هل يولد طفلك بقدرات عقلية وذهنية مُحددة لا يستطيع تجاوزها مهما فعل؟ أم أنه يُمكنك، عبر الجهد والصبر والمعرفة، أن تُربي طفلًا مُفكرًا ولديه عقلية مُفكرة نقدية؟ الإجابة هي أنه يُمكنك بالطبع أن ترفعي من قدرات طفلك العقلية، وتُنمي مهاراته العقلية التحليلية، ليُصبح طفلًا مُفكرًا، فقط، تابعي قراءة السطور التالية لمعرفة كيفية تحقيق هذا.
طرق معالجة المعلومات وتخزينها داخل الدماغ
قبل الحديث عن كيفية تربية طفل مُفكر، دعنا نُلقي نظرة عن كيفية معالجة المعلومات داخل الدماغ، إذ يُعدُّ الدماغ البشري جهازًا مُعقد لمعالجة المعلومات، يُساعد في تحويل الصور والكلمات والأرقام إلى بيانات مفيدة ترشدنا خلال كل جانب من جوانب الحياة.
ويتكون دماغنا من آلاف الخلايا العصبية، ويحتوي على العديد من الهياكل المختلفة، لكن القشرة الدماغية تغلفهم جميعًا، هذه «القشرة» هي الطبقة الخارجية للدماغ وهي مسؤولة عن الوظائف المعرفية المعقدة مثل التفكير والاستدلال والذاكرة وسمات الشخصية واللغة.
وتهتم الأجزاء العميقة من الدماغ بالجوانب الأكثر «بدائية» في حياتنا مثل المخاوف، والدوافع، والعقل الباطن، والعواطف، وتحتوي أدمغتنا أيضًا على طبقة أخرى، تُعرف باسم القشرة الفرعية، والتي تشكل اتصالًا مباشرًا بالقشرة الدماغية وتلعب دورًا حيويًّا في معالجة البيانات ونقلها.
ولسنوات، كان يُعتقد أن الدماغ هو جهاز كمبيوتر بيولوجي يعالج المعلومات من خلال الدوائر التقليدية، حيث تنتقل البيانات مباشرة من خلية إلى أخرى، فقد عرف الباحثون منذ فترة طويلة أن هناك موجات من النشاط الكهربائي في الدماغ، سواء أثناء النوم أو اليقظة، وأن معالجة الدماغ للمعلومات، خاصة المعلومات الحسية، مثل مشهد الضوء أو صوت الجرس، تنشأ بواسطة المُحفزات التي تتلقاها خلايا الدماغ المتخصصة ثم تنتقل من خلية عصبية إلى أخرى.
ولم تنف الأبحاث حتى الآن هذه النظرة إلى طريقة مُعالجة الدماغ للمعلومات، لكن، دراسة جديدة، نُشرت في «Science Advances» في الثاني والعشرين من أبريل (نيسان) 2022، أظهرت أن هناك أيضًا طريقة ثانية مختلفة تمامًا يوزع بها الدماغ المعلومات، وذلك من خلال تفاعلات موجات النشاط العصبي.
لكن النموذج التقليدي لمعالجة الدماغ للمعلومات من خلال انتقال البيانات مباشرة من خلية إلى أخرى، لا يستطيع أن يشرح كيف يمكن لخلية حسية واحدة أن تتفاعل بشكل مختلف تمامًا مع المُحفز نفسه في ظل ظروف مختلفة، فمثلًا، قد يجري تنشيط الخلية، استجابةً لوميض سريع من الضوء عندما يكون الحيوان في حالة تأهب بشكل خاص، ولكن الخلية ذاتها قد تظل غير نشطة استجابةً للضوء نفسه إذا كان انتباه الحيوان ينصب على شيء آخر.
ويُشبِّه الباحثون الفهم الذي أنتجته الدراسة الجديدة بازدواجية الموجة والجسيم في الفيزياء والكيمياء، والتي تعتمد على فكرة أن الضوء والمادة لهما خصائص كل من الجسيمات والموجات، وفي بعض الحالات، يتصرف الضوء كما لو كان جُسيمًا، وفي حالات أخرى، يتصرف كما لو كان مَوْجة.
بينما تصف النظرة التقليدية لوظيفة الدماغ نشاط الدماغ كتفاعل بين الخلايا العصبية، ونظرًا إلى أن كل خلية عصبية محصورة في موقع معين، فإن هذا المنظر يشبه وصف الضوء بكونه جسيمًا، لكن الباحثين وجدوا أنه في بعض المواقف، يجري وصف نشاط الدماغ بشكل أفضل على أنه تفاعل للموجات، وهو مشابه لوصف الضوء على أنه موجة.
وفي الدراسة الجديدة، لاحظ الفريق نشاط 139 خلية عصبية في نموذج حيواني لفهم أفضل لكيفية تنسيق الخلايا لاستجابتها للمعلومات المرئية، وأنشأوا إطارًا رياضيًّا لتفسير نشاط الخلايا العصبية والتنبؤ بظواهر جديدة، وقد اكتشفوا أن أفضل طريقة لشرح كيفية تصرف الخلايا العصبية كانت من خلال تفاعل موجات النشاط المجهرية بدلاً من تفاعل الخلايا العصبية الفردية.
فبدلاً من وميض من الضوء الذي يُنشط الخلايا الحسية المتخصصة، أظهر الباحثون كيف تخلق أنماطًا موزعة: موجات من النشاط عبر العديد من الخلايا المجاورة، مع قمم وقيعان متناوبة من التنشيط تُشبه الموجات، عندما يجري إنشاء هذه الموجات في وقت واحد في أماكن مختلفة من الدماغ، فإنها تصطدم حتما بعضها ببعض.
فإذا اجتمعت قمتان للنشاط، فإنها تولد نشاطًا أعلى، وإذا اجتمع قمة مع قاع يلغى النشاط، وهذا ما يحدث عندما لا يستجيب الحيوان لوميض الضوء إذا كان انتباهه مُنصرفًا لشيء آخر، ويؤكد الباحثون أن استجابة الدماغ للعالم من حولها لها علاقة بكيفية تفاعل كل هذه الموجات.
وبعد مُعالجة المعلومات الجديدة يأتي دور الذاكرة، فما فائدة معالجة المعلومات الجديدة إذا لم تتمكن من تخزينها؟ الذاكرة هي عملية تلقائية، كل حدث، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، يمر عبر مراكز الذاكرة في عقولنا، سواء أدركنا ذلك أم لا، ومع ذلك، لا يجري تخزين معظم المعلومات التي تمر بشكل دائم، وعلى الرغم من وجود العديد من النظريات المتعلقة بكيفية معالجة المعلومات في الدماغ وتخزينها، فإن معظم الخبراء يتفقون على أن العملية تتضمن ثلاث مراحل مهمة، وهي:
في المرحلة الأولى، يجري تحفيز العقل بواسطة منبه، والذي يقوم بدوره بتقييم وتحليل المعلومات التي وردت إليه، وفي هذه المرحلة يقرر الدماغ ما إذا كانت المعلومات تستحق التذكر أم لا، والمرحلة الثانية هي مرحلة التخزين، ويقوم الدماغ خلالها بتنظيم المعلومات وترميزها وتخزينها لاستخدامها في المستقبل، ومع ذلك، قد ينسى الدماغ المعلومات المخزنة بمرور الوقت إذا لم يجر تعزيزها، أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي المرحلة التي يُحدد خلالها الدماغ أفضل طريقة لاستخدام هذه المعلومات وكيف ينبغي أن يستجيب للمحفزات.
كن في موقع المعارضة.. كيف تعزز المهارات التحليلية لدى طفلك؟
يقول البروفيسور داستن تينجلي، المتخصص في مبادئ علوم البيانات خلال دورة أجرتها هارفارد على الإنترنت، «إنه من أجل تحويل البيانات، الموجودة حولنا والواردة إلينا كل دقيقة، إلى معلومات قابلة للتطبيق والاستفادة منها، تحتاج أولًا إلى تقييم جودة البيانات خطوة أولى، ثم في الخطوة التالية ستحتاج إلى تنظيم بياناتك، وبدون بنية، يكاد يكون من المستحيل استخراج أي معلومات»، وعندما تكون قادرًا على إلقاء نظرة على البيانات عالية الجودة وتنظيمها وتحليلها، فأنت هنا في طريقك الصحيح للوصول إلى العقلية التحليلية.
وفقًا لموقع «Harvard business school» فهناك بعض الطرق لتعزيز المهارات التحليلية، والتي قد تكون قادرة على إثارة تفاعلات موجات النشاط العصبي منها: النظر في وجهات النظر المعارضة سيساعدك هذا على توسيع منظور طفلك، ومكافحة التحيز لديه.
وعند تحليل البيانات، من المهم مراعاة جميع التفسيرات الممكنة وتجنب الوقوع في أسر طريقة تفكير واحدة، وهذا الأمر قد يكون من أفضل الطرق لممارسة المهارات التحليلية. إذا جاء طفلك يشكو إليك موقف حدث له بالمدرسة فيُمكنك الاستفادة من هذا الأمر وتدريبه على محاولة رؤية وجهات النظر المعارضة، اطلب منه أن يضع نفسه مكان الآخرين ويُقيم الموقف أو يُفسره من منظورهم.
ويُمكنك أيضًا صقل المهارات التحليلية لدى طفلك بشكل يومي، من خلال بعض الطرق البسيطة والممتعة، ويمكن أن تساعدك الألعاب والألغاز والقصص التي تتطلب تصور العلاقات بين المتغيرات وفحص المواقف من زوايا متعددة واستخلاص النتائج من خلال البيانات المتاحة في بناء المهارات اللازمة لتحليل البيانات، وتتضمن بعض الطرق الممتعة لممارسة التفكير التحليلي ما يلي: الكلمات المتقاطعة، الروايات البوليسية الغامضة، ألغاز المنطق، السودوكو، ألعاب الورق.
تكتسب هذه الألعاب أهميتها في دعم التفكير التحليلي وتعزيزه، وتعد إحدى أهم طرق دعم هذا التفكير لدى الأطفال كذلك هي تعليمهم كيفية حل المشكلات، فالمفكرون التحليليون جيدون بشكل خاص في حل المشكلات الواضحة من خلال العمل المنهجي المبني على الاحتمالات، ومن المرجح أن يكون لدى المفكرين المبدعين ومضات من البصيرة، التي يمكنها القفز فوق العديد من خطوات التفكير لحل المشكلات الغامضة أو المعقدة.
وكشفت دراسة جديدة لتصوير الدماغ من مختبر أبحاث الإبداع بجامعة دريكسل أن «الأنماط المعرفية» المختلفة للمفكرين المبدعين والتحليليين ترجع إلى اختلافات جوهرية في نشاط أدمغتهم والتي يمكن ملاحظتها حتى عندما لا يعمل الأشخاص على حل مشكلة ما.
أيضًا، مما يُمكنك فعله أيضًا لدعم القدرة على تنظيم البيانات وترميزها والاحتفاظ بها في الذاكرة بشكل أفضل، أن تُشجع طفلك على طرح الأسئلة، وقد يكون الرد على وابل مستمر من الأسئلة مرهقًا في بعض الأحيان، إلا أنه أمر بالغ الأهمية.
إذ إن طرح الأسئلة هو أساس التفكير النقدي والتحليلي والوقت الذي تقضيه في الإجابة عن أسئلة طفلك، أو إيجاد الإجابات معًا، سيؤتي ثماره في النهاية، وهنا، سوف يتعلم طفلك ليس فقط كيفية التعبير عن نفسه، ولكنه أيضًا ستتحسن مهاراته في التعرف إلى المعلومات أو البيانات غير الصحيحة أو المضللة من الآخرين.
بدلًا من إعطاء إجابات تلقائية للأسئلة التي يطرحها طفلك، ساعدهم على التفكير بشكل نقدي من خلال طرح أسئلة في المقابل: «ما الأفكار التي لديك عن هذا الأمر؟ ما الذي تعتقد أنه يحدث هنا؟». احترم ردودهم سواء كنت ترى أنها صحيحة أم لا، ويمكنك أن تقول: «هذا مثير للاهتمام. أخبرني لماذا تعتقد هذا».
فالتدرب باستمرار والتجربة والخطأ هما النهج الذي يجب أن تسير عليه لدعم المهارات التحليلية والنقدية لدى طفلك، ومثل كل شيء في الحياة، غالبًا ما يتعلم طفلك من خلال التجربة والخطأ، كذلك، فإن جزءًا من تعلُّم كيف تكون مفكرًا يتضمن القدرة على اتخاذ القرارات.
ولدعم هذه المهارة يُمكنك أن تعطي لطفلك مصروفًا والسماح له باتخاذ بعض الخيارات حول ما يجب فعله بالمال، ويتطلب هذا أن يفكر طفلك في خياراته والعواقب المحتملة قبل أن يتخذ قرارًا وهو ما يدعم ويُعزز مهارات التفكير التحليلي والنقدي لديه.