«كان الأمريكيون قبل الحرب الباردة يعيشون في اقتصاد تروسه السفلى: التعذيب، والتنكيل». *المؤرخ إدوارد بابتيست
في أغسطس (آب) عام 1619، كتب المستعمر جون رولف إلى السير إدوين سانديز من شركة فرجينيا، عن وصول رجل حرب هولندي على متن سفينة برتغالية إلى المستعمرة، ولم يجلب معه شيئًا، سوى 20 شخصًا من الزنوج الغريبين، الذين اشتراهم المحافظ والتاجر الرئيس للعمل في جني المحاصيل، وحقول التبغ التي أقيمت حديثًا.
كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في القرن 15 قد منحت البرتغال احتكارًا للتجارة في غرب أفريقيا وإسبانيا، والحق في استعمار العالم الجديد في بحثها عن الأرض والذهب؛ وأقرت الدول الأوروبية أشكالًا جديدة من العبودية، التي استندت إلى العرق، وأدت إلى أكبر هجرة قسرية في العالم.
12.5 مليون رجل وامرأة وطفل من أصل أفريقي جرى تقييدهم بالسلاسل والأغلال، واقتيدوا للمتاجرة بهم رقيقًا عبر المحيط الأطلسي، في ظروف قاسية كانت تودي بحياة 15% منهم على متن السفن التي تشحنهم قبل وصولهم إلى اليابسة. فما هي قصتهم؟ وكيف ساهم بيع أجسادهم ومنتج عملهم في ازدهار العالم الأطلسي، بما في ذلك أمريكا الشمالية. وما هو الدور الذي لعبه القطن في رسم معالم تاريخهم؟
الزراعة وبداية العبودية في أمريكا الشمالية
في عام 1619، رست أول سفينة برتغالية تحمل معها شحنة من العبيد الأفارقة إلى مستعمرة جيمس تاون بولاية فرجينيا. وشكل هذا العام بداية العبودية في أمريكا مع استقدام العبيد؛ للمساعدة في زراعة التبغ، الذي كان السلعة الرئيسة التي ينتجها العبيد خلال الفترة الاستعمارية في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، ازداد عدد العبيد الذين استقدموا إلى العالم الجديد. وظل شبح العبودية مخيمًا خلال القرنين 17 و18، وكان العبيد جزءًا أساسيًا من النشاط الاقتصادي للمستعمرات.
لجأ المستعمرون الأمريكيون إلى العبيد الأفارقة كونهم قوة عاملة أرخص ثمنًا وأكثر وفرة من عمال السخرة من الفقراء البيض. وخلال القرنين 17 و18، تركزت العبودية في مزارع الأرز والتبغ على الساحل الجنوبي لأمريكا الشمالية. وعلى الجانب الآخر، بدأ بعض المستعمرين في الشمال حيث كان الاقتصاد مستقلًا بدرجة كبيرة عن العبيد ونشاطهم، يرفضون العبودية ويشبهونها بالطغيان البريطاني الذي عانت منه البلاد قبل الاستقلال عن التاج البريطاني.
نتيجة لذلك؛ لم تنتشر العبودية في الولايات الشمالية بالحجم الذي استشرت فيه في الجنوب. وفي عام 1804 مُنعت العبودية في تلك الولايات، ولكنها ظلت أساسية في الجنوب. لاحقًا جرّم الكونجرس تجارة العبيد الأفارقة، ولكن على النقيض أدى هذا إلى ازدهار التجارة الداخلية، وتضاعف عدد العبيد ثلاث مرات إلى أن بلغ نحو 4 مليون في عام 1860، يعيش أكثر من نصفهم في الولايات المنتجة للقطن.
في أواخر القرن 18، استُنهكت الأراضي المزروعة بالتبغ؛ ما وضع النشاط الاقتصادي ومعه العبودية على حافة الهاوية في الولايات الجنوبية. ولكن ازدهار الصناعات النسيجية في بريطانيا، وازدياد الطلب على القطن المزروع في الجنوب، كان بمثابة قارب النجاة الذي أنقذ الاقتصاد في تلك المنطقة من الانهيار.
كانت مزارع القطن أول نشاط تجاري كبير في تاريخ أمريكا، وأول «أخ كبير» كما في رواية «1984» لجورج أورويل، في مواقع العمل يتمثل في شخص المراقب، الذي يعهد له تتبع أداء كل عبد، والإبلاغ عن المقصر لينزل سيده عقوبة قاسية عليه. وكان العنف الوحشي المصير المنتظر لكل خطة ماكرة قد يفكر بها العبيد؛ إذ كان أصحاب المزارع يستخدمون مزيجًا من الترغيب والترهيب، وكان بعض العمال يفقدون وعيهم من شدة الضرب والألم.
القطن الملك.. إمبراطورية الذهب الأبيض
هذه قصة اختراع غيّر العالم، تصور وجود آلة يمكنها اختصار 10 ساعات عمل إلى ساعة واحدة. آلة بكفاءة عالية تسمح باختصار الوقت والمجهود، وتقليل عدد العاملين. ولكن الآلة التي سنتحدث عنها، فعلت عكس ذلك تمامًا. وكانت مجرد محرك لآلة اقتصادية عالمية، كانت العبودية وقودها.
الآلة هي محلج القطن، الذي اخترعه السيد إيلان ويتني بعد أن كانت عملية فصل البذور عن ألياف القطن عملية شاقة، وتستغرق كثير من الوقت. ومن خلال العمل اليدوي، كان يمكن للعبد الواحد تنظيف حوالي رطل من القطن في اليوم. ولكن الثورة الصناعية كانت قد بدأت، وكانت المصانع الكبرى في بريطانيا ونيو إنجلاند في حاجة ماسة للقطن لإنتاج القماش.
خطر لويتني فكرة اختراع المحلج، الذي كان موجودًا من قبل منذ قرون، ولكن بأعداد صغيرة وأشكال غير فعالة. وفي عام 1794، طور ويتني من المحلج وصدقه كبراءة اختراع له. وتكوّن اختراعه ذاك من آلة صغيرة بها عدة مخاريط، يمكنها فصل البذور من ألياف القطن آليًا، عن طريق إدارة ذراع التدوير.
باستخدام هذه الآلة، أصبح بإمكان العامل تنظيف ما بين 300 إلى ألف رطل من القطن يوميًا. وفي حين أنتجت أمريكا في عام 1790، ما يقرب من 3 آلاف حزمة من القطن، تزن الحزمة الواحدة منها نحو 500 رطل. فمع انتشار المحلج بحلول عام 1801، ارتفع إنتاج القطن إلى 100 ألف حزمة في العام. ومع اتجاه أمريكا للتوسع في مساحتها بشراء ولاية لويزيانا في عام 1803، وصل الإنتاج إلى 4 مليون حزمة؛ ليصبح القطن ملك المحاصيل وتتجاوز قيمته قيمة جميع المحاصيل الأمريكية الأخرى مجتمعة.
استحوذ القطن الملك على ثلاثة أخماس الإنتاج الاقتصادي الأمريكي، ولكن بدلًا عن أن يؤدي اختراع ويتني إلى تناقص الحاجة للعمالة، أدى إلى زيادة الطلب عليها، وازدادت أهمية العبودية. وبات الجميع يطلبون المزيد من العبيد لزراعة وحصد القطن، والذين ساهموا في بناء اقتصاد الولايات الجنوبية. كذلك، أدى الطلب على القطن في المصانع الإنجليزية، ومصانع الولايات الشمالية إلى إعادة رسم تاريخ العبودية.
في عام 1790، عندما أجري أول تعداد سكاني في أمريكا، كان عدد العبيد حينها قرابة 700 ألف عبد. ورغم منع المتاجرة في العبيد عام 1808، إلا أنه في عام 1810 تخطى عددهم حاجز المليون. وخلال الـ50 عامًا اللاحقة، وصل عدد العبيد إلى 4 مليون في عام 1860.
كانت صناعة القطن حاسمة للثورة الصناعية التي غيّرت العالم، حيث بدأت أولًا في بريطانيا العظمى، ثم انتشرت منها إلى أجزاء أخرى من العالم، بما فيها الولايات المتحدة. ولعبت العبودية دورًا مهمًّا في توفير المواد الخام الأساسية للإنتاج، وكان القطن المكون الأساسي لأهم عملية صناعية في العالم، نمت خيوطها لتصبح أعظم صناعة كانت أو يمكن أن توجد في أي عصر أو بلد على الإطلاق، وفقًا لتاجر القطن البريطاني جون بنجامين سميث. وبالنظر إلى الأعداد الهائلة المستخدمة من العمالة، وقيمة الإنتاج، والربحية، لم يكن لإمبراطورية القطن مثيل.
قسوة وحشية وحرية شكلية.. الحياة الاجتماعية للعبيد والسكان البيض
اجتماعيًا، كانت حياة العبيد معتمدة بالأساس على مالكيهم. وكان يجري تقسيمهم إلى طبقات اجتماعية، يتربع على رأسها العبيد العاملون بالمنازل أو الحرفيون المهرة، وأقلهم في الهرم الاجتماعي العبيد المزارعون في الحقول. وقد حالت هذه الهرمية دون اتحادهم، وأبقتهم منقسمين؛ ما أضعف فرصهم في النجاح بأي ثورة ضد مالكيهم. وكان المتمردون منهم يُعاقبون بقسوة شديدة.
وعن ذلك يقول المؤرخ إدوارد بابتيست أن الأمريكيين قبل الحرب الباردة «كانوا يعيشون في اقتصاد تروسه السفلى: التعذيب، والتنكيل». وقد وثّق أحد الشهود ما وقع أمامه ذات يوم في عام 1829 في إحدى مزارع ألاباما، حيث كان المراقب يعاقب النساء اللواتي ارتاب في تقاعسهن عن قطف المحصول بالزج برءوسهن في سلال القطن، ثم يشق عن ظهورهن وينهال عليهن ضربًا.
وقد ينسب البعض التوحش الكامن في العبودية إلى العنصرية البلهاء، لكن الواقع كان غير ذلك. لم يكن العنف تعسفيًا ولا تطوعيًا، وإنما كان له منطق، وكان رأسماليًا، وكان يشكل جزءًا أساسيًا من تصميم منظومة مزارع القطن في ذلك الوقت. وكتب العبد السابق هنري واتسون في عام 1848 عن ذلك قائلًا: «كان لكل فرد عدد محدد من الأرطال التي ينبغي عليه قطفها من القطن، وكان كل من ينقص عما حدد له يعوض جلدًا بالسياط التي تلسع ظهر العبد المسكين».
ونظرًا لأن المراقبين كانوا يرصدون بدقة قدرات كل عبد على القطف، كانوا يحددون لكل منهم حصته الخاصة، وإذا قصر في قطف الحصة المخصصة له؛ فغالبا ما يكون مصيره الجلد. وفي الوقت نفسه، قد يسبب له نجاحه في قطف أكثر مما خصص له مزيدًا من الشقاء في اليوم التالي؛ لأن السيد المالك قد يقرر بناءً على ذلك رفع حصته من القطاف.
وكلما زادت الأرباح تفاقمت معاناة العبيد، وكانت العقوبات تزيد أو تنقص بناءً على ما يطرأ على السوق العالمية من تقلبات. يذكر العبد الآبق جون براون فيما كتبه في عام 1854 أنه «عندما كان السعر في السوق الإنجليزية يرتفع، كان العبيد البؤساء يشعرون مباشرة بأثر ذلك عليهم؛ إذ يزداد عليهم الضغط لإنتاج المزيد، وحينها لا يكاد السوط يتوقف عن لسع الظهور».
أما عن العمال البيض، كانت العبودية تضيف لهم ما أطلق عليه دبليو إي بي دوبوا «مكافأة شعبية ونفسية»، تسمح لهم بالتجول بحرية مطلقة، والإحساس بالتميز. ولكن حتى هذا الأمر كان يخدم مصلحة المال؛ إذ كان أرباب العمل يجدون أمامهم وفرًا من العمالة التي تتكون من العبيد والأحرار. وبذلك تسببت العبودية في انخفاض أجور العاملين.
نجم عن ذلك انعدام المساواة وزرع الشقاق بين العمال، فضلًا عن هذا كان «كل ما عدا الرق يبدو حرية»، كما كتب المؤرخ الاقتصادي ستانلي إنجرمان. وشعر البيض بسبب ما شاهدوه من فظاعات ترتكب بحق العبيد، أنهم أفضل حالًا؛ فكانوا يقبلون عمومًا بأوضاعهم، وباتت الحرية الأمريكية تعرف بشكل عام على أنها كل ما ناقض العبودية. وكانت «نمطًا من الحرية الشكلية، الذي يبقيك خارج الأغلال، ولكن لا يوفر لك لا الخبز والمأوى».
حركات مناهضة تثور وحرب أهلية على الأبواب
في تلك الأثناء، ظهرت بعض المحاولات الثائرة التي سرعان ما كانت تنتهي بالفشل. ومن أشهر هذه الثورات، ثورة نات ترنر في عام 1831 بولاية فرجينيا حيث قَتل حوالي 75 عبدًا بقيادة ترنر 60 مستمعرًا أبيضًا خلال يومين. ولكن المقاومة المسلحة للبيض وتدخل ميليشيات الولاية أخمد هذه الثورة، التي رأى فيها مؤيدو العبودية دليلًا على همجية ذوي البشرة السوداء، وأن العبودية هي الوسيلة الوحيدة لتنظيمهم.
أدت هذه الثورة إلى تشديد الأحكام والقوانين المتعلقة بالعبيد في الولايات الجنوبية، بما يحد من قدرتهم على التعلم، والتنقل، والاجتماع. بينما ازداد دعم الولايات الشمالية لفكرة تحرير العبيد، وازدادت معه الحساسية بين الشمال والجنوب.
وبين ثلاثينات وستينات القرن 19 نمت حركة «إلغاء (Abolition)» المناهضة للعبودية، والتي قادها بعض الأفارقة الأحرار، مثل فريدريك دوجلاس، والمؤيدين لهم مثل وليام جاريسون. وبدأ هؤلاء بمساعدة العبيد على الهروب من الجنوب إلى الشمال، وتأمين مساكن لهم. وأدت هذه الحركة إلى تحرير ما بين 40 إلى 100 ألف عبد.
وبالرغم من كون أكثر من نصف صادرات البلاد في العقود الستة الأولى من القرن 19 من القطن الخام، المزروع كله تقريبًا بأيدي العبيد، كانت هناك مصالح تجارية قوية عملت بجد ضد العبودية، مثل الإخوان تابان في نيويورك، التُّجار الذين وحّدوا أعمالهم مع النضال المناهض للعبودية. وكان هناك أيضًا روّاد أعمال رفضوا معالجة القطن الذي يزرعه الرقيق.
على الجانب الآخر، أدى التوسع نحو غرب القارة الأمريكية الشمالية، إلى احتدام الصراع حول شرعية العبودية في الأراضي الجديدة بين المعسكرين الشمالي المناهض والجنوبي المؤيد. وظهرت بعض محاولات التسوية لإنهاء النزاعات، مثل «تسوية ميسوري» عام 1820. ولكنها لم تنهَ النزاع، وظهر مقترح جديد في عام 1854، عُرف بقانون «كانساس نبراسكا»، والذي نص على حرية سكان الولايات المتحدة في اختيار مستقبل العبودية في تلك الولايات. ولكن مع الأسف أدى هذا القانون إلى سلسلة من النزاعات الدموية، التي عرفت بـ«كانساس النازفة».
وأدت هذه الأحداث بالنهاية إلى حرب أهلية بين الشمال والجنوب، استمرت بين عامي 1861 و1865، وانتهت بفوز الشمال الأمريكي المناهض للعبودية. وبعد انتهاء الحرب، اعترف الدستور بمؤسسة العبودية واعتبر العبد ثلاثة أخماس الفرد الحر في مسائل الضرائب والتمثيل البرلماني. وظلت قضية العبودية تلقي بظلالها في التاريخ الأمريكي، من مرحلة إعادة الإعمار (1865-1877) وحتى حركات الحقوق المدنية 1960.
ومن منظور عالمي، لم يكن اندلاع الحرب صراعًا على وحدة الأراضي الأمريكية ومستقبل مؤسستها الخاصة فقط، بل أيضًا حول اعتماد الرأسمالية العالمية على عمل العبيد في جميع أنحاء العالم. وكانت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة بمثابة اختبار حاسم للنظام الصناعي بأكمله.
علامات
أفريقيا, اقتصاد, التبغ, الحرب الأهلية الأمريكية, العبودية, العبيد, القطن, الولايات المتحدة, بريطانيا