في أغسطس (آب) 1999 وقف السياسي الروسي الأربعيني فلاديمير بوتين، أمام أعضاء «مجلس الدوما» (البرلمان الروسي) يلقي خطابًا، ويجيب عن أسئلة ستؤهله للحصول على موافقة البرلمان لترشيحه لرئاسة مجلس الوزراء، وكان بوتين خامس رئيس للوزراء في غضون أقل من 16 شهرًا، وربما لم يهتم الكثير من أعضاء البرلمان بالإنصات لخطابه، فقد ظنوا – على الأرجح – أن حكومته لن تدوم سوى شهر أو شهرين، أسوة بسابقيه في روسيا ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
روسيا القوية.. «حنين» بوتين إلى الاتحاد السوفيتي
لم يكن بوتين، الضابط السابق في «المخابرات السوفيتية (كي جي بي)»، مثل سابقيه من رؤساء الوزراء على الإطلاق، فبعد شهور قليلة سيُعلن الرئيس الروسي بوريس يلتسن، بشكل مباغت استقالته من منصبه، على وقع أزمات اقتصادية طاحنة وتفكك سياسي داخلي شهدتهما البلاد، ليجري تسليم السلطة إلى رئيس الوزراء المغمور فلاديمير بوتين، الذي سرعان ما ستنظم له انتخابات سيحصل فيها على نسبة أصوات تفوق 70%؛ الأمر الذي يؤهله ليصبح «قيصر الكرملين» حتى يومنا هذا.
كان بوتين قد خَدَمَ في «كي جي بي» لمدة 16 عامًا، وكان شاهدًا على «العزيمة السوفيتية» لسنوات طوال، كما كان شاهدًا على تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، اللحظة التي سيصرح بوتين لاحقًا بأنها كانت «مأساة» بالنسبة له، وللكثير من المواطنين الروس، والتي يبدو أنها ستترك ندوبًا عميقة في روحه وتفكيره، ليس فقط من منطلق قومي أو سياسي، بل لأسباب شخصية بحتة.
إذ ولد بوتين في لينينجراد عام 1952، ونشأ في السنوات الذهبية للاتحاد السوفيتي، وهي الفترة التي تلت الانتصار المذهل للاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وشهد كل الإنجازات الكبرى للاتحاد، كما شهد تفكك بلادع، وما أعقبه من أزمة اقتصادية روسية طاحنة؛ مما جعل بوتين يضطر للبحث عن عمل آخر، فعمل «سائق تاكسي» لبعض الوقت ليتمكن من توفير نفقات أسرته.
بوتين، الذي سيعرف بصراحته المطلقة لاحقًا، وهي الصراحة الغريبة عن عالم الساسة الكبار، كان قد حدد في خطابه الأول أمام البرلمان عام 1999 أعمدة السياسة التي سيتبعها، داخليًا وخارجيًا، لأكثر من عقدين من الزمان، سياسة لم يحِد بوتين عنها يومًا واحدًا.
ففي الداخل رأى بوتين ضرورة ما سماه «إعادة الاستقرار»، وإن تطلب الأمر فرض قبضة حديدية صارمة، والتراجع عن الكثير من الحريات السياسية والحقوق المدنية التي تمتع بها المواطنون الروس عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تحقق بالفعل؛ إذ تحولت روسيا إلى حكم فردي استبدادي، وتحول بوتين إلى المتصرف الأوحد في السياسة الروسية.
وخارجيًا أراد بوتين استعادة مكانة روسيا المفقودة، وقد دأب في العمل على أن يعيد إلى موسكو كلمتها المسموعة في الشؤون العالمية، في خطابٍ أمام الدوما قال بوتين: «لقد كانت روسيا قوة عظمى لقرون، ولا تزال كذلك. لقد كان لديها ولا يزال مناطق اهتمام مشروعة، ونحن لا يجب أن نتخلى عن حذرنا في هذا الصدد، ولا ينبغي أن نسمح بتجاهل رأينا».
«إذا اعتاد الفتى خوض المنايا».. حروب بوتين التي لا تنتهي
خلال أكثر من عقدين من الزمان، لم يفوت بوتين فرصة لإعادة روسيا إلى خارطة القوى العظمى، مستخدمًا القوة العسكرية كلما تطلب الأمر، فكانت البداية من حرب الشيشان، التي كانت الآلة العسكرية الروسية قد تلقت فيها صفعات كبرى بين عامي 1994 و1996 فيما عرف بـ«حرب الشيشان الأولى» والتي قادت إلى خروج مرتفعات الشيشان بشكل فعلي من السيطرة الروسية، فقاد بوتين حربًا ثانية دامت لسنوات، ولم يتورع العسكريون الروس عن ارتكاب «جرائم مروعة» بحق الشيشانيين.
كانت نتيجة «الحرب الشيشانية الثانية» عودة الإقليم إلى سيطرة موسكو، لكن الانتصار الرمزي لبوتين كان هو الأهم، فإذا كانت الحرب الأولى رمزًا لانهيار روسيا فإن الحرب الثانية رسخت صورة بوتين قائدًا قويًا قادرًا، ليس فقط على دفع الرواتب والسيطرة على الاقتصاد والسياسة في الداخل، بل أيضًا على الحفاظ على مصالح روسيا الحيوية ووقف نزيف الأراضي، وعلى الرغم من الاتهامات الحقوقية التي لاحقت الجيش الروسي، فقد كانت شعبية بوتين في الداخل في أعلى مستوياتها.
الهجوم الروسي على جورجيا 2008
سيختبر بوتين، الذي وضع منذ وصوله إلى السلطة مسألة إعادة هيكلة الجيش الروسي وتعزيز قدراته العسكرية نصب عينيه، آلته الحربية مجددًا في جورجيا عام 2008، وكانت البلد قد شهدت ثورة شعبية نهاية عام 2003 أطاحت نظام إدوارد شيفرنادزه الموالي لموسكو، قبل أن يخوض الجيش الجورجي معارك في مقاطعتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المواليتين لروسيا، واللتين سعتا إلى إنشاء دويلات مستقلة.
وخاض بوتين حينئذ حربًا خاطفة دمرت الجيش الجورجي، عُرفت بـ«حرب الأيام الخمسة»، وبرغم اقتصار التحرك الروسي على الدفاع عن الأقليم المستقلة، وعدم السعى إلى الإطاحة بالنظام في جورجيا أو احتلال الأراضي الجورجية بشكل كامل، فقد أعادت تلك العملية تسليط الضوء على طموحات بوتين، وجرأته على تحويل الطموحات إلى أفعال، دعت دول البلطيق الثلاث ليتوانيا، وإستونيا، ولاتفيا، مع بولندا في ذلك الوقت «الاتحاد الأوروبي»، و«حلف شمال الأطلسي (الناتو)» إلى معارضة «السياسة الإمبريالية» لروسيا.
لم تكن حرب جورجيا سوى تجربة ستتكرر بحذافيرها في أوكرانيا، كُبرى بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، وذات الأهمية الجيوستراتيجية بالنسبة إلى موسكو، فقد شهدت البلاد عام 2014 ثورة أخرى أطاحت برئيس موالي لبوتين هو فيكتور يانوكوفيتش، ليحل محله في السلطة نظام موالي للغرب، وهو ما لم يكن مقبولًا بالنسبة لبوتين الذي حرك القطعات العسكرية الروسية للسيطرة على شبه جزيرة القرم.
كما دعم بوتين انفصاليين موالين له للسيطرة على بلدات منطقتي دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، وهي التحركات التي أثارت أزمة دامت لثماني سنوات، قبل أن يقرر بوتين شن عمليته العسكرية الأخيرة للهجوم على أوكرانيا صباح يوم الخميس 24 فبراير (شباط) 2022.
«الامبراطورية الروسية» تستفيق من سباتها
في الوقت الذي وجَّه فيه بوتين أصابع الاتهام إلى الغرب، معتبرًا أن تجاهل «الناتو» لمحاذير موسكو الأمنية، وإصراره على التوسع شرقًا حتى حدود روسيا، بما يمكنه من نشر صواريخ تصل إلى عاصمتها (موسكو)، هو الذي ادى بالأزمة الأوكرانية إلى التصعيد الحالي، فإن الكثير من الأصوات تعالت باتهام بوتين بالعمل وفق خطة متقنة لاستعادة الامبراطورية الروسية، حتى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد اتهمه بأن «لديه طموحات تفوق أوكرانيا، وأنه يريد استعادة الحقبة السوفيتية».
هذا التكهنات عززها السلوك السياسي الذي انتهجته روسيا في مناطق مختلفة حول العالم، ففي سبتمبر (أيلول) 2015، أدخل بوتين جيشه في أتون الحرب السورية، ليتمكن من تخليص نظام بشار الأسد من سقوط محقق.
كما يعمل الآلاف من مرتزقة «فاجنر» (وهي قوات روسية لا ترتبط رسميًا بالجيش الروسي، ولكنها تعمل بشكل غير رسمي لتنفيذ الأجندة السياسية لموسكو) في ليبيا ومالي وغيرها حاليًا، في الوقت الذي لم يتردد فيه الرئيس الروسي في إرسال آلاف الجنود إلى كازاخستان لقمع انتفاضة شعبية ضد حليف موسكو قاسم توكاييف.

ألكسندر دوجين -عقل بوتين يرى في غوز أوكرانيا إحياء للامباطورية الروسية
وبرغم أن بوتين قد رد على هذه التصريحات بالنفي، مؤكدًا أن حديث الغرب حول سعيه لإعادة الامبراطورية الروسية مجرد «ادعاءات لا أساس لها من الصحة»، فإن أصواتًا ذات حيثية في تيار الثقافة والفكر السياسي الروسي قد تحدثت بصراحة عن حماسها لخطوة الحرب على أوكرانيا، من منطلق قومي توسعي، ومن أبرزهم ألكسندر دوجين الفيلسوف والمنظر السياسي والاجتماعي الذي يمتد تأثيره إلى شخصيات نافذة من صناع القرار في الكرملين، حتى صار يُطلق عليه لقب «عقل بوتين».
وفور تواتر الأنباء عن بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كتب دوجين مقالًا عاطفيًا مفعمًا بالحماسة عنوانه «تحيا روسيا الجديدة.. لقد بدأ الاسترداد السلافي العظيم»، يقول فيه: «لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، نحن نبدأ الآن مرحلة الربيع الروسي الثاني، إن المعركة من أجل أوكرانيا هي شرط لإحياء إمبراطوريتنا، دعونا نذهب إلى أبعد ما نستطيع، من غير الأخلاقي الآن الابتعاد أو الصمت أو الانسحاب في مواجهة الناس والتاريخ».
واستطرد عراب «الامبراطورية الروسية الجديدة» موضحًا مقصده بشكل لا يدع مجالًا للشك: «تحدث الرئيس (بوتين) عن إلغاء الاتحاد (الروسي) أعتقد أنه كان يقصد فقط أن روسيا عمرها بالكاد أكثر من قرن، وأننا أصحاب أيديولوجية جديدة، لسنا ليبراليين بالطبع، لكننا لسنا شيوعيين أيضًا. نحن شعب الإمبراطورية. نحن الروس لا نتحدث عن الماضي، بل بالمستقبل».
نظام عالمي جديد.. الزمن يُعانق بوتين
عرف عن بوتين تمتعه بالصبر الطويل، وربما يخطط لتلك اللحظة منذ 20 عامًا حتى وجد الظروف المواتية للإعلان عن نهوض العنقاء الروسية من تحت الرماد، وربما لعبت المصادفة دورها، وتزامن العزم البوتيني على استراد الثأر السوفيتي، في ظل تصاعد القوة الروسية على الساحة الدولية مع تراجع للهيمنة الأمريكية، حتى بات البعض يتحدث عن نظام دولي جديد، تنتهي فيه أحادية القطب الأمريكي، ليصبح العالم من جديد فضاءً متعدد الأقطاب، وتكون روسيا أحد أقطابه الكبار.
وبحسب مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» تعليقًا على الأزمة الأوكرانية، فإن ملامح النظام العالمي الجديد الذي يستغله بوتين لإثبات جدارته، صارت فيه الولايات المتحدة ضعيفة ومنقسمة في نظر الكثيرين، وأقل قدرة على اتخاذ سياسة خارجية فعالة ومتماسكة، أما الحكومة الألمانية الجديدة فلا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في المشهد السياسي، وأوروبا في المجمل منكبة على تحدياتها الداخلية الآن».
في مقابل ذلك صارت روسيا تملك سطوة مُعتبرة على أوروبا بفضل تحكمها بإمدادات الطاقة للقارة العجوز، كما أنها استعادت قدرتها العسكرية بعد إعادة بناء جيشها إثر حرب جورجيا 2008، وأصبح لديها القدرة على مد أذرعها المسلحة في كل مكان كما أثبتت السنوات السابقة، إضافة إلى مزية الأسلحة النووية التي تتمتع بها، ولموسكو حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، كل تلك القدرات وأكثر، تجعل موسكو قادرة على أن تتحدث فيصمت الجميع، وأن تجبر القوى الغربية على الجلوس على طاولة المفاوضات والانصياع للشروط الروسية، كما حدث في «اتفاق مينسك» مثلًا.
ويبدو من غير المنطقي إذًا، وفقًا لرؤية بوتين للنظام العالمي الجديد، أن تقبل موسكو بأن يتمدد حلف «الناتو» إلى الحدود القريبة لروسيا، وخاصة في الفضاء السوفيتي السابق الذي يرى بوتين أن على روسيا أن تتمتع بامتيازات حصرية فيه، ومن ثم فإن حربه ضد أوكرانيا تأتي من هذا الاتجاه؛ إذ عبّر صراحة أن «الناتو يحاول على قدم وساق أن يجعل أوكرانيا قاعدة إطلاق موجهة ضد روسيا».
«ما كل ما يتمنى المرء يدركه».. لا سوفيت بدون شيوعية
أعاد بوتين إلى الساحة السياسية الروسية بعض الرموز السوفيتية، تم إعادة استخدام النشيد الوطني السوفيتي مع بعض التعديلات، وأعيد استخدام الكثير من الشعارات السوفيتية، وأشاد الرئيس الروسي بانتصار ستالين في الحرب العالمية الثانية، لكن وبافتراض أن بوتين يمضي في سبيل استعادة «الأمجاد السوفيتية» حقًا.. فهل يتمكن من ذلك بالفعل؟
لم يكن الاتحاد السوفيتي مجرد دولة ذات حدود مرسومة ترغب التوسع بالقوة العسكرية فقط، بل قام بالأساس علي فكرة فلسفية تغزو العقول قبل الأراضي، فتبنى السوفيت الأيديولوجية الاشتراكية الأممية، التي نادت بالقضاء على الطبقية والعصف بالتسلسل الهرمي الاجتماعي، واعتقدت الشيوعية – بغض النظر عن التطبيق السوفيتي لها – بأن البشر يمكن أن يعملوا معًا لهندسة مجتمع قائم على المساواة.
قادة الاتحاد السوفيتي خلال عقد الستينات
كان الاتحاد السوفيتي إذًا يطرح نفسه باعتباره التطبيق المادي للفكرة الشيوعية، التي كانت تغزو العالم بالفعل، وفي كثير من الأحيان، كانت الأمم تتسابق إلى اللحاق بالقطار الشيوعي دون أن يُطلق السوفيت رصاصة واحدة، وبذلك تمكن الاتحاد السوفيتي من البقاء وحدةً عضوية طيلة عقود، باعتباره دولة واحدة متعددة القوميات – تألفت من نحو 15 جمهورية تمتعوا بحقوق متساوية نظريًا ضمن الإطار الشيوعي.
اليوم لا يبدو بوتين شيوعيًا، ولا يمتلك «قيصر روسيا» فكرة عالمية ألبتة، ليس أكثر من قيادة لواء العداء – العابر للقارات – للسياسات الأمريكية «الإمبريالية»، وهو محمل بهموم قومية عتيدة، لكنها لا تتجاوز غضبة العرقية الروسية ضد التهميش، لكن لا يمكنها تعبئة الجماهير خارج الحدود الضيقة لروسيا وبضعة ملايين من أبناء العرقية الروسية في الأراضي المجاورة، لكن من دون فكرة «أممية» جامعة يمكنها التأثير في أمم أخرى مثل الفكرة الشيوعية.
يستطيع بوتين إذًا ان يخطو بضعة خطوات للأمام، مستفيدًا من الضعف الغربي، وأن يملأ الفراغ الذي يتركه التراجع الأمريكي/الأوروبي على الساحة العالمية، وبإمكانه إرسال قواته إلى أماكن متعددة من العالم، حيث القادة والحكومات الذين سئموا من الضغوط أو الإملاءات الغربية، لكن استرجاع «الحالة السوفيتية»، بما احتوتها من عوامل جاذبة ومتناقضة في آن معًا، أمر أقرب إلى فيلم خيال علمي، يشبه استخدام آلة الزمن للعودة للوراء 30 عامًا كاملة، والزمن لا يعود للوراء.
علامات
ألكسندر دوغين, أمريكا, أوكرانيا, الاتحاد السوفيتي, الشيوعية, الناتو, بوتين, دماغ بوتين, موسكو