تمكنت الكثير من دول العالم خلال فصل الصيف 2021، من رفع كامل تدابير الإغلاقات التي اتخذتها الحكومات، خصوصًا مع توافر لقاحات كورونا وانتشار عمليات التطعيم بشكل واسع، وهو ما منح العالم قدرًا لا بأس به من التفاؤل. لكن مع ظهور بعض المتحورات من الفيروس مثل متحور «دلتا»، أصاب العالم بعض القلق من عودة انتشار الفيروس، خصوصًا وأن بعض الدول عادت لأخذ بعض الاحتياطات.
وسط كل هذا، بالتأكيد يدور سؤال كبير في أذهان الناس: ماذا عن الشتاء القادم؟ هل سنشهد حالات إغلاق وتدابير قوية مرة أخرى مثلما حدث في الشتاء الماضي؟ أم أن انتشار اللقاحات سيمنحنا إلى حد ما فصل شتاء طبيعي؟
يتفق العديد من خبراء الأمراض المعدية وعلم الأوبئة على أن شتاء 2022، سيشهد طفرة في انتشار حالات كورونا بين الناس، لكنهم في المقابل، يختلفون حول مدى ما قد يستدعيه الأمر من اتخاذ إجراءات قوية من قبل الحكومات مرة أخرى.
فبعد تخفيف القيود في صيف عام 2020، أعيد تطبيق التدابير الاحترازية والإغلاق الشامل في كثير من الدول في الشتاء التالي. لذا فإن السؤال الطبيعي الآن هو، هل سيكون الشتاء القادم مختلفًا؟
موسمية الفيروس.. زيادة كبيرة متوقعة في أعداد الإصابات
أحد الأبحاث الأمريكية المنشورة في شهر مارس (آذار) 2021، توقعت أننا بصدد الذهاب إلى موجة زيادة أخرى في معدل انتشار كورونا. فخبراء معهد القياسات الصحية والتقييم في جامعة واشنطن الأمريكية لا يزالون متمسكين بهذا التوجه، على الرغم من الزيادة السريعة في اللقاحات بالولايات المتحدة وفي دول عديدة حول العالم.
واستند الخبراء في هذا الطرح بشكل جزئي على ما يرونه «موسمية فيروس كورونا» مثل فيروس الإنفلونزا الموسمية التي يزداد الإصابة بها بشكل كبير خلال الشتاء. فبينما سيستمر انخفاض حالات الإصابة والوفيات خلال الصيف، فإن معدل الإصابة سيرتفع مرة أخرى في الخريف، وقد يرتفع بشكل كبير بحلول الشتاء، على حسب تقديراتهم.
أما عن مستوى الوفيات، فإن عدد الوفيات الناجمة عن انتشار فيروس كورونا سيعتمد بشكل أساسي على عاملين: العامل الأول هو مستوى التطعيمات التي سيصل إليها العالم بحلول ذلك الوقت. والعامل الثاني هو انتشار المتحورات الجديدة مع دخول فصل الشتاء.
وجدير بالذكر أن هناك زيادة في عدد الإصابات بكورونا منذ بداية شهر سبتمبر (أيلول) 2021، بمتوسط 600 ألف حالة يومية حول العالم، مقارنةً بـ260 ألف حالة يومية في بداية سبتمبر 2020! كذلك هناك زيادة في معدل الوفيات، التي زادت من متوسط 9 آلاف حالة يومية بداية سبتمبر 2021، بعدما كانت قرابة 6 آلاف حالة يومية في المتوسط في سبتمبر 2020. وهذه الأرقام ربما تؤشر إلى احتمالية زيادة الحالات في الشتاء القادم أكثر أو أن تصبح مساوية للشتاء الماضي على الأقل، وهو ما يستلزم الكثير من الانتباه.
التلقيح طوق نجاة الكوكب لكسر الدائرة المغلقة!
بالنسبة لأي دولة على حدة، فمنع عودة انتشار كورونا بشكل وبائي، يحتاج إلى تطعيم 80 – 85% من السكان بحلول نهاية العام. والأمر ذاته ينطبق على وقف انتشار العدوى بشكل وبائي في جميع أنحاء العالم، إذ سنحتاج إلى تطعيم النسبة نفسها من سكان العالم.
وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، هناك أربع دول فقط تمكنت من تخطي حاجز الـ 80% في عملية التلقيح، وهي: جبل طارق (99%) ومالطا (83%) والإمارات (80%) والبرتغال (80%). أما بالنسبة للعالم، فإنه جرى تلقيح ما نسبته 30.4% فقط من إجمالي سكان العالم بشكل كامل!
لذلك حتى في أفضل السيناريوهات لدينا، فربما نصل إلى 50% أو 60% فقط من إجمالي سكان العالم، وهو ما يجعل الوصول إلى النسبة المطلوبة قبل الشتاء أمرًا مستبعدًا. ربما تكون بعض دول أوروبا على الطريق الصحيح، لكن هناك دول أوروبية عدة لم تتجاوز فيها نسبة التلقيح 70% من السكان مثل بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وغيرها، مما يجعل الأمور في القارة الأوروبية على المحك. الأمر ذاته ينطبق على الولايات المتحدة التي وصلت إلى 55% فقط حتى الآن.
أما في الدول العربية، فإذا استبعدنا الإمارات وقطر والبحرين وإلى حد ما السعودية (49% من السكان جرى تلقيحه)، والمغرب (45%)، فإن غالبية الدول العربية متراجعة بشدة في معدلات التطعيم بشكل يجعلها مهددة لموجة كبيرة من انتشار الفيروس. فمصر والعراق لم تلقح سوى 5% من السكان، والجزائر 10%، وسوريا لم تصل إلى 1.5%.
أضف إلى هذا أنه بسبب ضعف المناعة التي يقدمها اللقاح (لا تدوم المناعة إلا لأشهر أو أقل من عام)، من المحتمل أن يحتاج الأشخاص الذين تلقوا التطعيم بين ديسمبر (كانون الأول) وفبراير (شباط) 2021 إلى جرعة معززة قبل الشتاء، وهو ما اتبعته بعض الدول لكن لا تزال النسب منخفضة كثيرًا.
تشعر كما لو أننا نجري طوال الوقت وراء الفيروس، والطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها أن نسبقه هي عبر القضاء عليه، والطريقة الوحيدة للقضاء عليه هي التلقيح بنسبة 85% للبشر في أقرب وقت ممكن، وطالما لم يتحقق هذا سنستمر في هذه الدائرة.
لكن العودة للإغلاقات الشاملة مستبعدة
يرى خبراء آخرون أن عمليات التلقيح الحالية، يمكنها أن توقف الكثير من خطورة الفيروس وانتشاره بحلول الشتاء القادم. فانخفاض عدد الحالات المصابة تدريجيًا هذا الصيف حول العالم، يؤشر إلى أن عودة انتشار الفيروس في الشتاء ربما لن تكون بقوة الشتاء الماضي نفسها.
ففي بريطانيا على سبيل المثال، يعتمد الخبراء على عامل مهم وهو عدد الحالات التي تحتاج إلى دخول المستشفى، لأن عمليات الإغلاق التي تتخذها الحكومات تأتي بهدف أساسي هو تقليل الضغط على المنظومة الصحية حتى لا تنهار. هنا ينظر إلى الفئات العمرية التي تحتاج إلى المستشفى، وهي فئة كبار السن.
في بريطانيا، هناك انخفاض بمعدل يقارب النصف في عدد الأشخاص المصابين فوق سن السبعين عامًا خلال شهر أغسطس (آب) مقارنةً بالشتاء الماضي. وفي المقابل، هناك زيادة في نسبة الشباب تحت سن 24 عامًا، وهي الفئة الأقل خطورة ولا تحتاج في الغالب لدخول المستشفى.
السبب في هذا يعود بشكل أساسي إلى تلقي اللقاحات، وبالتالي قلّ الضغط على المنظومة الصحية بشكل كبير، وهو ما يجعل عودة الإغلاقات الشاملة أمرًا مستبعدًا في بريطانيا وغالبية الدول التي تمكنت من تلقيح نسبة جيدة من سكانها، وخصوصًا كبار السن.
بعض التدابير لا يمكن الاستغناء عنها
وبالتالي، فإن نظرة على نسبة الإشغالات في المستشفيات حاليًا ربما تعطي مؤشرًا جيدًا على ما سيكون عليه الوضع في الشتاء القادم. على سبيل المثال، نعود إلى بريطانيا التي كان عدد المرضى في المستشفى عندما أعلن عن إغلاق نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 قرابة 10 آلاف مريض. حاليًا، يزيد عدد المرضى في المستشفى عن 6 آلاف مريض. هذا يعني أن بريطانيا وصلت حاليًا إلى 60% من الطريق نحو الإغلاق الشامل.
وبالتالي فإن اتخاذ ما يلزم من تدابير وقيود جزئية لتحجيم الأمور وعدم خروج الوضع عن السيطرة والوصول إلى الرقم نفسه (10 آلاف مريض) يعني أن بريطانيا لن تذهب إلى حالة الإغلاق الشامل. هنا تظهر أهمية التلقيحات، فبريطانيا التي لقحت أكثر من 66% من سكانها بشكل كامل، سينخفض فيها الحاجة إلى دخول المستشفيات، لأن التلقيحات تمنع أو على الأقل تقلل الأعراض الشديدة للمرض.
ويتوقع البعض أنه، حتى لو شهدنا زيادة كبيرة هذا الشتاء، فلن نشهد ارتفاعًا كبيرًا في حالات دخول المستشفى أو الوفيات كما رأينا في الشتاء الماضي. وسيظل ارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي هو الهدف الأساسي لأي إجراءات جديدة، لأن كلا الأمرين يعد عاملًا حاسمًا نحو خفض معدل الإصابات.
والخوف الأكبر من المتحورات الجديدة
الشيء الأخير المتبقي هنا هو أمر في علم الغيب، كما نقول، فالمتحورات التي يمكن أن تظهر نتيجة انتشار فيروس كورونا في مناطق واسعة من العالم دون جهود كافية لتقديم اللقاحات، خصوصًا في دول العالم النامي، التي تشهد بطئًا شديدًا في تقديم التطعيم للسكان، هو أعظم ما تخشاه الدول المتقدمة التي تلقى جزء كبير من سكانها التلقيح.
فاستمرار انتشار الفيروس في مناطق عديدة حول العالم يمكن أن يشكل المزيد من المتحورات التي ستنتقل إلى هذه الدول من جديد خصوصًا مع تقليل إجراءات الحظر وقيود السفر بين الدول، ما يمكن أن يعيدنا إلى وضع مشابه أو أسوأ من انتشار متحور «دلتا» في الهند.