في عام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب الأكثر دموية في التاريخ الحديث، التي حصدت في ست سنوات فقط (1939-1945)، أرواح 60 مليون مدني وعسكري في عشرات الدول في العالم، والواقع أنه في تلك الحرب الأكثر أهمية في القرن العشرين، كانت هناك قرارات مصيرية أثرت فيها معلومات زائفة، بما يتضمن بدء الحرب، ودخول أمريكا فيها، والمساعدة في هزيمة النازيين.
الحرب تبدأ بعد هجوم مُزيف
كان من المعلوم رغبة ألمانيا النازية في التوسع واجتياح دول شرق أوروبا، وبدأت ألمانيا هجومها الفعلي على بولندا في الأول من سبتمبر (أيلول) 1939، لتندلع شرارة الحرب العالمية الثانية، ولكن في اليوم السابق للهجوم الألماني، تحديدًا يوم 31 أغسطس (آب) 1939، وقع هجوم في مدينة جليوتيز (حاليًا جليفيتش) الحدودية، حينما هاجم «البولنديون» محطة راديو ألمانية، بل وبثوا دعاية مضادة للنازية.
انتفض الفوهرر أدولف هتلر وأعلن الحرب في اليوم التالي قائلًا في خطاب للشعب: «تم تسجيل أمس 14 انتهاكًا إضافيًا للحدود، لذلك فقد عقدت العزم على التحدث إلى بولندا، باللغة نفسها التي استخدمتها بولندا تجاهنا في الأشهر الماضية». ليبدأ الهجوم النازي على بولندا التي قاومت النازيين حتى سقطت في أيدي هتلر في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1939.
الزعيم النازي أدولف هتلر
الهجوم المزعوم لم يكن في الواقع كما أظهره النازيون لتبرير اجتياح بولندا، وبدء الحرب العالمية الثانية، وإنما كان مفبركًا، ومنفذوه لم يكونوا بولنديين وإنما ألمان نازيون أرادوا أن يظهروا أن هجومهم على بولندا كان ردة فعل لـ«لانتهاكات البولندية»، ففبركوا عملية عسكرية كانت استفزازية، ووفرت أرضية شعبية تبرر الاجتياح النازي للأراضي البولندية.
ففي اليوم السابق لاجتياح بولندا، قاد ألفريد نوجوكس فرقة من القوات النازية الخاصة التي تُعرف بـ«إس إس» إلى المحطة الألمانية لفبركة العملية، وإظهار أن البولنديين هم من نفذوها لتبرير الهجوم النازي المرتقب، وفي اليوم التالي انطلقت آلة الدعاية النازية السياسية بوتيرة سريعة للتمهيد للاجتياح النازي، وساعدها على ذلك صحافيين مُختارين أرسلتهم ألمانيا ليلتقطوا صورًا من موقع الحادث، نشرت في الصحف، وعُرضت في نشرات الأخبار؛ لإظهار مبرر منطقي للحرب.
من قال إن العملية كانت مفبركة ليست دول الحلفاء، وإنما نوجوكس نفسه قائد العملية الذي اعترف في تحقيقات أجراها الحلفاء عقب الحرب للنازيين بعد سقوط هتلر، ومن نشر تلك الشهادة ليس موقعًا بريطانيًا وإنما موقعًا ألمانيًا يحمل اسم «thelocal.de» نشر تلك الشهادة وسط مجموعة من التقارير التي أرّخت للحرب العالمية الثانية، في الذكرى السنوية الثمانين لانطلاقها.
«خريطة مفبركة» أقنعت الأمريكيين بدخول الحرب
في بداية الحرب العالمية الثانية كان الصراع أوروبيا في المقام الأول، بين ألمانيا وإيطاليا في قيادة دول المحور، وبريطانيا وفرنسا في قيادة دول الحلفاء، ولم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية الحرب من بدايتها، تطبيقًا لمبدأ الحياد أو مبدأ «مونرو»، ذلك المبدأ الذي أطلقه جيمس مونرو الرئيس الخامس للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1823، ونص على التزام الولايات المتحدة الحياد وعدم التدخل في المشاكل الأوروبية، ما لم تمد الدول الأوروبية أوروبا تطلعاتها الاستعمارية نحو أمريكا، ومع قوة النازيين فكرت بريطانيا في جر ذلك الحليف القوي إلى جانبها في الحرب العالمية الثانية، عسى أن يقلب الكافة في صالح دول الحلفاء.
ولكن لم يبد الأمر محبذًا لدى الأمريكيين، فمع بداية الحرب العالمية الثانية لم تكن نسبة الراغبين في دخول الولايات المتحدة للحرب سوى 7% من الشعب الأمريكي عام 1940، ولكن هذه النسبة تبدّلت في أقل من عامين لتتعدى 10 أضعافها بعدما قفزت إلى 72% عام 1941، قبل هجوم اليابانيين على الأسطول الأمريكي في ميناء بيرل هاربر في ديسمبر (كانون الأول) 1941 الذي أعلنت الولايات المتحدة بعده دخول الحرب رسميًا بجانب الحلفاء ضد دول المحور.
بطل ذلك التحول هو ويليام ستيفنسون ذلك العميل الكندي، الذي وظّفته المخابرات البريطانية لجر الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية بأي وسيلة ممكنة، ولكي تبتعد الولايات المتحدة عن حيادها الظاهر وتنحاز بريطانيا ودول الحلفاء، كان لا بد من خطر على أمريكا يُقنع الأمريكيين شعبًا وقيادةً لدخول تلك الحرب.
مع تسرب شائعات بأن ألمانيا النازية تصب أنظارها نحو أمريكا الجنوبية والوسطى، أراد ستيفنسون إضفاء بعض الواقعية لتلك الشائعات إلى الإدارة الأمريكية، وهنا فكّر ستيفنسون وفريقه في فكرة مبتكرة، تتمثل في عمل خريطة تكشف تطلعات النازيين نحو أمريكا الجنوبية وإعادة تشكيلها، واستعانوا بذلك بطبيعة هتلر في التفكير، ليرسموا خريطة لأمريكا الجنوبية كما يريدها هتلر تتضمن: مستعمرة ألمانية، وأربع بلدان تابعة لألمانيا تُغطي القارة بأكملها.
«في حوزتي خريطة سرية أعدتها حكومة هتلر. إنها خريطة لأمريكا الجنوبية وجزء من أمريكا الوسطى، تتشكل كما يريدها هتلر»
بهذه الكلمات فاجأ الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في اجتماع رفيع المستوى مع قياداته في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 1941، إذ وصلت الخريطة لأيدي الرئيس روزفلت، من خلال ستيفنسون الذي أحكم فبركته للخريطة، لدرجة استخدم فيها الأحبار النازية لدرجة أقنعت إدارة امريكا بصحتها، أو على الأقل تلاقت مع رغبات الإدارة الأمريكية في إيجاد مبرر لدعم بريطانيا ضد النازيين.
الرئيس الأمريكي في الحرب فرانكلين روزفلت
تسريب الخريطة المفبركة وإن مثّل أحد أبرز إسهامات ستيفنسون في إقناع الولايات المتحدة بالدخول إلى الحرب، فإنها لم تكن الوحيدة وكانت جزءًا من جهود دعائية مخابراتية حشدت الرغبات الأمريكية للدخول للحرب، فحتى لا تجازف الولايات المتحدة بالدخول في حرب مع طرف قد يبدو ضعيفًا أمام النازيين، سرّب ستيفنسون وفريقه أخبارًا تظهر صمود البريطانيين وقوة عزمهم.
وفي يونيو (حزيران) 1941 ، نشرت الصحف الأمريكية والوكالات العالمية غارة ناجحة وجريئة للمظلات البريطانية داخل ألمانيا وأسرت بموجبها بريطانيا 40 طيارًا من النازيين، وفي الواقع لم يكن لتلك الغارة أساس من الصحة، وإنما كانت من صنع المخابرات البريطانية، وقد اخترعها أحد عملاء ستيفنسون لوكالة أنباء حسنة السمعة تحمل اسم «Overseas News Agency»، وساعد ستيفنسون بدوره وقوة علاقاته بوسائل الإعلام الأمريكية على زيادة نشر تلك القصة المفبركة، التي ساعدت الأمريكيين في رؤية العزيمة البريطانية في مواجهة النازيين، من ضمن جهود دعائية أقنعت الأمريكيين بالدخول إلى الحرب العالمية الثانية.
هتلر يستعد في بادي كاليه مع أن الإنزال في نورماندي!
بعد السيطرة على بولندا، واصلت ألمانيا النازية تقدمها في القارة العجوز، وتمكّنت من احتلال معظم أوروبا والسيطرة على فرنسا، ومن هنا عزمت دول الحلفاء على إعادة السيطرة على أوروبا، وإلحاق الهزيمة بالنازيين. في الساعة 6:30 صباحًا بتوقيت جرينتش يوم السادس من يونيو (حزيران) 1944؛ نظمت دول الحلفاء «أكبر اجتياح بحري في التاريخ» خلال ما يُعرف بـ«إنزال نورماندي»، حين هبط 160 ألف جندي من قوات الحلفاء على ساحل نورماندي في فرنسا.
ونجح الهجوم؛ فمع نهاية اليوم تمكن الحلفاء من السيطرة على خمسة شواطئ، وبعد ذلك احتاجوا لتعزيزات لتدعم هجومهم، لتأتيهم أكبر تعزيزات شهدتها الحرب، شملت: 3 مليون جندي، و2500 سفينة إنزال، و1200 سفينة حربية، و13 ألف طائرة حربية، ودبابات برية وبرمائية، قصفت الجسور وسكك الحديد لمنع تدعيم النازيين.
لم تتفاجأ ألمانيا بحدوث الهجوم في حد ذاته؛ لأن عميلها خوان بويول جارسيا الملقب بـ«جاربو» قد سرّب للألمان استعداد الحلفاء لهجوم ضد ألمانيا، ولكنه في الوقت ذاته أقنعهم بأن مقر الإنزال والهجوم للحلفاء سيكون في ساحل بادي كاليه، وليس نورماندي.
وللتأكد أكثر من رسائل جاربو؛ بعثت ألمانيا بطائرات استطلاع بالقرب من بادي كاليه ووجدت بالفعل عتادًا واستعدادات من دول الحلفاء. ولكن الخدعة كانت محبوكة لدرجة أن تلك الاستعدادات كانت في الحقيقة وهمية. فالسفن والدبابات كانت زائفة ومصنوعة من الخشب المعاكس، وكذلك الطائرات لم تكن حقيقية، وإنما طائرة دُمية، على مطارات ومرافئ وهمية.
وينستون تشرشل رئيس وزراء في الحرب
وفي 9 يونيو 1944، بعث جاربو رسالة مطولة بعد اجتماع وهمي لوكلائه طالب بوصولها إلى القيادة العُليا لألمانيا، تُفيد بأن الجنرال الأمريكي جورج باتون، المشهور بأنه واحد من أفضل قادة دبابات الحلفاء؛ يقود 11 فرقة تتكون من 150 ألف رجل، تستعد للهجوم الحقيقي في بادي كاليه.
لكن في الواقع كل هذه المعلومات كانت وهمية، ولكنها أقنعت ألمانيا لدرجة أن النازيين احتفظوا بفرقتين مدرعتين و19 فرقة مشاة في بادي كاليه في شهري يوليو (تموز)، وأغسطس تحسبًا لحرب كانت «وهميّة»، شغلت ألمانيا عن المعركة الحقيقية التي خسرتها في نورماندي، والتي فتحت الطريق أمام انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
الاهتمام الألماني بالمعركة الوهمية المرتقبة كان مترسخًا، لدرجة أن المارشال النازي جيرد فون روندستدت، ألغى اقتراحًا مقدمًا من الجنرال إروين روميل بأن تنتقل قوات ألمانية من بادي كالي لمساعدة الدفاع في نورماندي، بحسب ما نُشر في الموقع الرسمي للمخابرات البريطانية الداخلية «MI5»، الذي لفت إلى أن المخابرات البريطانية ترى أن انتقال قوات ألمانية من بادي كاليه إلى نورماندي «كان من الممكن فعليًّا أن يقلب التوازن»، في نورماندي.
وهو ما لم يحدث بناءً على معلومات زائفة قدمها جاربو للألمان، جاربو الذي كرّمه الفوهرر بنفسه في نهاية يوليو 1944 بمنحه وسام الصليب الحديدي؛ بسبب «خدماته الاستثنائية» التي قدمها إلى ألمانيا، ليرُد جاربو بالإعراب عن «شكره المتواضع على هذا الشرف الذي لا يستحقه»، وهو بالفعل لا يستحقه من النازيين، لأنه لم يكن في الواقع عميلًا خالصًا لألمانيا، بل كان عميلًا مزدوجًا، واستخدمه الحلفاء في تضليل الألمان في أحد أهم المعارك الفاصلة في الحرب العالمية الثانية.
علامات
أخبار زائفة, أمريكا, الحرب العالمية الثانية, الحلفاء, النازي, بريطانيا, معلومات زائفة, هتلر, ويليام ستيفنسون