شهدت مصر في يوم 14 أغسطس (آب) 2013 حدثًا سياسيًّا هائلًا غيَّر وجه السياسة المصرية، فضّ اعتصام ميدان رابعة العدوية في القاهرة، المذبحة التي تقول منظَّمات حقوقية إنَّ عدد ضحاياها قارب الألف قتيل في ذروة الصراع على السلطة إبَّان الإطاحة العسكرية بالرئيس المصري محمد مرسي.

في هذا التقرير نحاول أن نُلقي الضوء على ما حدث في رابعة من منظور القانون الدولي، لنعرف متى وتحت أية معايير تصبح المذابح والقتل لمستوى «الجرائم ضدَّ الإنسانية»؟ وهل يحقُّ لمحاكم دولية أن تُقاضي مرتكبي هذه المذابح أو المشرفين عليها؟ ومتى يكون المسؤولون رفيعو المستوى في الدولة تحت طائلة المسؤولية؟ وأخيرًا ما موقع مصر والدول العربية من هذه الاتفاقيات؟ وهل هي طرفٌ فيها؟

Embed from Getty Images

من مشاهد مذبحة رابعة في 14 أغسطس (آب) 2013 

متى يصبح القتل الجماعيُّ «جريمةً ضد الإنسانية» في القانون الدولي؟

عام 1948، بعد قرابة ثلاثة أعوام من انتهاء الحرب العالمية الثانية، أُقرَّت في الأمم المتحدة «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، لتكون أول اتفاقية تُحدد المعنى القانونيَّ لـ«الإبادة الجماعية – Genocide»، سواء وقعت في وقت الحرب أو في وقت السلم، ولكنَّ تعريف الاتفاقية للإبادة الجماعية اقتصرَ على وقوعها ضدَّ مجموعات: قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية، حصرًا دونَ الإشارة للقتل الجماعيِّ ضد مجموعة من المدنيين المقتولين على يد دولتهم أو نظامها السياسي الحاكم لكونهم معارضين على سبيل المثال.

وتُصنَّف هذه الاتفاقية بوصفها من «القواعد الآمرة» في القانون الدولي، أي إن بنودها مُلزمةٌ لكافة الدول ولا يحقُّ لأي دولة أن تخرقها، حتى لو لم تكن جزءًا من هذه الاتفاقية. إذًا ما القانون الدولي الذي يُعرِّف المذابح والقتل الجماعي ضد المدنيين بوصفها «جريمة ضد الإنسانية»؟ هنا تأتي اتفاقية أخرى تسمَّى بـ«نظام روما الأساسي»، عام 1998، وهي الاتفاقية المُؤسسة والمنظِّمة لعمل المحكمة الجنائية الدولية، التي أسست وبدأت عملها عام 2002.

تُحدد الاتفاقية وتعرِّف «الجرائم ضد الإنسانية»، وتذكر الاتفاقية مجموعة من الأفعال ترقى لمستوى الجريمة ضد الإنسانية في حال نُفذت في إطار هجوم «واسع النطاق أو منهجي موجَّه» ضدَّ «مجموعة من السكان المدنيين» مع العلم المسبق بالهجوم. من بين هذه الأفعال: القتل العمد، والتعذيب (بمعنى: إلحاق ألم أو أذى شديد بدني أو عقلي)، والسجن والاختفاء القسري، وأي «أفعال لاإنسانية» مماثلة تسبِّب أذى خطيرًا جسديًّا أو عقليًّا للأفراد المُعتدى عليهم.

من المعايير المهمُّ توفرها لاستيفاء التعريف القانوني لجريمة ضد الإنسانية، أن تكون الجريمة تمَّت بعلم مسبق وخُطط لها. معيارٌ مهم آخر، أن تكون هذه الأفعال، مثل القتل العمد والإخفاء القسري، تمَّت على نطاق واسع وبشكل ممنهج، وليست حالات فردية أو عشوائية، وإنما سياسة وتوجُّه خططت له الدولة بهدف التعامل مع مجموعة من المدنيين.

جدير بالذكر هنا أن شهادات بعض المسؤولين المصريين وفق التقارير تشيرُ إلى معرفتهم المسبقة بنتائج ما حدث في فض اعتصام رابعة، وبحسب تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش»، فإن هناك «أدلة قوية توحي بأن الخطة كانت تتنبأ بمقتل عدة آلاف من المتظاهرين، وتتضمن تلك الأدلة تصريحات من وزير الداخلية محمد إبراهيم، ورئيس الوزراء في ذلك الوقت حازم الببلاوي، يقران فيها بالتحسب لمقتل ألف متظاهر في عملية الفض، وفي اليوم التالي للفض قال وزير الداخلية إبراهيم لصحيفة «المصري اليوم» إن «عملية الفض نجحت بنسبة مئة بالمئة». ويشير هذا إلى التزام تنفيذ العملية بخطة جرى وضعها. كما امتدح المسؤولون سلوك قوات الأمن في أعقاب الفض، وأقاموا نصبًا تذكاريًّا للجيش والشرطة، ووزعوا المكافآت على القوات المشاركة في أحداث ذلك اليوم».

هل مصر ملزمةٌ قانونيًّا بهذه القوانين؟

ومن المهم هنا الانتباه إلى أنَّ المحكمة الجنائية الدولية لا صلاحية لها في محاكمة الدول نفسها، ولكن تسمح لها صلاحياتها حصرًا بمحاكمة الأفراد، وتركِّز في عملها على محاكمة الأفراد الذين يقع عليهم الجزء الأكبر من مسؤولية التخطيط والتنفيذ للجرائم التي حصلت، بمعنى أنها تسعى بشكل خاص لمحاكمة كبار المسؤولين عن الجرائم، حتى لو كانوا وزراء أو برلمانيين، أو يشغلون أرفع منصب في البلاد، مثل منصب الرئيس أو رئيس الوزراء، وارتكابهم للجرائم أثناء حملهم لهذه المناصب لا يُسقط الجرم عنهم، ويحقُّ للمحكمة محاكمتهم.

Embed from Getty Images

من مشاهد مذبحة رابعة العدوية في 14 أغسطس (آب) 2013

ولكن من الجدير بالذكر في سياق الحديث عن «نظام روما الأساسي» أنَّ مصر ليست دولة عضوًا في الاتفاقية، واكتفت بالتوقيع عند تأسيسها دون المصادقة عليها، ما يعني أنها ليست مُلزمة قانونيًّا بها ولا ملزمة بالتعاون مع المحكمة أو تنفيذ طلباتها، وهذا هو الفارق بين التوقيع والمُصادقة على الاتفاقيات الدولية، وتحتاجُ المحكمة في هذه الحالة لموافقة مصر على التعاون مع المحكمة في كلِّ حالة، إذا كان المواطن المطلوب للمحاكمة مصريًّا، أو إن كانت الجريمة التي يُحقق بها وقعت في أراضٍ مصرية.

فماذا يعني هذا عمليًّا بالنسبة لمصر؟ لا سلطة قضائية للمحكمة على أي جريمة حصلت في مصر، ولا سلطة قضائية للمحكمة على الدولة المصرية أو القضاء المصري أو المصريين المسؤولين عن أي مذبحة، مع وجود استثناءات، أوَّلها إذا أعلنت مصر قبولها بالسلطة القضائية للمحكمة في قضيَّة محددة، وثانيها إذا أحال مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة قضيةً محدَّدة للمحكمة الجنائية الدولية لتحقق فيها، فيكون للمحكمة سلطة قضائية في هذه القضية حتى لو كانت تخصُّ دولةً ليست عضوًا في «نظام روما الأساسي»، مثل مصر.

ولكن ماذا لو صادقت مصر في وقت لاحق على نظام روما الأساسي وقبلت بالسلطة القضائية للمحكمة؟ لن يكون للمحكمة الحقُّ في البت في مذبحة سابقة أو أيَّة جرائم حصلت قبل تاريخ مصادقة مصر على نظام روما، إلا إذا أعلنت مصر أنها تُصادق على الاتفاقية بأثر رجعيٍّ، حينها سيكونُ للمحكمة سلطة قضائية على أية قضية وقعت بعد عام 2002، وهو عام تأسيس المحكمة.

لاستكمال الصورة: تلعبُ المحكمة الجنائية الدولية دورًا تكميليًّا للقضاء المحليِّ في البلد الذي وقعت فيه الجريمة؛ أي إن القضاء المحليَّ له الأولوية وعليه المسؤولية للتحقيق في هذه الجرائم، وفي حال تبيَّن عدم قدرة القضاء المحلي على التحقيق في هذه الجرائم، أو تبيَّن عدم وجود رغبة صادقة لفعل ذلك مع محاولات للتستر على المُشتبه بهم، يحقُّ للمحكمة آنذاك التدخل.

ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنَّ الأردن كان أول بلد عربي يُوقع ويُصادق على الاتفاقية عام 2002، والتحقت بها تونس وصادقت على الاتفاقية عام 2011 بعد الثورة، ثم صادقت عليها السلطة الفلسطينية في 2015، بعد التصويت لصالحها في الأمم المتحدة لتكون «دولة مراقب غير عضو»، ما يسمحُ لها بأن تكون طرفًا في معاهدات دولية وفي نظام روما، وهو هدفٌ سعت له السلطة الفلسطينية طويلًا لتتمكن من بدء محاكمات ضدَّ إسرائيل والمسؤولين فيها، أما باقي الدول العربية، وإيران وتركيا، فجميعها لم تصادق على الاتفاقية، بالإضافة لإسرائيل، أكبر معارضي المحكمة الجنائية الدولية وبنود نظام روما، هي وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية.

Embed from Getty Images

مبنى المحكمة الجنائية الدولية، في لاهاي في هولندا

في نظر القانون الدولي.. على مَن تقع مسؤولية تنفيذ مذبحة؟

باختصار، ينصُّ نظام روما الأساسي على أنَّ الذين يرتكبون الجرائم أو يأمرون بها، لا يُعفى عنهم إذا كانوا ارتكبوا الجريمة استجابةً لأوامر عليا من الحكومة أو من المسؤولين عنهم، سواء كان المتهمون عسكريين أم مدنيين، ولا يُعفى عنهم إلا في حالات محددة، منها عدم معرفتهم بأن ما كانوا يفعلونه غير مشروع قانونيًّا، ورغم ذلك لا يُعفيهم هذا العذرُ من تحمل المسؤولية إن كانوا ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية أو إبادةً جماعية، حتى لو لم يعرفوا بعدم قانونيَّة أفعالهم؛ إذ تعتبرُ المحكمة أن هذه الجرائم يبدو جليًّا بما فيه الكفاية أنها غير مشروعة.

عام 2005 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انعقادها عدَّة قرارات، صدرت في وثيقة «نتائج مؤتمر القمة العالمي للأمم المتحدة لعام 2005»، بعضها لتعزيز حقوق الإنسان ودور الأمم المتحدة في حمايتها، من بينها بند ينصُّ على مسؤولية كل دولة بأن تحمي سكانها من الجرائم الكبرى، مثل الجرائم ضدَّ الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، ما يعني أن الدولة التي تُشرف على تنفيذ المذابح، أو تتغاضى عنها ولا تمنعُ وقوعها، تكون مسؤولةً عن ذلك مباشرة.

مبدأ آخر في القانون الدولي يسمَّى بـ«مسؤولية القيادة»، يُحدد متى تقع المسؤولية على أعلى شخص في سلسلة القيادة والأوامر، سواء كان عسكريًّا أم مدنيًّا، وإن كان هذا الشخص مسؤولًا عن الجرائم التي ارتكبها أشخاص يعملون تحت رئاسته، سواء بأوامر منه أو بدونها. هذا المبدأ المعمول به في المحكمة الجنائية الدولية، يُحدِّد الشروط التي يكون فيها الشخص الرئيس مسؤولًا عما حصل (الرئيس هنا بمعنى الشخص المسؤول في المؤسسة أو الجهة المنفِّذة للجريمة).

وبشكل عام، للمدنيين والعسكريين، يحدِّد المبدأ ثلاثة شروط، أولها أن تكون هناك علاقة بين الرئيس ومرؤوسه، أي أن يكون الشخص المسؤول بالفعل رئيسًا لمن ارتكبوا الجرائم، وثانيًا أن يكون المسؤول على علم بما فعله مرؤوسوه أو ينوون فعله، وثالثًا أن يكون قد تهاون «في اتخاذ التدابير الضرورية والمعقولة لمنع اقتراف الأعمال» الإجرامية المذكورة.

  • في حال كان المسؤول مدنيًّا: ينصُّ المبدأ على ضرورة توفُّر شرطين معًا لتحميله المسؤولية، أولًا: إذا ثبت أن الشخص الرئيس وصلته معلومات عما يفعله مرؤوسوه أو ما يخططون لفعله، وثانيًا إذا ثبت أنه أغفل هذه المعلومات، بمعنى أنه تجاهلها أو لم يتدخل بناءً على ما عرفه.
  • في حال كان المسؤول عسكريًّا: ليس من الضروري أن يثبت أنه كان يعرف بشكل كامل بما سيحصل، بل يكفي أن تعرف المحكمة أن المسؤول كانت لديه «بعض معلومات عامة» يمكن أن تكشف له أو تعرِّفه بالأفعال التي قد يرتكبها مرؤوسوه. ما يعني أن القائد العسكري لو لم يعرف، فسيكون مسؤولًا عن عدم معرفته.

فض رابعة.. تحت أي تصنيف؟

في الخلاصة، يظلُّ تصنيف أحداث قتل جماعي كبيرة مثل التي وقعت في مذبحة رابعة مسألة صعبة ومعقدة وبحاجة لرأي قانوني مختص ودقيق، ولكن وفقًا للتعريفات المكتوبة في نظام روما، تأتي مذبحة رابعة في تصنيف أقرب للجرائم ضد الإنسانية، لأنها مذبحة في حقِّ مدنيين، من المرجَّح أن مسؤولين في الدولة المصرية خططوا لها مسبقًا ونفَّذوها عن سبق علم وتعمُّد، وتمَّت بشكل ممنهج وواسع النطاق، وتسبَّب بمقتل قرابة ألف مصري، مع علم بعض المسؤولين عن الفضِّ بعدد الضحايا الكبير المتوقع من عملية بهذا الحجم والأسلوب.

جدير بالذكر أن النظام المصري يمكنه الرد بأن ذلك جاء في ضوء احتواء الاعتصام على أسلحة، وجدير بالذكر هنا أيضًا أن المنظمات الحقوقية في تقاريرها تؤكد أن ظاهرة وجود الأسلحة بين بعض المعتصمين كانت ضئيلة.

وفي تحقيق وتقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش»، المنشور بعد عام من مذبحة رابعة، تذكرُ المنظمة اقتناعها بأنَّ فضَّ مذبحة رابعة، وأحداث أخرى وقعت فيها حالات قتل جماعي، لم تكن عشوائية أو عفوية، وترى أنها خطط لها ونفذت بشكل ممنهج وواسع النطاق، استُخدمت فيه القوة بهدف القتل. وقد خلص التقرير إلى أن هذه الأحداث «على الأرجح» ترقى «إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية».

إعلام

منذ سنتين
«ميدل إيست آي»: مسلسل «الاختيار 2».. عندما تعيد الدولة كتابة تاريخ المذبحة

المصادر

تحميل المزيد