«يعد الهيدروجين الأخضر الحل الأمثل للبشرية لتقليل أثر التلوث الصناعي والتقدم الذي يهدد حياتنا على كوكب الأرض، لكن في الواقع ما زال الطريق طويلًا، ويحتاج للكثير من الدراسة والعمل والمال أيضًا؛ إذ يُقدَّر حجم استثمارات الدول في الهيدروجين الأخضر حول العالم بـ12 تريليون دولار بحلول عام 2050» .
يحتاج أي كائن حي إلى مصدر للطاقة كي يقوى على الحياة، ويستطيع الاستمرار، الأمر الذي أدركه الإنسان منذ بداية الخلق. وتتمثل الطاقة بالنسبة لنا نحن البشر في الغذاء، ومع تطور الحياة أدرك الإنسان حاجاته إلى مصادر طاقة تمكنه من مجابهة الطبيعة والنجاح في محاولة التأقلم وبناء الحضارات، فاكتشف النار وماكينات البخار والوقود الأحفوري، الذي أدخلنا في الثورة الصناعية الكبرى التي غيَّرت شكل العالم ونمط حياة الإنسان إلى الأبد، لكنها على جانبٍ آخر تركتنا نعاني في كوكبٍ يتدهور يومًا بعد يومٍ؛ نتيجة عملية التلوث البيئي بسبب انبعاثات الكربون التي تهدد الحياة على كوكب الأرض والتي تظهر بشدة في ظاهرة التغيُّر المناخي.
لكن هل يمكننا بناء العالم الحديث الصناعي دون أن ندمر الكوكب وأنفسنا؟ الإجابة بسيطة – لكنها أيضًا صعبة التنفيذ – «الاعتماد على مصادر طاقة متجددة صديقة للبيئة» . استخدم الإنسان بعضًا منها، وما زال البحث مستمرًا عن الطاقة المناسبة التي تضمن الحياة المثالية دون تهديد حياة كوكبنا العزيز حتى وصلنا الوافد الجديد في مستقبل الطاقة: «الهيدروجين الأخضر» الذي سنتعرف إليه سويًّا.
صديق البيئة.. هل الهيدروجين الأخضر منقذ الكوكب؟
يعرف العالم الهيدروجين المصنع منذ القرن السادس عشر، وجرى استخدامه وقودًا بديلًا في القرن التاسع عشر، ولكن تكلفة إنتاجه كانت باهظة إلى جانب احتوائه على نسب من الكربون، التي تلوث الهواء، حتى وإن كانت أقل من نسب الانبعاثات الكربونية في الوقود الأحفوري، لكنه يبقى ضارًّا أيضًا للبيئة، ويعرف الوقود المستخرج من الهيدروجين بمادتي الهيدروجين الأزرق والهيدروجين الرمادي، ويُستخدم في الوقت الحالي حول العالم، بوصفه وقودًا أقل ضررًا للبيئة.
توضيح مدخلات ومخرجات التحليل الكهربائي للماء لإنتاج الهيدروجين وعدم وجود غازات الاحتباس الحراري – مصدر الصورة ويكيبديا
بعد فشل خطط إحلال الطاقة المتجددة في العالم، ظهر الهيدروجين الأخضر بوصفه وقودًا بديلًا صديقًا للبيئة للمرة الأولى عام 2018، حين أطلقت فرنسا أولى خططها للهيدروجين الأخضر، بعدها اجتمع وزراء الطاقة من كل دول العالم وخاصةً الاتحاد الأوروبي وخرج للعالم «إعلان الهيدروجين» والذي ينص على أن الهيدروجين الأخضر، سيصبح وقود المستقبل وصديقًا للبيئة.
روجت شركات وخبراء الطاقة للهيدروجين الأخضر على أنه المستقبل الواعد للوقود، وبدأت دول كثيرة في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، في وضع إستراتيجيات جديدة للطاقة في الحسبان، تعتمد بالأساس على الهيدروجين الأخضر مصدرًا للطاقة والوقود معتبرين إياه طوق نجاة البشر على كوكب الأرض، والطريقة الوحيدة لمنع تلوث البيئة.
ويعود ذلك الاعتقاد إلى كون الهيدروجين الأخضر هو الوقود الوحيد في العالم الذي لا يحتوي على أي نسبة من الكربون، الذي يشكل في المجال الصناعي نسبة 21% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم دون احتساب نسبته في وسائل النقل والتدفئة.
لذلك يعد الهيدروجين الأخضر الحل الأمثل للبشرية لتقليل أثر التلوث الصناعي، والتقدم الذي يهدد حياتنا على كوكب الأرض، لكن في الواقع ما زال الطريق طويلًا، ويحتاج للكثير من الدراسة والعمل والمال أيضًا؛ إذ يقدر حجم استثمارات الدول في الهيدروجين الأخضر حول العالم بـ12 تريليون دولار بحلول عام 2050.
ومن هنا تتجه الدول لتمهيد الطريق أمام الهيدروجين الأخضر بوصفه وقودًا حتميًّا لنجاة الأرض، عبر فرض رسوم كبيرة جدًّا وعقوبات صارمة على مصادر الوقود الأحفوري وعلى الشركات والمصانع التي تستخدمه مصدرًا للطاقة في محاولة لتقليل استهلاكه، وفتح الطريق أمام الهيدروجين الأخضر، وكانت ألمانيا من أولى الدول في اتباع تلك الإستراتيجية، والتي تهدف إلى تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى المعدل صفر بحلول عام 2050.
لكن.. كيف يُنتج الهيدروجين الأخضر؟ وما استخداماته؟
الهيدروجين هو العنصر الأكثر وجودًا على كوكب الأرض، لكن لا يوجد عنصر الهيدروجين في حالة منفصلة في الطبيعة، لذلك يحتاج استخراجه إلى عملية فصل تصنيعي. وفي حالة الهيدروجين الأخضر يجري إنتاجه من خلال فصل المياه وتحليلها.
وتتم عملية الإنتاج بواسطة معدات تعمل بالكهرباء المولدة من مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والشمس؛ فتحلل الآلات ذرات الماء إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين، ويشير وصف «الأخضر» إلي عدم وجود أي نواتج ثانوية أو انبعاثات كربونية؛ مما يجعله مادةً خضراء صديقةً للبيئة، يتولد عن عملية حرقه بخار الماء فقط.
تنوي الدول المنتجة استخدام الهيدروجين الأخضر في كافة المجالات وجعله الوقود المستقبلي والبديل عن أي وقود آخر، وبذلك سيستخدم في كافة الصناعات الثقيلة ويستخدم وقودًا لوسائل النقل والمواصلات، ووقودًا للتدفئة وغيرها من الأشياء التي تحتاج لمصدر طاقة، إلى جانب إمكانية إعادة استخدامه لتوليد الكهرباء مرة أخرى.
هل تصبح الدول الأفريقية والعربية «مصنع» الهيدروجين الأخضر؟
بدأ العمل على الهيدروجين الأخضر في القارة الأوروبية، لكن مميزات الوقود الجديد أغرت كل دول العالم لمحاولة استغلال تلك الطاقة النظيفة والاستفادة منها، ومن بينها دول في الشرق الأوسط وأفريقيا بالشراكة مع شركات الطاقة الغربية.
انقسمت الدول فيما بينها بين دول تضع إستراتيجيات لاستخدام الهيدروجين الأخضر مصدرًا للطاقة، ودولٍ أخرى تسعى لأن تصبح مركزًا إستراتيجيًّا لانتاج وتصدير الوقود الجديد للعالم خاصةً الدول الأوروبية، ويعود اهتمام تلك الدول بتصنيع الهيدروجين الأخضر في المقام الأول بسبب وفرة مصادر الطاقة المتجددة بها طوال العام مثل الشمس والرياح، مما يساعدها على الإنتاج بشكل أكبر وأفضل وأقل تكلفة من الدول الغربية.
تأتي المغرب في صدارة الدول العربية التي اهتمت بإنشاء مركزٍ لتصنيع الهيدروجين الأخضر عام 2019 بهدف التصدير للخارج، وكان المشروع بتمويل ألماني يبلغ 9 مليارات يورو. وفي شمال أفريقيا أيضًا جاءت مصر عام 2021 وأولت الوقود الجديد اهتمامًا كبيرًا، ووضعت إنتاج الهيدروجين الأخضر وفق خطة تطوير مصادر الطاقة لعام 2035، والهدف أيضًا التصدير للخارج، ومحاولة السيطرة على سوق التصدير في الشرق الأوسط. وتدرس الأردن حاليًا مشروعًا لإنتاج الوقود الأخضر بغرض التصدير أيضًا.
وفي القارة الأفريقية وضعت دولة جنوب أفريقيا إستراتيجية لتصنيع الهيدروجين الأخضر؛ إذ ترى فيه فرصةً جيدةً لإعادة توزيع واستخدام الطاقة حول العالم، إلى جانب توفير الآلاف من فرص العمل في البلاد، وكذلك فرصة اقتصادية عظيمة في حال نجحت في التصدير لأوروبا، التي يتزايد فيها الطلب على الوقود الجديد.
أما الدول التي تسعى لاستخدام الهيدروجين الأخضر بوصفه وقودًا دائمًا في الشرق الأوسط، جاءت السعودية على رأس الدول العربية التي تنوي استخدام الوقود الأخضر مصدرًا للطاقة والنقل والتدفئة، وتحديدًا في مشروع «مدينة نيوم العملاقة»، والتي من المفترض أن يعيش فيها مليون شخص معتمدين على الوقود الجديد في حياتهم واحتياجاتهم اليومية.
لم تتخلف الإمارات أيضًا عن الركب، وبدأت بالفعل في إنتاج الهيدروجين فقط بوصفه وقودًا، وأنشأت محطات لإنتاج وتصنيع الوقود، وكذلك محطات لتوفير الوقود الجديد للمستهلك، وكان المشروع ضمن مبادرة «إمارات دون مخلفات»، وهي التي تقوم في الأساس على تحويل المخلفات إلى غاز الهيدروجين، وحاليًا تدرس الإمارات إنتاج الوقود الأخضر أيضًا على نطاق واسع.
عام 2020 أعلنت سلطنة عُمان عن خطة متكاملة لمشروع يعد هو الأكبر في العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر واستخدامه، ومن المقرر أن تعمل المحطة الأكبر في العالم بكامل طاقتها مع نهاية عام 2038، والتي يصل تكلفة إنشائها إلى 30 مليار دولار، وتضمن إنتاج الوقود الجديد صديق البيئة واستهلاكه بشكل كامل ومستمر، والتخلي عن الوقود الأحفوري تمامًا.
فيضانات وحرائق.. عواقب التغير المناخي تضرب أوروبا وآسيا
يشهد العالم في الوقت الحالي موجةً كبيرةً من التغير المناخي، والذي تسبب في حدوث فيضانات كبيرة راح ضحيتها مئات الأشخاص، وسجلت خسائر بالمليارات في ألمانيا وبلجيكا والهند والصين وتركيا، ومثل تلك الأحداث المأساوية تتضح أهمية وجود الهيدروجين الأخضر بديلًا حتميًّا للوقود الكربوني الذي يتسبب في ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري في العالم.
نتيجة التلوث البيئي والتغير المناخي يسعي الكثيرون حول العالم إلى استخدام مصادر طاقة نظيفة بديلًا عن الطاقة غير المتجددة التي تلوث الهواء والكوكب، فظهرت الحاجة لاستخدام الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح، لكنها لم تكن فعالة بدرجة كبيرة، ولم تُستخدم بشكل كامل بديلًا للنفط والفحم والغاز الطبيعي. ويعود ذلك لتكلفة الإنتاج العالية مقابل الوقود الأحفوري من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى محاربة شركات الوقود الأحفوري لأي إستراتيجية تبديل للطاقة غير المتجددة بالطاقة المتجددة حول العالم.
لكن.. هل استخدامه بديلًا دائمًا للطاقة غير المتجددة أمر مضمون؟
رغم الآمال والطموحات الواعدة التي يرجوها العالم من استخدام الهيدروجين الأخضر بديلًا للطاقة غير المتجددة، فإن الأمر برمته ما زال حلمًا بعيد المنال تقريبًا، ويحيط به العديد من التحديات والصعوبات، وتتمثل تلك الصعوبات في التكلفة العالية لإنتاج الهيدروجين الأخضر بسبب الاعتماد على الكهرباء في عملية التحليل الكهربائي، والتي يجري إنتاجها من مصادر طاقة متجددة صديقة للبيئة ذات تكلفة باهظة، والتي لن تنخفض بسهولة إلا بعد زيادة الطلب في الأسواق على الوقود الجديد.
وهناك كذلك مشكلة النقل والتخزين والحاجة لإنشاء مراكز ومشروعات، تؤمن تلك المرحلة من الإنتاج. وتأتي أيضًا فكرة الصراع مع الوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي والفحم)، إذ لن تستسلم شركات الوقود غير المتجدد بسهولة وستخوض حربًا ضارية لمنع الهيدروجين الأخضر من السيطرة على سوق الوقود عالميًّا، كما حدث مع مشروعات الطاقة الشمسية والرياح.
وأخيرًا، تعد الدول الأوروبية بشكلٍ عام، هي الدول الرائدة في عملية إنتاج الوقود المستقبلي، لكنها قارة ضعيفة في مصادر الطاقة المتجددة (الشمس والرياح) التي يُعتمد عليها في عملية توليد كهرباء نظيفة لإنتاج الوقود الأخضر، مما يشكل صعوبةً وتحديًا كبيرًا في إقناع دول أخرى خارج القارة العجوز لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره.
هذا إلى جانب شيوع فكرة: لماذا يهدر العالم مليارات الدولارات لإنتاج وقود جديد يعتمد إنتاجه على الشمس والرياح والماء؟ ونحن نستطيع بالفعل استخدام الشمس الرياح والماء بشكل مباشر لتوليد الطاقة التي نحتاجها.
فهل ترى عزيزي القارئ أن الهيدروجين الأخضر وقود المستقبل حقًّا! والحل الأمثل للقضاء على التلوث البيئي؟ أم فقاعة ستختفي عما قليل؟