عندما سُئل أستاذ الإنسانيات، والمؤرخ نعوم تشومسكي، في حوار له مع صحيفة «الجارديان» البريطانية عن الخطر المحدق بالبشرية، أجاب محذرًا من أن الحروب النووية وتغير المناخ هي أعظم الوحوش التي ستواجهها البشرية مستقبلًا. فمع تصفح الأخبار جيدًا، ستكتشف كم عاث البشر في الأرض فسادًا، وكيف تفننت الدول في ابتكار أسوأ الآليات لتدمير الطبيعة.
لكن، هل تتسبب المشكلات الناتجة من الاحتباس الحراري، بفناء البشرية وانتهاء حقبة الهولوسين (Holocene Epoch) أو الفترة الجيولوجيَّة الحاليَّة؟ وهل تراجعت الصحة الإنجابية للبشر، وما هو مستقبل البشرية المتوقع لمواجهة التغيرات المناخية؟
ارتفاع درجة حرارة الكوكب يدفع البشر إلى الانتحار!
يعد الانتحار أول الأخطار التي تهدد استمرارية نسل البشرية على سطح الكرة الأرضية، فهل يتدخل تغير المناخ في سوء الصحة النفسية؟
تنبأت الدراسة التي أجرتها جامعة ستانفورد، وأشرف عليها الخبير الاقتصادي مارشال بيرك بانتحار 21 ألف شخص في الولايات المتحدة والمكسيك بحلول عام 2050 إن استمرت درجة الحرارة بالارتفاع بالمعدل المتوقع، كما تنبأت أيضًا بزيادة معدل الانتحار بنسبة 1.4% في الولايات المتحدة الأمريكية و2.3% في المكسيك بحلول عام 2050.
على جانب آخر لاحظت الدكتورة كارولين ومساعداها ما بين عام 1990 وعام 2010، أنه كلما زادت درجة الحرارة درجة واحدة في الولايات المتحدة والمكسيك، زاد معدل الانتحار بنسبة 0.7% في الولايات المتحدة، وبنسبة 2.1% في المكسيك.
وللنجاة من هذه الكارثة المتوقعة، هرع العلماء للبحث عن السبب وراء العلاقة بين زيادة معدل الانتحار وتغير المناخ، وقد كشفت كارولين أن تلوث الهواء بثاني أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروجين هو المسئول عن زيادة معدل الانتحار، والإصابة بالاكتئاب والخرف.
هل النساء هن الأكثر تضررًا من تغير المناخ حقًّا؟
كثف التحالف العالمي للمساواة بين الجنسين والمناخ، وهي منظمة غير حكومية تدعمها الأمم المتحدة، إجراء العديد من الأبحاث والتقارير للكشف عن العلاقة بين تغير المناخ والجنس. إذ تشير 68% من الدراسات إلى أن النساء هن الأكثر تضررًا من التغيرات المناخية، ففي إحدى الدراسات تبين أن موجة الحرارة التي حدثت بالهند عام 2010 كانت أغلبية ضحاياها من النساء.
كذلك بينت 34 دراسة أن النساء أكثر عرضة للوفاة بسبب الطقس الحار والظواهر الجوية العنيفة، بينما أشارت 13 دراسة إلى أن الرجال أكثر عرضة من النساء. وخالفت 30 دراسة هذه الحقائق، وكشفت عن أن الرجال أكثر عرضة للانتحار بعد التغيرات المناخية الحادة، وللوفاة بسبب الفيضانات وحرائق الغابات.
كيف يؤثر تغير المناخ في الصحة الإنجابية للبشر؟
تتميز اليابان بمناخها المتقلب، فإما أن يكون شديد الحرارة صيفًا، وإما شديد البرودة شتاءً، وبدراسة تأثير هذه التغيرات المناخية وجد الباحثون اليابانيون أن نسبة الأجنة الإناث تفوق نسبة الذكور!
فبحسب ما صرح به الباحث ميساو فوادكاو، فإن نسبة الأجنة تتأثر سلبًا بدرجات الحرارة المتطرفة والتغيرات المناخية الحادة، ففي صيف 2010 الحار، ازدادت وفيات الأطفال في شهر سبتمبر (أيلول)، ثم بعد مرور تسعة أشهر قلت نسبة المواليد من الذكور عن نسبة المواليد من الإناث.
في شتاء العام التالي شديد البرودة، تكررت الظاهرة نفسها، فزادت نسبة وفيات الأطفال، وقلت نسبة الأجنة الذكور بالنسبة للإناث. وبدراسة تلك النقطة تحديدًا ظهرت العلاقة بين التغيرات المناخية والصحة الإنجابية.
وبالانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بلغ عدد الأطفال الذين ولدوا في درجات الحرارة المرتفعة 1165 طفلًا شهريًّا، ويرجح أستاذ الاقتصاد بجامعة تولين والمشرف على دراسة تأثير التغيرات المناخية في الصحة الإنجابية؛ أن نهاية البشرية لم تقترب بعد، لكن تراجع الصحة الإنجابية أحد التكاليف الباهظة لإهدار الطبيعة. فدرجات الحرارة المرتفعة تضر بالخصوبة، وتقلل هرمون التستوستيرون لدى الذكور وعدد حيواناتهم المنوية، علاوة على اضطرابات الحيض لدى النساء، كما أنها تثبط الرغبة الجنسية للشريكين.
وبالبقاء في الولايات المتحدة اتضح بمراجعة 32 مليون حالة ولادة أنه كلما زادت درجة الحرارة، زادت نسبة الإجهاض والولادة المبكرة، فكل درجة مئوية واحدة، تزيد من نسبة الإجهاض بمعدل 6%.
كما اكتشف الباحث مصطفى حنيفي المسئول عن متابعة ارتفاع نسبة الإجهاض في بنجلاديش، أن النساء القاطنين على بعد 20 كيلومترًا من الساحل، عرضة للإجهاض بنسبة 1.3% من نساء المناطق الساحلية. فارتفاع درجة الحرارة يؤثر في الضغط الجوي، وكلما ارتفع الضغط الجوي بمقدار مللي بار، زاد مستوى سطح البحر بمقدار 10 ميلمتر، ومن ثم يزداد منسوب المياه في البحار والمحيطات، فتتدفق المياه المالحة إلى مصادر المياه العذبة، وزيادة نسبة الأملاح التي تحصل عليها النساء، يعرضهن لارتفاع ضغط الدم وتسمم الحمل.
وترجع زيادة عدد الوفيات وقلة عدد المواليد الأصحاء إلى العوامل الآتية:
– أولًا: تلوث الهواء:
مع انغماس العالم في الحياة الصناعية المرفهة، والاعتماد على الوقود الحفري، تزداد نسبة التلوث في الهواء، الأمر الذي يتبعه نقص في إنتاج البويضات عند النساء، ونقص في إنتاج الحيوانات المنوية لدى الرجال، وربما يتسبب بتشوهات خلقية للأجنة.
ففي دراسة إيطالية على 1318 امرأة، تعرضن لأكسيد النتيروجين، تبين أن التعرض المستمر لأكسيد النيتروجين يقلل من هرمون تثبيط الميوليرين، الذي يكشف عن مخزون المبيض من البويضات الجاهزة للإخصاب.
– ثانيًا: التعرض للمواد الكيمائية:
تتعرض النساء للعديد من المواد الكيميائية سواء كانت داخل المنزل، أو خارجه، وتعد هذه المواد الكيمائية عاملًا مهمًّا في تراجع خصوبة النساء، فالمواد الكيمائية الموجودة في المبيدات الحشرية والمعادن تثبط الغدد الصماء، ويمكن أن تنتقل للجنين عبر المشيمة، بالإضافة إلى المواد التي تسبب سرطان الثدي وأمراض المبيض والكبد، مما يخل بوظائف الجسم والتمثيل الغذائي.
– ثالثًا: المجاعات، ونقص الموارد الغذائية:
يتوقع في الأعوام القادمة، أن تغير المناخ سيعجل بتصحر الأرض وجفافها، وبالتالي ندرة المحاصيل الزراعية والموارد الغذائية، مما سيساهم في وهن النساء ومرضهن، فقد أثبتت 11 دراسة أن النساء هن الأكثر تضررًا بنقص الطعام، وأظهرت إحدى هذه الدراسات أن الفتيات في الفلبين هن الأكثر عرضة للوفاة بسبب الأعاصير، وذلك لتمييز الذكور عليهن وإشباع بطونهم، دون الاكتراث بصحة الفتيات.
هل يُنقذ تنظيم النسل البشرية؟
على جانب آخر، يعد تراجع الصحة الإنجابية بالنسبة للدول النامية مشكلة عويصة، أما بالنسبة للدول المتقدمة، فربما يُعد عدم التكاثر طوق نجاة من أزمة تغير المناخ. فبحلول عام 2100 سيتضخم حجم سكان العالم من 7.7 مليار نسمة إلى 10.9 مليار نسمة، ما يعني المزيد من استهلاك الوقود، والمزيد من الغازات المنبعثة، والمزيد من الهواء الملوث، والتغيرات المناخية الحادة، علاوة على استنزاف ثروات الأرض!
وللحد من هذه الكارثة، اقترح العلماء توفير وسائل منع الحمل وتنظيم النسل لحل الأزمة. فعلى مستوى العالم تحبل 99 مليون امرأة سنويًّا دون تخطيط مسبق، أي أن تجنب حمل كل هؤلاء النسوة، وما يترتب عليه من خفض النمو السكاني في العالم، سيقلل من نسبة الانبعاثات بمقدار 40% أو أكثر على المدى الطويل، وهي نتيجة مبشرة لن تستطيع الوسائل الأخرى، مثل استخدام الطاقة المتجددة النظيفة، الوصول إليها، لكن ندرة وسائل منع الحمل المناسبة وارتفاع أسعارها يعوق بينها وبين انتشارها وتفعيلها.
وفي السياق نفسه، صرح الدكتور بول إيرليش بجامعة ستانفورد، لصحيفة «الجارديان» البريطانية، بأن تهديد التغيرات المناخية أسوأ من تهديد جائحة الكورونا، فمع قلة التنوع البيولوجي، وإزالة الغابات، والخوف من انقراض العديد من الكائنات الحية، وتوقعات العلماء عن تجاوز الحد الأقصى لدرجات الحرارة بمعدل 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2052؛ فإن فناء البشرية وانهيار الحضارة الإنسانية صار وشيكًا، الأمر الذي يجعل من «تحديد النسل» طوق الخلاص!