«عندما لا تدفع ثمن سلعة ما، فاعلم أنك أنت السلعة»، هذه المقولة المتداولة تلخص لنا الكثير مما يحدث في عالم الإنترنت الآن. ربما تكون سمعت بهذه المقولة من قبل، وغالبًا ما ترتبط المقولة بمواقع التواصل الاجتماعي التي تقدم لنا خدماتها المجانية، في وقت تقوم فيه باستغلال ملفاتنا الشخصية وبيعها عبر الإعلانات التي تقدمها.
لكن يبدو أننا ننتقل إلى مستوى جديد من استغلال عالم الإنترنت للبشر، فالأمر لا يتعلق باستغلال شركات عالم السيليكون الكبرى مثل «فيسبوك» و«جوجل» وغيرها، لكن الأمر تطور كما يبدو ليشمل جميع مواقع الإنترنت التي كنا نتصفحها بشكل طبيعي ومجاني دون مشاكل.
الغالبية العظمى من مواقع الإنترنت التي تزورها الآن، تقابلك برسالة ترحيبية من خلال نافذة منبثقة تظهر لك وتطلب منك الموافقة على ما يسمى «ملفات تعريف الارتباط»، بهدف تحسين عملية تصفحك للموقع. غالبيتنا يضغط على زر الموافقة بشكل سريع لأنه يريد التخلص من الرسالة والوصول إلى ما يريده داخل الموقع، دون أن يقرأ تفاصيل ما يوافق عليه، ومعرفة ما يعنيه. هنا تبدأ الخدعة التي تتعلق بالوصول إلى بيانات التصفح الخاص بك بهدف بيعها لشركات الإعلانات.
ما هي ملفات تعريف الارتباط؟
ملف تعريف الارتباط هو ملف نصي صغير يجري تنزيله على جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الذكي، عندما يدخل المستخدم إلى موقع إنترنت معين. يسمح هذا الملف لموقع الإنترنت بالتعرف على جهاز المستخدم وتخزين بعض المعلومات حول تفضيلات المستخدم أو تاريخ تصفحه المسبق.
وطبقًا للوائح تنظيم الإنترنت، فإنه يجب على المواقع إخبار الناس بوجود ملفات تعريف الارتباط، وشرح ما تفعله ملفات تعريف الارتباط ولماذا، والحصول على موافقة الشخص لتخزين ملف تعريف الارتباط على أجهزته. وطالما قام موقع الإنترنت بفعل ذلك في أول مرة يزور فيها الشخص الموقع، فلن يضطر إلى تكرار إظهار شعار الموافقة في كل مرة يزور فيها الشخص نفسه موقع الإنترنت.
إشعار ملفات تعريف الارتباط.. الموافقة الخفية!
هذا الإشعار المرتبط بملفات تعريف الارتباط والذي يظهر عند زيارتك لمواقع الإنترنت، موجود لتأمين موافقتك، وفقًا لقوانين الخصوصية عبر الإنترنت، للاحتفاظ بمعلومات عنك حول جلسات التصفح الخاصة بك. ويزعم الإشعار أنه يوفر لك خيارًا من الاثنين، الأول بالموافقة على ملفات تعريف الارتباط الأساسية فقط، والتي تساعد في الحفاظ على وظائف التصفح الخاصة بك.
بينما الخيار الثاني يتعلق بقبول جميع ملفات تعريف الارتباط، بما في ذلك ملفات تعريف الارتباط التي تتعقب سجل التصفح الخاص بك لبيعها لشركات الإعلان المستهدفة. ونظرًا لأن ملفات تعريف الارتباط الإضافية هذه تولد إيرادات إضافية لمواقع الإنترنت التي نزورها، غالبًا ما يتم تصميم إشعارات ملفات تعريف الارتباط لخداعك بالنقر فوق «قبول الكل»، لأن هذه الموافقة هي ما يعني زيادة قيمة عملية البيع.
أظهرت الدراسات أن ملفات تعريف الارتباط تمثل عائدات أعلى للناشرين عبر الإنترنت بالفعل. إذ يكون هناك انخفاض بنسبة 52% في عائدات الإعلانات للناشرين عندما يتخلصون من ملفات تعريف الارتباط من خلال بروتوكولات إلغاء الاشتراك لمستخدمي الإنترنت. من ناحية أخرى، عند وجود ملفات تعريف الارتباط، يتضاعف سعر الإعلانات المقدمة.
خطورة ملفات تعريف الارتباط
من خلال الموافقة على أي من ملفات تعريف الارتباط، فأنت تسمح فعليًا لموقع الإنترنت أو التطبيق بجمع أنواع مختلفة من البيانات عنك، والتي قد تنتهك بعض حقوق الإنسان الخاصة بك، مثل حقك في الخصوصية. وللتحكم في البيانات التي يمكن أن يجمعها الموقع أو التطبيق عنك، عليك أن تمر بعملية شاقة لقراءة الشروط والأحكام الطويلة والمعقدة. لذلك، يلجأ أغلبنا للموافقة سريعًا حتى يرتاح من هذا التعب.
قد تعتقد أنك لا تفعل شيئًا غير قانوني عبر الإنترنت، وبالتالي لا يهم حقًا ما إذا كان شخص ما يعرف أنك تقرأ أنواعًا معينة من المقالات أو تطلب طعامًا أو منتجات معينة. هذه طريقة تفكير خاطئة وخطيرة. إذ تصبح بيانات الإنترنت الخاصة بنا ذات قيمة عندما تجمع لتشكيل ملف تعريف خاص بنا يمكن أن يسمح للشركات باستنتاج أشياء أخرى عنا، وبالتالي يقدم لنا إعلانات موجهة.
هذا النوع من الاستهداف يمكن أيضًا أن يمكن الشركات من التمييز ضد الناس وحرمانهم من فرصة متساوية للحصول على حقوق الإنسان الأساسية، مثل السكن والتوظيف، بل وحتى توجيه الآراء السياسية. هذا الأمر خطير ويعرض حقوقك الأساسية للخطر.
ملفات تعريف الارتباط و«التصميم المظلم»
تعد لافتات أو إشعارات «ملفات تعريف الارتباط» تلك التي تتلاعب بالمستخدمين من أجل قبول جميع الملفات، مجرد مثال لما يسمى «التصميم المظلم»، ويقصد به تلك الممارسة المرتبطة بإنشاء واجهات مستخدم مصممة عمدًا لخداع المستخدم.
وبالفعل، أثبت هذا التصميم المظلم أنه طريقة فعالة بشكل لا يصدق لتشجيع مستخدمي الإنترنت على التخلي عن وقتهم وأموالهم وخصوصيتهم. وقد أدى هذا بدوره إلى إنشاء ما يسمى «أنماط مظلمة»، أو مجموعات من الممارسات التي يعرف المصممون أنه يمكنهم استخدامها للتلاعب بمستخدمي الإنترنت.
هذه النوعية من الأنماط والتصميمات يصعب اكتشافها، لكنها منتشرة بشكل متزايد في مواقع الإنترنت والتطبيقات التي نستخدمها كل يوم. ونتيجة لفعاليتها، تنشأ منتجات جديدة يتم التلاعب بها عن طريق التصميم، مثل النوافذ المنبثقة المستمرة والحاضرة دائمًا، والتي نضطر إلى إغلاقها بأي وسيلة عند زيارة موقع جديد.
بالنسبة لإشعارات ملفات تعريف الارتباط، يتضمن تصميمها بعض الخدع البسيطة والفعالة. ستلاحظ أن زر «قبول الكل» كبير وأكثر تمييزًا بشكل مرح، مما يجذب إليه مؤشر الفأرة خلال جزء من الثانية من وصولك إلى موقع الإنترنت. وفي الوقت نفسه، فإن أزرار «تأكيد الخيارات» أو «إدارة الإعدادات»، المتعلقة بتوضيح تفاصيل الملفات وما تقوم بعمله، تكون أقل بروزًا. ببساطة، فإن الأزرار التي يمكننا من خلالها حماية خصوصيتنا، تصمم بشكل يجعلنا نتوانى عن النقر عليها لأنها تستغرق منا وقتًا أطول في الوصول لها بسبب تصميمها الصغير.
أمثلة أخرى عن التصميمات المظلمة
إشعارات ملفات تعريف الارتباط ليست هي الشكل الوحيد لتلك التصميمات المظلمة. إذ تستخدم مواقع التجارة الإلكترونية أيضًا أنماطًا مظلمة بشكل متكرر. إذا افترضنا أنك تبحث عن منتج ما عبر مواقع البيع عبر الإنترنت، ثم عثرت على منتج ذي أسعار تنافسية ترغب في شرائه. الطبيعي أنك ستنشئ حسابًا على هذا الموقع، ثم تختار المنتج ومواصفاته الإضافية، وتدخل تفاصيل التسليم، ثم تنقر للوصول إلى صفحة الدفع.
هنا، ستكتشف أن التكلفة النهائية، بما في ذلك تكاليف التسليم، أعلى بشكل غامض مما كنت تعتقد في الأصل. أي أن السعر التنافسي الذي رأيته وجعلك تدخل لهذا الموقع ليس حقيقيًا، وأن هناك «تكاليف مخفية» موجودة في هذه العملية. هذا الأمر ليس مصادفة، إذ إن مصمم الموقع أتاح لك عبر إخفاء بعض التكاليف، أن تضغط على عملية طلب الحصول على المنتج بدلاً من قضاء الوقت في تكرار العملية نفسها على موقع إنترنت آخر. وهذا ربما يدفعك في النهاية للقبول بالمنتج بسعره المتاح لعدم رغبتك في تكرار نفس الخطوات على مواقع أخرى.
هناك أمثلة أخرى ربما تكون أقل وضوحًا. إذ تعمل الخدمات المجانية «فيسبوك» و«يوتيوب» على جذب انتباهك من خلال وضع الإعلانات أمامك أثناء التمرير أو التصفح أو المشاهدة. ونتيجة لهذا النوع من الإعلانات المرتبط بجذب الانتباه، كلما مررت المؤشر لأسفل أكثر أو شاهدت المزيد من الفيديوهات، زادت الأموال التي تجنيها الشركات.
هذا المبدأ هو المسؤول عن جعل تطبيق «يوتيوب» مثلًا يضع خاصية «الفيديو التالي – Up Next»، والذي يمكنه أن يجعلك تظل تشاهد الفيديوهات بشكل مستمر دون توقف لو أردت ذلك!