جعلت «الفأس السوداء» من نفسها مافيا رسمية جديدة في إيطاليا، وهناك تدير صناعة إجرامية منظمة ومربحة تعمل بين إيطاليا ونيجيريا لأكثر من عقدين من الزمن، تعتمد بدرجة كبيرة على تجارة الجنس والمخدرات.

وتقول المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة إنها شهدت ارتفاعًا في عدد ضحايا الاتجار بالجنس بين الفتيات المهاجرات إلى إيطاليا عن طريق البحر في السنوات الماضية القليلة، بعد خداعهم بوعود عمل داخل البلاد، ووفقًا لتقرير منظمة «أنقذوا الأطفال» أن إيطاليا شهدت العام الماضي 2040 ضحية للاتجار بالجنس معظمهم من نيجيريا.

«الحركة الأفريقية».. جمعية خيرية أم أداة لتلميع «الفأس السوداء»؟

في مقابلة أجرتها «بي بي سي» مع أولوروجون إيسي كاكور، زعيم الحركة الحالي، في يوليو (تموز) 2021، صرح فيها بـ«أن الحركة الأفريقية السوداء الجديدة ليست الفأس السوداء. وليس للحركة أي علاقة بالجريمة». وينتقد زعماء الحركة عصابة الفأس السوداء علنًا، ويشددون على أن حركتهم تعارض كل النشاطات الإجرامية.

لكن السلطات القضائية الدولية لها رأي آخر؛ إذ تقول وزارة العدل الأمريكية «إن الحركة الأفريقية السوداء الجديدة منظمة إجرامية، وهي جزء من الفأس السوداء». وشاركتها السلطات الكندية الرأي نفسه، وقالت إن الحركة الأفريقية السوداء الجديدة والفأس السوداء وجهان لعملة واحدة». 

وهذا ما يراه أيضًا د.ستون الذي لم يكن عضوًا في الفأس السوداء فحسب، بل كان أيضًا مسؤولًا رفيعًا في الحركة الأفريقية السوداء الجديدة. ويصف المنظمة بأنها «إجراء شكلي لتغطية الأمور غير الرسمية للعصابة».

وفي سبتمبر (أيلول) عام 2021،  أسفرت عملية مشتركة بين مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ضد «الفأس السوداء» عن القبض على 35 عضوًا من الحركة الأفريقية السوداء الجديدة، الذين اتهموا بالاحتيال عبر الإنترنت بملايين الدولارات.

وتوضح الوثائق التي اطلعت عليها «بي بي سي» وجود علاقات بين بعض أفراد الفأس السوداء والحركة الأفريقية السوداء الجديدة، لكن الحركة أنكرت بشدة وجود أي علاقة مع «الفأس السوداء» وتُصرُّ على أنها منظمة شرعية وسلمية، وصرحت في ذلك الوقت بأنها فصلت جميع أعضائها المعتقلين.

المصادر

تحميل المزيد