أكثر من مرة، يصدح الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله بصوته الجهوري أن ميزانية حزبه ومرتبات عناصره وأسلحته من «الجمهورية الإسلامية الإيرانية». بيد أن الشارع اللبناني الذي قرر منذ أسبوع التظاهر في كافة أرجاء البلاد لا يأبه بآلية تدبير الحزب لشؤونه المالية بقدر إيمانه بأن «حزب الله» هو من قاد لبنان إلى جحيم اقتصادي مع حلفائه وكافة السياسيين اللبنانيين، لذا أكد هؤلاء مرارًا وتكرارًا في شعاراتهم أن «كلن يعني كلن.. نصرالله واحد منن (منهم)»، حتى إذ ما خضنا في التقرير التالي يبين لنا ثلاثة خبراء أن «حزب الله» الذي اجتهد دومًا في أن يظهر باعتباره غير مسؤول البتة عن تأزُّم الوضع الاقتصادي في لبنان هو من تُفرض على البلاد عقوبات دولية بسبب نشاطاته، وهو المسؤول عن أزمة النقد اللبناني بسبب اقتصاده «الأسود» في سوريا، وغير ذلك.
هل عهد «حزب الله» هو عهد الأزمة؟
في السنوات الخمسة عشر الأخيرة التي تضاعف فيها الدَّين على لبنان (بلغت نسبة حجم الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان أكثر من 152%)، لم يكن «حزب الله» مجرد شريك بل صانع قرار وميزان سياسي في لبنان. إذ أن تشكيل الحكومات في لبنان يقوم على معادلة القوّة بالأساس، والحزب باعتباره قوة السلاح الأضخم في البلاد كان يفرض شروطه السياسية.
متظاهر لبناني ينظف القمامة من أحياء العاصمة، وسط بيروت بعد ليلة من الاحتجاجات على زيادة الضرائب والفساد الرسمي
يؤكد الأكاديمي والمحلل السياسي اللبناني وليد فخر الدين على ما سبق، ويوضح أن الحالة التي عاشها لبنان بعد عام 2011، حين سهَّل «حزب الله» تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، تلك الحكومة التي فرضت هيمنة الحزب عليها ليُحكِم قبضته على أجهزة السلطة اللبنانية إثر الثورة السورية، كانت بداية معاناة الميزان الاقتصادي اللبناني من العجز. فأصبح ما يخرج من لبنان من أموال أكثر مما يدخل، ولكن ما منع الانفجار في حينه –حسب فخر الدين- هي الأموال التي دخلت لبنان لدعم اللاجئين السوريين، إضافة لظهور مستثمرين سوريين، وكذلك المال السياسي الذي دخل للحزب من إيران، مع الأموال الناتجة عن تبيض الأموال وتجارة المخدرات لـ«حزب الله» التي وفرت نوع من السيولة الكبيرة.
يسوق فخر الدين عدَّة دلائل تبيّن دور«حزب الله» في الأزمة الاقتصادية اللبنانية، ومنها أنّ «حزب الله» يدير المعابر غير الشرعية في لبنان، فيستخدم الحدود بين لبنان وسوريا في تجارته غير المشروعة، ويوضِّح لـ«ساسة بوست» أنّ: «الحزب المتمرِّس في تهريب البضائع بكافة أنواعها، وتتسبب عمليات تهريبه في خسارة الدولة اللبنانية 3 مليار دولار سنويًا، فإذ ما تكلّمنا عن 15 عامًا قضاها الحزب في التهريب يكون التهريب قد تسبّب في خسارة الدولة حوالي 45 مليار دولار، أي ربع أو نصف الدين اللبناني»، بحسبه.
وباستشهاده بدليلٍ آخر، يوضح فخر الدين أن «حزب الله» كغيره من القوى السياسية اللبنانية بعد «حرب تموز 2006» (الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006) تورَّط في ملفات فساد ضخمة كالحديث عن أبنيةٍ وهمية أو إعادة الأموال في الضاحية الجنوبية، حتى قيل أنّ المستوى المعيشي لقيادته تبدَّل نحو البذخ بعد تلك الحرب.
ويؤكد فخر الدين على أن العقوبات الأمريكية والدولية على الحزب تسببت في نوعٍ من التوتُّر في السوق المصرفية اللبنانية، والتي انفجرت إثر إدراج البنك اللبناني الكندي على قائمة العقوبات الأمريكية في فبراير (شباط) 2011 على خلفية ارتباطه بـ«حزب الله» أولا ثم إدراج مصرف «جمّال ترست بنك» اللبناني في أغسطس (أب) الماضي.
يكمل لنا فخر الدين: «مع بداية يوليو الماضي، انكبَّت مجموعة كبيرة من المودعين مرتبطين إمّا بـ«حزب الله» وشركاته أو النظام السوري نحو سحب كميّات هائلة من المصارف اللبنانية قدرت بنحو ملياران دولار، وكذلك سحب مودعين عاديين خافوا من أزمة النقد نص مليار آخر، أي أن ما تم سحبه من يوليو حتى سبتمبر (أيلول) 2019 هو 2.5 مليار دولار من المصارف اللبنانية، وتلك الأموال هي جزء من التأمين الالزامي لمصارف لبنان، والمشكلة الأكبر أن سحب هذه الأموال أحدث أزمة نقدية في لبنان لم يستطع الخروج منها».
العقوبات على «حزب الله».. زعزعت الثقة في الاقتصاد اللبناني
دخل «حزب الله» حلبة الصراع الدولي بشكلٍ أكبر منذ مايو (أيار) 2018، حين ألغت الولايات المتحدة الأمريكية الاتفاق النووي مع إيران، واتجهت نحو فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران وأذرعها في المنطقة. ألقت تلك العقوبات بظلالها على الحزب وبالتالي على الدولة اللبنانية ككل، وكان الهدف الأمريكي هو تحميل الحزب مسؤولية الوضع الاقتصادي المتردِّي في البلاد لتأليب الداخل اللبناني عليه، إذ قال مساعد وزير الخزانة الأمريكية، مارشال بيلينغسلي: «سنعاقب كل من يدعم «حزب الله» عينيًّا وبالأسلحة أو المال أو أي وسائل أخرى».
يؤكد الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، معن طلّاع، على أن: «التيار الوطني الحر العوني (نسبة للرئيس اللبناني ميشال عون) ساهم بتشكيل مظلّة مهمة للالتفاف على العقوبات الدولية من جهة، ومن جهة أخرى استغلّ الحزب والتيار حالة الفراغ الرئاسي للتوصُّل إلى وثيقة العهد التي عزَّزت من مصالحهما وتموضعهما المركزي في الدولة، الأمر الذي جعل حكومة الحريري حكومة معطلة من الناحية التمويلية ومن ناحية السياسات الاقتصادية».
ويضيف: «خاصة أن تلك الوثيقة ساهمت بشكل كبير «بحكم نتائجها» في جعل لبنان كلياً أسير السياسة الإيرانية في المنطقة وما يفرض عليها من محاصرة وعقوبات»، ناهيك عن أن هذه الوثيقة قد كرست -باعتقاد طلاع- ديناميات استبداد الحزب والتيار اللذين عملا على استنزاف الاقتصاد والتحكُّم في السياسات العامة بما يخدم مصلحتهما وهو ما جعل الفساد في لبنان قضية يحتج وينتفض فيها الكبير والصغير.
فيما يقول الخبير الاقتصادي اللبناني ومحلل شؤون الشرق الأوسط، سامي نادر، أنّ العقوبات الاقتصادية على الحزب قوّضت النشاط المصرفي وزعزعت الثقة بالاقتصاد اللبناني وخاصة في القطاع المصرفي، حيث أغلق مصرفين لبنانيين نتيجة هذه العقوبات مما أثَّر على تدفق الودائع إلى لبنان، وتسبب الأمر في مزيد من عجز ميزان المدفوعات اللبناني، لتتراجع الودائع وتُخلق أزمة السيولة التي يعيشها لبنان.
ومؤخرًا قدرت وزارة الخزانة الأمريكية الأموال المنهوبة من الخزينة العامة اللبنانية بـ800 مليار دولار، وهي أموال تُشكِّل عشرة أضعاف الدين العام اللبناني الذي يصل إلى 86 مليار دولار في آخر أرقام 2019، وهو يزداد عاماً بعد عام بسبب الفوائد، بعد أن كان يقتصر على 40 مليار دولار أو أزيد مطلع 2007.
ويوضح نادر أنّ «حزب الله» اليوم هو الطرف الأقوى في المعادلة اللبنانية، بعدما استطاع أن يأتي بمرشحه لرئاسة الجمهورية اللبنانية (الرئيس اللبناني ميشال عون)، ويتابع نادر القول: «في نهاية المطاف، وبعد سنتين من الفراغ الحكومي استطاع الحزب من خلال تعطيل جلسات المجلس النيابي اللبناني أن يأتي بحليف هو رئيس الجمهورية، وكذلك استطاع قلب المعادلة حينما أتي أيضًا بقانون انتخابي أنتج له ولحلفائه أغلبية في مجلس النواب وبالتالي لهم الأغلبية في النظام اللبناني».
ويبين نادر خلال حديث لـ«ساسة بوست» أن التسوية السياسية (التي أتت بعون رئيسًا في أكتوبر (تشرين الأول) 2016، وسعد الحريري إلى رئاسة الوزراء) والتي قبل بها خصوم «حزب الله» قلبت المقاييس لأنه في مرحلة ما قبل هذه التسوية كانت الأغلبية في السلطة التنفيذية والتشريعية اللبنانية لصالح مناهضي «حزب الله».
ويفسر ذلك بالقول: «بعدما انقلبت المعادلة أصبح الحزب هو من يترأس الأغلبية، وبالتالي أي انقلاب على هذه المنظومة التي للحزب اليد الطولي فيها سوف يعتبرها ضده، لذا طل الأمين العام للحزب، حسن نصر الله في اليوم الثاني للاحتجاجات اللبنانية على الشاشات، لأنه شعر أن هذه التحركات -خاصة وأن حاضنته الأولى شاركت فيها- بمثابة تحدى لسلطته القائمة، وسارع لتهديد الطبقة السياسية في لبنان وقال لهم لن يترك أحد في المركب بدون عقاب».
«حزب الله» في سوريا.. «الاقتصاد الأسود» على لبنان
ساهمت استراتيجية «حزب الله» العسكرية والأمنية في سوريا القائمة على مقاربة تطوير لبنان سياسيًا وأمنيًا لصالح تمكين النظام السوري في تعطيل الحياة السياسية في لبنان والذي انعكس بالضرورة على الحياة الاقتصادية في البلاد؛ فقد ارتدّت آثار هذه الاستراتيجية على عدة مستويات في الداخل اللبناني كما يقول الباحث في «مركز عمران للدراسات الاستراتيجية»، معن طلّاع.
أول تلك المستويات متعلق بخطاب التجييش ومبررات التدخل في سوريا والتي دفعت باتجاه خلق عدة مناخات سلبية في لبنان لا سيما جراء جر الجيش اللبناني إلى معارك سببها بشكل مباشر تواجد «حزب الله» في سوريا، وجعل كل التفاعلات السياسية المحلية أسيرة «طموح الحزب»، وهذا ما ساهم لزامًا في تدهور الحركة السياحية والاستثمارية في لبنان والذي عمّق من انتكاسات الاقتصاد اللبناني.
صورة حسن نصر الله على كوب في متجر هدايا
ومن بين الأهداف العابرة للأسباب السياسية والأمنيّة لسياسة «حزب الله» في سوريا، العمل على تطويع الجغرافيّة السورية لقضايا نقل الأسلحة منها إلى لبنان وتأمين شبكات اقتصاد حرب تغذِّي اقتصاده المتهاوي عبر تأمين قنوات التهريب الذي يعدُّ أحد دعائم اقتصاد «حزب الله» في سياساته العامة.
وثاني الأهداف يتعلّق بتعطيل الحياة السياسية خاصة في ظل الانقسام الحاصل في القوى السياسية اللبنانية حيال نظام الأسد، وهنا يوضح طلّاع: «كان هذا هدف رئيسي لحزب الله، فالحزب أراد أن يعطل الحياة السياسية حتى لا يتم انتاج قرار سياسي موحد حيال الملف السوري، وهو ما ساهم بتعطيل ديناميكيات السياسات العامة للحكومة اللبنانية وبالتالي تراجع كل المشروعات الاقتصادية والتمويلية في لبنان لا سيما بعد العقوبات التي طالت الحزب».
ويبين طلّاع وهو باحث رئيسي في مسار السياسة والعلاقات الدولية في «مركز عمران» أن تعامل «حزب الله» في لبنان هو تعامل الحاكم الفعلي، لذلك تم تجريف كل طاقات الدولة ومؤسساتها لصالحه عبر أداتين، الأولى: تعزيز عمليات الكسب غير المشروع، أو حتى تطبيق سياسات خاصة في «حزب الله» هاربة من منظومة الدولة، مثل تجارة المخدرات وعمليات الاقتصاد الأسود عموماً، و الأداة الثانية: كانت عبر سياسة حليفه السياسي في التيار الوطني الحرّ.
وعن الأزمة الاقتصادية الراهنة، يعتقد طلّاع أن تلك الأزمة بجذرها الرئيسي ليست نتاج أخطاء عامة لحكومة يستنزفها الحزب فحسب وإنما مردّها إلى سببين، أولهما: جعل لبنان دولة ضعيفة على المستوى السياسي والاقتصادي بسبب تواجد دولة داخل دولة (سلاح «حزب الله» المستخدم في المعادلات الأمنية والسياسية المحلية). والأمر الثاني: هو نتاج التشوهات السياسية التي أفرزها اتفاق الطائف على الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان (يعد بمثابة وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، ووقع بوساطة سعودية في 30 سبتمبر 1989) وما عززه عرفًا من الانقسام الطائفي في لبنان وبالتالي الحفاظ على المحاصصة الطائفية.
ويعقب بالقول لـ«ساسة بوست»: «الآن يجب على الشارع اللبناني أن يحوِّل خطابه للمطالبة بتيارات سياسية جديدة تحاول كسر هذا الاحتكار للقوى التقليدية التي تتقاسم لبنان سياسًا واقتصاديًا، وعلى رغم صعوبة هذه المطلب، لكنه استراتيجياً هو الخلاص الأول لتقويض سلطة «حزب الله» وكف أذرع تدخله في لبنان واستنزافه اقتصاديا وسياسيًا وأي إصلاح لا يطول الحزب ويحجمه ويقص أذرعه التداخلية والتحكمية فإن إصلاح شكلي لا قيمة له».