برغم أن الأخطار المحيطة بالبشرية تختلف ما بين الحروب والأوبئة والمجاعات، فإن تغير المناخ الآن صار واحدًا من أكثر الظواهر التي يتم التنبيه من خطرها حول العالم، وربما إذا كنت متابعًا جيدًا للصحافة العالمية ستجد أنه لا تخلو صحيفة أو مجلة أو موقع من نداء متكرر يشرح أخطار تغير المناخ وآثاره المدمرة على البشرية وعلى الكوكب.
أحد أهم العوامل التي ساهمت في ارتفاع حدة التحذيرات من أزمة المناخ؛ هي ازدياد الإقبال على وسائل التواصل الاجتماعي وطبيعتها المتسارعة في نقل الأحداث، فقبلها كان الناس عادة إما يتفقدون الجرائد أو التلفاز، وكانت تحذيرات أزمة المناخ موجودة بشكل جزئي، لكن ليس بالقوة ذاتها.
ومع الانقسام الشديد الذي تشهده ساحات السياسة العالمية من صعود غير عادي لحركات اليمين المحافظ، أصبح تغير المناخ محل جدل بين القوى السياسية، وفي تقريرنا التالي نتعرف على نبذة من تاريخ أزمة تغير المناخ وكيف بدأت، ولماذا قد يراها البعض جزءًا من أجندة سياسية تحمل ما هو أبعد من تلوث متزايد واحترار متصاعد.
نظرية المؤامرة.. بلا مؤامرة!
مع ازدياد نِسب التلوث والاحترار العالمي دأبت العديد من المنصات الإعلامية والإخبارية العالمية على جعل أزمة تغير المناخ على رأس أولوياتها، في محاولة – ربما تكون متأخرة – لإنقاذ العالم من هذا الخطر الداهم الذي لا يبدو للبعض إلا مؤامرة! ففي العقدين الأخيرين دأب اليمينيون المحافظون حول العالم على اتهام الأحزاب والمنصات الإعلامية الديمقراطية بالتآمر للترويج لخطر أزمة المناخ، باعتبارها جزءًا من «مؤامرة» ديمقراطية، لدرجة أن الرئيس الأمريكي السابق ترامب نفسه قال إنه لا يصدق أن هناك خطرًا عالميًّا اسمه «أزمة تغير المناخ».
بدأت هذه التيارات المضادة من الآراء التي تحاول دحض «خطر تغير المناخ» في منتصف الألفينيات، وازداد رواجها بعد أن انتشرت عدة وثائقيات كان أهمها الوثائقيّ شديد الجدية الذي عرضته القناة الرابعة البريطانية بعنوان: «خدعة الاحتباس الحراري الكبرى – The Great Global Warming Swindle» عام 2006 – 2007 والذي تلخصت مادته في إنكار أثر الإنسان في ارتفاع درجة حرارة الكوكب!
بعدها توالت السجالات بين اليمنيين المحافظين من جانب، ونشطاء البيئة من الديمقراطيين على الجانب الآخر، وتصاعد الخلاف حول ماهية المؤامرة نفسها بين رأي اليمنيين بأن الأمر تحول إلى «صناعة» و«بيزنس» كبير قائم على التمويلات من القطاعات الخاصة والحكومية، ووقود ممتاز لحركات النشاط البيئي والسياسي بالتبعية، وبين رأي الديمقراطيين الذين يقولون بأن إنكار الحقائق العلمية المثبتة حول أزمة تغير المناخ هو في الغالب أمر لا يستحق الرد عليه، فأزمة المناخ حقيقية وشديدة الخطورة طبقًا لمئات، بل آلاف من الأبحاث العلمية التي تنشر دوريًا وبشكل ثابت في أكبر المنصات العلمية والأكاديمية في العالم، وأنه لا توجد مؤامرة من الأساس؛ إذا كانت الأزمة الموشكة حقيقة علمية لا يمكن تفاديها.
يجدر بالذكر أن تصاعد الخلاف بين التيارين الديمقراطي والمحافظ حول هذا الأمر خرج من نطاق التداول الإعلامي إلى نطاق العمل السياسي المباشر، وتحديدًا في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، إذ وصل الخلاف على مدى حقيقية وشرعية تحذيرات أزمة المناخ وإذا ما كانت بالفعل أمرًا واقعًا، وبعدما أنكر بعض ممثلي مجلس الشيوخ المحافظين الأمر وقالوا إن تغير المناخ «خدعة ملفقة»؛ اضطر مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2015 لإجراء تصويت لحسم الأمر، وبالطبع انتهى التصويت لصالح الديمقراطيين بأنه ليس خدعة بنتيجة 98 صوتًا مقابل صوت واحد!
كيف ومتى بدأت تحذيرات أزمة المناخ؟
ربما تعتقد أن الأمر قد بدأ في الستينيات من القرن العشرين مع صعود الحركات الحقوقية في أمريكا وأوروبا، ولكن الأمر سبق هذا بعقود، فبحسب تقرير المعهد الأمريكي للفيزياء المنشور في أغسطس (آب) 2021 كان العالم الفيزيائي الفرنسي «جوزيف فورييه» هو أول من اكتشف ما يعرف بالاحتباس الحراري (Greenhouse Effect) في عشرينيات القرن التاسع عشر وتحديدًا في عام 1822، وقال إن الغلاف الجوي للكوكب يحبس الغازات – وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون – المنبعثة من سطح الأرض، ما يرفع درجة حرارة الغلاف الجوي، ومن ثَم الكوكب بشكل ملحوظ.
بجانب تعرض الأرض الدائم لأشعة الشمس الآتية في شكل موجات ضوئية وحرارية؛ والتي تمر بسهولة عبر الغلاف المحيط بالأرض، لكن الصعوبة تكمن في خروج هذه الموجات الحرارية الضوئية إلى الفضاء مرة أخرى. وهو البحث الذي أثار لاحقًا اهتمام دارسي الفيزياء والفلك وغيرها من العلوم التي تدرس الظواهر الطبيعية.
إرينيوس.. رائد علم تغير المناخ
محطة أخرى هامة في تاريخ تحذيرات أزمة المناخ جاءت على يد الكيميائي السويدي «سفانت أرينيوس» في نهايات القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1896 عندما قدم نتائج بحثه في جامعة «ستوكهولم»، والذي كان اللبنة الأساسية في ربط تأثير الاحتباس الحراري وارتفاع نسبته بالغازات المنبعثة من المجمعات الصناعية الكبرى، إذ تسرّع الانبعاثات المحملة بغاز ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء عملية الاحتباس الحراري بشكل مباشر.
واستطاع «أرينيوس» بعد عشرات الآلاف من العمليات الحسابية المعقدة للاحتباس الحراري على مدار عام، أن يستنتج أولًا أن درجة حرارة سطح الأرض المباشرة قد تنخفض بمعدل مرتفع حوالي أربع إلى خمس درجات مئوية مع ازدياد الاحتباس الحراري، لكن في المقابل لن يكون هذا مفيدًا على الإطلاق؛ إذ سوف ترتفع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بالتوازي حوالي خمس إلى ست درجات مئوية، وهو ما يساهم في ارتفاع الاحتباس الحراري بشكل متسارع برغم الانخفاض في حرارة السطح.
كما أسفرت حسابات «أرينيوس» أن معدل إحراق الفحم – آنذاك كانت الطاقة الأكثر استخدمًا هي الفحم – سوف يرفع معدلات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بنسبة 50% خلال 3 آلاف عام، وهي نسبة كفيلة بإنهاء الحياة على كوكب الأرض بالكامل نتيجة للاحتباس الحراري ونقص الأكسجين.
وبرغم كون هذه الأبحاث رائدة في زمنها؛ فإن المجال العلمي لم يستقبل جديدًا في هذا الصدد إلا بنهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، ففي عام 1938 قدم الباحث البريطاني المتخصص في مجال الطاقة البخارية «ستيوارت كالندر» أول بحث متكامل يربط بشكل مباشر وحاسم بين ارتفاع درجة الحرارة وارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
تغير المناخ.. محطات رئيسية
1- عام 1957: نشر الأمريكي «روجر ريفيل» دراسة خلصت إلى أن المحيطات على كوكب الأرض تمتص كميات أقل بكثير مما كان معتقدًا آنذاك من غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يترك للغلاف الجوي كميات أكبر من ثاني أكسيد الكربون
2- عام 1958: أكمل العالم الأمريكي «تشارلز ديفيد كيلينج» أبحاث «ريفيل» حول ارتفاع درجة حرارة الأرض جرّاء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل دوري وثابت من خلال مرصد «مونا لوا» في جزر هاواي لعدة أعوام، ولاحقًا جرى تكريمه من قبل الأمم المتحدة بعد نشره النتائج التي تثبت نظريات الاحتباس الحراري في بحثه الشهير «منحنى كيلنج».
3- 1967: ظهر أول بحث محوسب ومتخصص في محاكاة نموذج الاحترار العالمي وتغير المناخ في أمريكا، والذي أظهر توقعًا بأن معدل درجة حرارة كوكب الأرض سيرتفع بنسبة 2.3 درجة عن ذي قبل في الحقبة الصناعية.
4- عام 1998: عالم المناخ الأمريكي «مايكل مان»، ينشر بحثه المشترك مع عالمين آخرين، وهو ما كان الأهم في عالم تغير المناخ وعُرف باسم «الشكل الإحصائي: عصا الهوكي» والذي يُظهر تغيرًا حادًّا في درجة حرارة الأرض منذ بداية حقبة الثورة الصناعية، والتأثير الشديد لهذا الارتفاع في ذوبان الجليد في القطب الشمالي.
5- 2007: الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة لمنظمة الأمم المتحدة تعلن أن نسبة 90% من تغير المناخ على الكوكب مصدره بشكل مباشر هو انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وهي النسبة المعتمدة حتى الآن في كل الفعاليات والمجهودات التي تهدف إلى إنقاذ الأرض من الهلاك إثر التغير المناخي.
.
وبرغم أن الأبحاث لم تتوقف حتى الآن عن كل ما يحيط بتغير المناخ، أسبابه، والمجهودات الرامية إلى معالجته؛ فإن المحطات السابقة شكلّت أركان التنبيه بخطورة هذا الوحش الغافي أسفل غلافنا الجوي، والذي يبدو أنه في طريقه للاستيقاظ؛ في الوقت نفسه الذي يحاول البعض إنكار أهمية محاربة هذا الخطر والتعلل بوجود مؤامرات سياسية من أجل إيقاظه.