يُعدُّ الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأحد أفضل الاقتصادات الناشئة؛ إن لم يكن أفضلها حسب المؤشرات والأرقام المختلفة، والتي تبين النمو الصيني الكبير في العقود الماضية، فمثلًا؛ نمت حصة الفرد من الناتج القومي الإجمالي بين عام 2000 و2020 أكثر من عشر مرات، بينما لم تنمُ في الهند إلا أقل من خمس مرات، والبرازيل مرة واحدة (وكلاهما اقتصادات نامية)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أقل من مرة واحدة؛ رغم أن المواطن الأمريكي يمتلك أضعاف ما يمتلكه المواطن الصيني من الناتج القومي، وذلك لأن بلاده ذات دخل مرتفع.
ورغم هذا النمو المطرد في حصة الفرد في الصين؛ والذي قد يكون الأعلى في العالم، وهو أعلى من متوسط النمو العالمي في هذه الحصة بخمسة أضعاف فعلًا؛ فإن
بكين لم تنجح حتى الآن بالانتقال إلى اقتصاد ذي دخل عالٍ، وظلت حتى الآن في خانة الدول ذات الدخل المتوسط.
الصين في فخ الدخل المتوسط
يقسم البنك الدولي بلدان العالم إلى ثلاثة فئات رئيسية، دول ذات دخل منخفض، دول ذات دخل متوسط؛ وتنقسم إلى متوسط-منخفض ومتوسط-مرتفع، ودول ذات دخل مرتفع؛ وذلك بحسب الجدول التالي:
تقع الصين اليوم ضمن الدول ذات الدخل المتوسط-المرتفع؛ فقد حققت في عام 2020 حصة فردية من الناتج القومي قيمته 10500 دولار، وقد تكون دخلت في فخ الدخل المتوسط؛ وذلك ببساطة لأن بكين وإن كانت ما تزال تمتلك واحدة من أعلى نسب النمو في العالم، فإن هذه النسب في انخفاض شبه مستمر منذ عام 2011.
فبين عامي 2001-2010 حققت بكين معدلات نمو متوسطها 10.55%، بينما لم تحقق إلا معدل نمو 6.83% بين عامي 2011-2020؛ وإذا أردنا استثناء عام جائحة كورونا (2020) بوصفه عامًا استثنائيًّا في العالم كله فلن يتجاوز النمو فيها 7.4%، كما حققت بكين نموًّا بنسبة 8.4% في عام 2021؛ إلا أنه لا يمكننا التعويل كثيرًا على هذه النسبة لأنها تعكس التعافي من الجائحة أكثر من غيره؛ بينما يتوقع أن تنمو بكين بنسبة مقاربة من 4.3% في عام 2022، على الأقل حسب إحدى وكالات التصنيف الائتماني المعتمدة.
هذا كله يهدد قدرة بكين على الخروج من تصنيف الدخل المتوسط، وتمكنها من دخول فئة الدخل المرتفع؛ وهو تمامًا ما يعبر عنه بـ«فخ الدخل المتوسط»، والذي يحتاج لتغييرات على مستوى السياسات الاقتصادية الصينية، لتمكنها من الخروج من هذا الفخ، وعدم البقاء لعقود فيه؛ كما حصل مع دول عديدة في أمريكا اللاتينية مثلًا.
فهل يعني ذلك أن بكين قد حُكم عليها بالبقاء في موقعها في العقود القادمة؟ أو ربما التقدم نحو عتبة الدخل المرتفع ثم حدوث ركود طويل في هذا النمو المطرد وبقاءها دون القدرة على لحاق وتجاوز الدول المتقدمة؟ أم أن الصين تستطيع اليوم البدء بالتغلب على صعوبات المرحلة والانتقال اقتصاديًّا نحو مرحلة جديدة؟
قيادة واعية بالمشكلة.. ولا حل حتى الآن
بحسب مايكل بتس؛ الخبير في الاقتصاد الصيني، في مقالته على موقع معهد كارنيجي؛ فإن القيادة الصينية تعلم جيدًا حدود سياساتها الحالية في النمو، وأنها استنزفتها بشكل شبه كامل؛ فبكين منذ السبعينيات كانت تعاني فجوة بين حاجاتها الاستثمارية ومقدار الدخل المدخر لغايات الاستثمار، واستطاعت تحقيق معدلات ادخار مرتفعة، كما استطاعت تحويل هذه الادخارات إلى استثمارات.
المشروعات العملاقة في بكين
وقد أتى توفير هذه المعدلات المرتفعة من الاستثمار عن طريق الادخار على حساب معدلات الاستهلاك المنخفضة بشكل غير طبيعي، واليوم تحتاج بكين إلى تغيير هذه السياسة؛ لتتضمن معدلات استهلاك مرتفعة، فالاستهلاك المحلي على ما تنتجه البلد يعني مساهمته في الدورة الاقتصادية أيضًا، ومزيد من شراء المنتجات الصينية يعني مزيدًا من أرباح شركاتها، وهذا يعني توظيفًا أكبر واستثمارات أكبر وهكذا، بدلًا من نموذج الاستهلاك المنخفض مع ادخار كبير، يجري تحويله إلى استثمار، ثم الاعتماد على استهلاك المنتجات المحلية من الخارج بدلًا من الداخل.
كما أن بكين اليوم تمتلك نموًّا «مضخمًا» كما يقول الرئيس الصيني تشي جين بينج نفسه؛ وهو ما يفسر عمل بكين على سياسات قد تؤدي إلى انخفاض النمو، بهدف إنتاج نمو صحي أكثر في المستقبل، والتمكن من معالجة اختلالات الاقتصاد التي أنتجتها المراحل السابقة مع كل إنجازاتها، والانتقال نحو استراتيجية جديدة في النمو.
ورغم الوعي الصيني بالمشكلة؛ والسعي نحو حلها؛ فإن بكين لا تستطيع حتى الآن تطبيق هذا الحل، وقد يتسبب العجز المستمر في غرق بكين في فخ التباطؤ والدخل المتوسط، وعدم التمكن من اللحاق بالغرب وتجاوزه.
لكن بكين تمكنت خلال العقود الماضية من تجاوز العقبات الاقتصادية المتتالية والانتقال نحو واقع مختلف أيضا؛ وهو أيضًا ما تفهمه القيادة الصينية؛ بحسب مقالة للكاتب اللبناني عامر محسن؛ فـ«الصينيون ينظرون إلى تاريخهم وماضيهم على أنه ما خلق سياق حياتهم اليوم بكل تناقضاتها وتحدياتها، ما يخلق لك أهدافًا محددة للحاضر؛ ستفرز في النهاية واقعًا جديدًا بتناقضات مختلفة، وسيكون عليك رسم أهداف جديدة للتعامل مع هذه التناقضات حينها».
فقد طورت بكين خلال السنتين الماضيتين إستراتيجية جديدة للتعامل مع التناقضات الحالية؛ باسم «التداول المزدوج Dual Circulation» في عام 2020 تحديدًا، لمحاولة البدء بمعالجة هذه الأزمة، وإنتاج نموذج اقتصادي جديد للصين، لكن لم يجر تحقيقه بعد حتى الآن.
ما هو «التداول المزدوج Dual Circulation»؟
خلال العقود الأربعة الماضية؛ سادت إستراتيجية النمو المدفوع بالتصدير، وفوائدها لتحويل الاقتصادات نحو التصنيع، وكانت بكين أحد أهم أمثلة نجاح هذه الإستراتيجية، والتي لعبت دورًا مهمًّا في تحقيق معدلات النمو المرتفعة في هذه البلد وغيرها من البلدان.
مواطن صيني يبيع منتجات صينية
لكن هذا النموذج يتعرض لعدة مشكلات؛ أولها فقدان الثقة بالتعويل على التجارة العالمية والتكامل الاقتصادي في العالم عمومًا بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وثانيها يخص بكين وحدها في مجال التجارة مع الحرب التجارية القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ وآخرها طبعًا استنزاف إمكانيات النموذج السابق؛ والحاجة للانتقال لنموذج مختلف، تستطيع بكين من خلاله تجاوز التحديات الحالية.
إذ يحتاج نموذج النمو المدفوع بالتصدير إلى عدة عوامل توافرت طوال العقود الماضية في بكين؛ وهي التي اعتمدت على معدلات ادخار مرتفع؛ لتحويلها إلى استثمارات كبيرة وضخمة، مع عمالة رخيصة تجعل منتجات بكين تنافسية جدًّا في كل مكان في العالم.
لكن هذا يعني قدرة شرائية أقل للمواطنين، واعتمادًا أكبر على الخارج، سواء باستيراد التكنولوجيا اللازمة للتصنيع، أو تصدير المنتجات الصينية إلى الخارج، وهو ما يعني تأثرًا كبيرًا بالهزات الاقتصادية العالمية؛ مثل الأزمة المالية العالمية والأزمة الاقتصادية الناتجة من جائحة كورونا.
في المقابل؛ تمتلك دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية سوقًا داخلية ضخمة، بحصة فردية مرتفعة جدًّا من الناتج القومي، وبدخل عالٍ لدى الأفراد، ما يمكن الولايات المتحدة من الاعتماد بشكل كبير على هذه السوق، وانعدام الحاجة للاعتماد بشكل كبير على الخارج؛ وإن لعبت صادرات الولايات المتحدة ذات القيمة العالية دورًا مهمًّا في الاقتصاد، مع مركزية دور الدولار في النظام المالي العالمي أيضًا؛ ما يجعلها مركز اقتصاد العالم بلا منازع.
وتعتمد إستراتيجية التداول المزدوج على الانتقال نحو رفع دخول المواطنين الصينيين ومن ثم استهلاكهم؛ أو ربما رفع استهلاكهم دون الحاجة لرفع دخلهم المباشر؛ عن طريق تحويلات حكومية لفئات معينة من الشعب مثلًا، ليستهلك الشعب الصيني ما ينتجه داخليًّا، أكثر من تصديره للخارج.
فمزيد من الاستهلاك الداخلي يعني مزيدًا من أرباح الشركات الصينية من هذا الاستهلاك؛ وهو يعني مزيدًا من التوظيف ورفعًا للدخل والقدرة الشرائية للمواطنين؛ وهذه الارتفاعات تعني مزيدًا من الاستهلاك وهكذا حتى تصل الصين إلى تصنيفها دولةً ذات دخل مرتفع، خاصة أنها تمتلك أكبر عدد من السكان في العالم؛ كما أنها تمتلك طبقة وسطى ضخمة جدًّا تقدر بـ400 مليون إنسان.
ولكن هذا وحده ليس «تداولًا مزدوجًا» وإنما أحادي يعتمد على الداخل؛ وبكين تعلم أنها ما تزال بحاجة للاعتماد بشكل كبير – وإن أقل من السابق- على الصادرات والأسواق الخارجية، بل ربما لعولمة اقتصادها وجعله مركزيًّا للاقتصاد العالمي.
وتعتمد بكين على «مبادرة الحزام والطريق» لرسم خريطة صادراتها وعلاقاتها التجارية مع العالم، وجعلها مركزية لهذا الاقتصاد، ولكن مع التركيز أكثر على تطوير التكنولوجيا الصينية، وإنهاء الحاجة لاستيراد المنتجات عالية القيمة من الخارج؛ بل بدء تصديرها إلى الأسواق المختلفة بعد إنتاجها صينيًّا.
لذلك فإن هذه المنتجات عالية القيمة، وذات التكنولوجيا المعقدة والمحتاجة لصناعات ثقيلة ستعوض ما قد تفقده بكين من جزء من صادراتها بحسب النموذج الحالي، ليصبح التصدير داعمًا للتداول الداخلي، والذي سيعتمد أكثر على تحديث المدن وإنشاء قطاعات خدمية واستهلاكية، مع رفع القدرة الشرائية محليًّا.
ولكن هذا النموذج لا يعتمد فقط على إنهاء الاعتماد على استيراد ما تحتاجه بكين من الخارج؛ ولكن أيضًا على كسر الاحتكارات التكنولوجية الغربية، وتمكين بكين من تصنيع كل ما تريد دون حاجة للاعتماد على الاستيراد؛ وهو ما يعني أنها ستستطيع النجاة لو فُرضت عليها عقوبات شبيهة للمفروضة على روسيا اليوم مثلًا، عدا عن أهميتها الكبرى للاقتصاد العالمية، والذي سيجعل مثل هذه العقوبات صعبة جدًّا؛ إن لم تكن مستحيلة.
ولكن حتى في الشق المتعلق بالطلب أو التداول الخارجي؛ تحاول بكين أن تجعل من مبادرة الحزام والطريق آلية لمنع الغرب من التمكن من الإضرار بمصالحها التجارية مع الخارج في كثير من مناطق العالم، وجعل سلاسلها التجارية مستقلة عن النفوذ الغربي، ومعتمدة جدا على ثقلها وقوتها بدلا من ذلك، وأيضًا على اتفاقاتها التجارية والسياسية مع الدول الأخرى، مع جعل السوق الداخلية هي المحرك الأساسي للاقتصاد؛ وليس السوق الخارجية التي ستصبح داعمة للداخلية ومتكاملة معها.
وكذلك بالنسبة للاستثمارات الضخمة في البلاد؛ فهي لن تنتهي بشكل كامل، ولكن سيُفسح المجال أكثر للاعتماد على الإنفاق الاستهلاكي بدلًا من الإنفاق الاستثماري، مع التركيز على جعل الإنفاق الاستثماري أكثر جدوى وإنتاجية من الآن.
كيف تغير الإستراتيجية حياة الشعب الصيني؟
طوال العقود الماضية كانت القيادة الصينية كفؤة في تحسين حياة الصينيين وزيادة دخلهم، وتخليصهم من أعباء الفقر والفقر المدقع، لكن الصينيين ما يزالون يعملون مقابل أجر زهيد مقارنة بغيرهم في العالم؛ دون أن يعني ذلك التقليل من شأن التغيرات الكبرى التي حدثت في بكين.
فخلال الأربعين عامًا الماضية؛ تمكنت الصين من انتشال 800 مليون من شعبها من الفقر المدقع، وكانت مسؤولة عن 70% من إجمالي نسبة انخفاض الفقر في العالم، وقضت على الفقر الكلي بالمطلق، كما أنها رفعت حصتها من إجمالي اقتصاد العالم من 1.7% إلى 17% في عام 2020، لكن إذا وقعت بكين في براثن فخ الدخل المتوسط فإن هذا التحسن سيتوقف ويخمد؛ رغم أن البلاد ما تزال تحتاج لتنمية أكبر، ويحتاج مواطنوها لتحصيل دخول أكبر للحاق بنظرائهم في الدول المتقدمة.
ويتناقض هذا السعي مع النموذج أو الإستراتيجية القائمة للصين، والتي تريد القيادة الصينية تغييرها؛ فإذا أبقت بكين على إستراتيجية النمو المبني على التصدير، فإنها تحتاج لإبقاء عمالتها رخيصة لتبقي على تنافسيتها حول العالم.
فإذا بدأت دخول المواطنين الصينيين بالارتفاع دون ارتفاع إنتاجيتهم؛ مع التحول نحو الصناعات ذات التكنولوجيا المعقدة والقيمة المرتفعة، فذلك يعني أن بكين ستخسر أفضليتها التنافسية ومن ثم نموذجها الحالي، دون القدرة على إنتاج نموذج آخر يستطيع التغلب على التحديات الحالية.
في المقابل؛ إذا تمكنت بكين من إنجاح هذه الإستراتيجية فسيعني ذلك أن الصينيين سيدخلون نادي الدخول المرتفعة، وسيستطيعون العودة إلى معدلات النمو المرتفعة؛ أو على الأقل الحفاظ على معدلات النمو الحالية، وهي بدورها مرتفعة نسبيًّا مقارنة بباقي الاقتصادات الناشئة، بالإضافة إلى أنهم سيتمتعون بإنتاجية أكبر، وسيتمكنون من صناعة ما يحتاجون من الصناعات دون الحاجة للاحتكارات الغربية.
على هذا المنوال؛ لن تتحسن حياة الصينيين فحسب؛ بل من المحتمل أن تصبح بكين أكبر اقتصاد في العالم، وسيكسبها ذلك قوة ونفوذًا كبيرين في الاقتصاد العالمي، ما قد يمكن بكين من جعلها مركزًا ماليًّا عالميًّا، وربما تنافس العملة الصينية الدولار واليورو، وذلك سيعني تعزيز قوة الاقتصاد الصيني، وتمكن الصينيين من الاستفادة من هذا المركز، وتحصيل ريوع كبيرة بناء عليه، وقد تستفيد دول أخرى من إمكانية أخذ جزء من الفراغ الذي ستخلفه الصين وراءها في مجالات صادرات الصناعات رخيصة الثمن.
أما إذا ظلت بكين على نموذجها الحالي؛ فقد يفشل ذلك في دفع الاقتصاد الصيني قدمًا في المستقبل القريب، لأن لهذه الإستراتيجية مشكلات وتحديات أيضًا، قد تجعل من الصعب على القيادة الصينية تنفيذها كما تريد.
عندما لا يمكننا فعل شيء للاقتصاد
لنفترض ما يلي؛ وصل الاقتصاد إلى أعلى وأمثل شكل من استغلال جميع موارده؛ من الموارد البشرية والمالية والطبيعية، في هذه الحالة فإنه لا يمكن لأحد في الاقتصاد الاستفادة بدولار واحد؛ لو لم يكن ذلك على حساب خسارة شخص آخر في الاقتصاد للقيمة نفسها؛ وهذا ما يعرف باسم مبدأ «أمثلية باريتو Pareto Efficiency»، نسبة لعالم الاقتصاد الإيطالي فيلفريدو باريتو.
إذ يحاجج المفكر الاقتصادي مايكل بيتيس في مقالتين؛ في «Financial Times» ومعهد كارنيجي بشيء شبيه لهذه الأمثلة المذكورة؛ فهو يقول إنه لا يمكن دعم التداول المحلي عن طريق التداول الخارجي، لأنَّ التداول الخارجي معتمد على انخفاض التداول الداخلي.
ويضيف بيتيس أن أمام بكين معضلة تتمثل بأن أي نقل للجهود من التداول الخارجي إلى الداخلي يعني الإضرار بالصادرات؛ ربما بالنسبة نفسها التي سيستفيد منها التداول الخارجي، ومن ثم ستنتهي بكين دون استفادة بأي شكل من الأشكال؛ ما لم تغير بكين من اقتصادها وسياستها الداخلية على حد سواء.
ويشير مايكل إلى أن المشكلة قد تكون سياسية بالدرجة الأولى؛ إذ إن حصة استهلاك القطاع المنزلي من عموم الناتج المحلي قليلة للغاية في البلاد، وقد تكون من الأقل في التاريخ، وأن القطاع المنزلي يجب أن يأخذ 10-15% من حصة قطاع الأعمال لزيادة استهلاكه بحيث تنجح خطة بكين الجديدة، دون الإضرار بالصادرات بشكل كبير.
وترى بكين أن الطريقة الأنجح لتفعيل إستراتيجيتها هي الإبقاء على الدخول منخفضة في البلاد، ورفع القدرة الشرائية للمواطنين عن طريق التحويلات المالية من جانب الحكومة، أو التحويلات المالية من جانب قطاع الأعمال الأكثر غنىً في البلاد؛ والتي تأخذها الحكومة من هؤلاء ثم تستخدمها فيما تراه مناسبًا، وما تأخذه بكين من هؤلاء ما يزال قليلًا مقارنة بالتبرعات الخيرية في الولايات المتحدة الأمريكية كما يذكر بيتيس (12 ضعف بكين تقريبًا)، وإن كانت بكين تمتلك قدرة أكبر على توزيع هذه الاقتطاعات بشكل أفضل من الولايات المتحدة نظرًا إلى مركزية دور الحكومة في الاقتصاد، وتدخلها الكبير في توزيع هذه الاقتطاعات.
قد يؤدي هذا التحويل إلى الإضرار بقطاع الأعمال، وقد يعني ذلك الوصول إلى النتيجة نفسها للإضرار بالصادرات والتداول الخارجي، والوصول نهاية إلى الحال نفسها؛ فلا يمكننا أن نفيد طرفًا بدون الإضرار بطرف آخر بالطريقة نفسها.
والحل الآخر في نظر بيتيس هو التحويلات المالية من الحكومة نفسها للمواطنين بشكل مباشر، لا الاقتطاعات من قطاعات الأعمال والأغنياء؛ لكن مثل هذا التحويل – وخصوصًا من جانب الحكومات المحلية في المقاطعات الصينية- لن يجري، كما يقول بيتيس، إلا عن طريق نقل مواز للقوة السياسية من الحكومات في المقاطعات إلى المواطنين، وهو ما قد لا تستطيع بكين احتماله، حتى لو كان ذلك على حساب قوة الحكومات في المقاطعات؛ لا القوة والنفوذ السياسي للحكومة المركزية في بكين.
إذ يعتمد هذا المنطق على أن التوزيع الاقتصادي والنفوذ والقوة السياسيين هما انعكاس بعضهما لبعض، ولا يمكن نقل واحد منهما دون نقل الآخر أيضًا بشكل ما، وهو افتراض منطقي بطبيعة الحال، وعلى الأقل قد يكون على بكين تقبل إشراك سياسي أكبر لشعبها.
وبالطبع؛ فإن الخيار الأخير هو رفع إنتاجية الصينيين بالنسبة نفسها التي تحتاج بكين رفع دخولهم فيها، فأمم أخرى تتبنى نموًّا مدفوعًا بالصادرات ولكنها ضمن نطاق الدول ذات الدخل المرتفع؛ مثل اليابان وألمانيا، ولكنها تمتلك إنتاجية أعلى للعامل الواحد خلال ساعة عمل واحدة، وهذه الدول تعتمد نموذج بكين نفسه بكون العمال يحصلون على أجور أقل كحصة من إنتاجيتهم؛ لكن هذه الدول ضمن فئة الدخل المرتفع لأن الإنتاجية فيها أكبر من الصين.
في الاقتصاد لا يمكننا ببساطة أن نحاول فهم عامل ما معزولًا عن غيره إلا لأغراض تعليمية؛ فرفع هذه الإنتاجية يحتاج إلى استثمارات ضخمة وطويلة الأمد في رأس المال والتعليم والتدريب، وإحراز تقدمات تكنولوجية كبيرة؛ وهذه الأمور في السياق الصيني اعتمدت على النموذج السابق الذي يعتمد على الحد من الاستهلاك وزيادة الاستثمار بشكل كبير، فرفع الإنتاجية يعتمد على الاستثمار، والاستثمار في السياق الصيني قد يناقض رفع الاستهلاك المنزلي، ولكن بكين تحتاج رفع هذا الاستهلاك لمعالجة تحدياتها الحالية والحفاظ على معدلات النمو القوية وهكذا.
ولكن إذا استطاعت بكين حل هذه المعضلات فإن هذه العجلة ستدور بشكل كبير؛ فهذه الأمور لا تعتمد بعضها على بعض فحسب، بل هي تدفع بعضها أيضًا، وإذا استطاعت اجتراح طريقة لحل التناقضات بين كل هذه العوامل والمعادلات، فإنها قد تحقق أكبر بكثير مما حققته سابقًا، والأهم من كل ذلك هو لا منطقية مقارنة الصين بالولايات المتحدة مثلًا؛ فالحكومة الصينية تستطيع التحكم بالاقتصاد بشكل كبير يجعلها أكثر قدرة على إحراز النتائج بسبب السياسات؛ حال كون هذه السياسات صحيحة ومقدرًا لها أن تعمل بالفعل.
كما أن الصين ليست دولة في سياق مشابه لسياق التقدم الغربي سابقًا في التاريخ؛ فهذه الدول لم تكن تنافس أحدًا، إلا أنفسها، بينما بكين مضطرة لمنافسة هذه الدول المتقدمة؛ بل قد يكون تقدمها على حساب الصين نفسها، كما أن بكين تنافس الاقتصادات الناشئة على حد سواء.
ونظرًا إلى انتهاء عصر الاستعمار المباشر فإن بكين لا تستطيع – على الأقل في المستقبل القريب- احتلال دول أخرى واستغلال مواردها، كما أن النظام الاقتصادي والمالي الحالي ما زال يبدو أقوى بكثير من إمكانية الخروج عنه أو استبدال آخر جديد به يمكِّن بكين من استغلاله بالصورة الغربية نفسها.
ومع ذلك؛ فالصين أيضًا مختلفة عن الدول الغربية، فيما يخص انخفاض معدلات النمو الذي تعاني منه الدول الغربية، والتي لم تكن بحجم معدلات النمو في بكين حتى عندما كانت مرتفعة نسبيًّا، كما أن التطورات الحالية والسابقة قد تزعزع نفوذها وهيمنتها في السياسة والاقتصاد أيضًا، وقد تشغل الأحداث الحالية -حرب أوكرانيا- مثلًا الغرب بقيادة أمريكا عن احتواء الصين ومواجهتها، ولو إلى حين، هو أمر من المتوقع أن تستفيد منه الصين استفادة مثلى.
علامات
اقتصاد, التداول المزدوج, الصادرات, الصين, الفقر, الناتج المحلي الإجمالي, النمو, دخل متوسط, دخل مرتفع, دخل منخفض