لدى عودته من زيارةٍ رسمية إلى إيران، في 20 يوليو (تموز) 2022 أجاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أسئلة الصحافيين على متن الطائرة قائلًا «نريد أن تكون روسيا وإيران معنا في مكافحة التنظيمات الإرهابية على بعد 30 كم من الحدود الجنوبية لتركيا، وعليهما إمدادنا بالدعم اللازم».
هذا التصريح الحديث يعد تغييرًا محوريًا في المشهد السوري؛ إذ لم تكن تركيا على مدى السنوات السابقة على وفاق مع وجود المقاتلين الإيرانيين قرب حدودها، ويدل على هذا أن جميع الدوريات ونقاط المراقبة التي جرى إقرارها في اتفاق «خفض التصعيد» كانت روسية – تركية، على الرغم من العلاقات الجيدة بين تركيا وإيران.
ويبدو أن أردوغان استند في تصريحه خلال عودته من إيران على البروتوكول الأمني الذي وقعته أنقرة مع طهران في أول زيارة رسمية قام بها أردوغان إلى إيران، في يوليو 2004، وأكدتا التزامهما بالأمن الإقليمي ومحاربة «حزب العمال الكردستاني» المصنف إرهابيًا على اللوائح التركية.
فعلى مدار الشهرين الماضيين، ومنذ بدء الساسة الأتراك التصريح بنيتهم شن عملية عسكرية في شمال سوريا وتحديدا في المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية المدعومة من واشنطن، لم تستجب طهران وموسكو – حليفًا تركيًا في الملف السوري – لطلب أنقرة، وعارضتا شن عملية عسكرية حتى خلال القمة الأخيرة التي عقدت بين رؤساء الدول الثلاث في التاسع عشر من يوليو 2022 بطهران، لكن ما الذي ستسفر عنه القمة الأخيرة؟ وهل تمهد لدخول النظام السوري إلى مناطق شمال شرق سوريا؟
خطوات مهدت للقبول بالنظام السوري
في مطلع مايو (أيار) 2022 أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تحضير بلاده لمشروع يتيح العودة الطوعية لمليون لاجئ سوري إلى بلادهم، وجاء ذلك خلال مشاركته عبر رسالة مصورة في مراسم تسليم منازل مبنية من الطوب في إدلب السورية.
Embed from Getty Images
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفي الخلفية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
وفي بداية يونيو (حزيران) 2022 لوّح أردوغان أمام البرلمان التركي بشن عملية عسكرية في بلدتين بشمال سوريا (تل رفعت ومنبج) تستهدف «وحدات حماية الشعب» التابعة لقوات «سوريا الديمقراطية (قسد)» المدعومة أمريكيًا وتعتبرها أنقرة «إرهابية»، وكان الرئيس التركي قد شدّد خلال الاتفاق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأواخر مايو 2022 على ضرورة إنشاء «المنطقة الآمنة» على طول الحدود السورية-التركية.
لكن في يوليو 2022 جددت الولايات المتحدة الأمريكية – الداعم الرئيسي لقوات «سوريا الديمقراطية» في سوريا – رفضها لعملية عسكرية تركية في شمال البلاد، وقالت نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكية، دانا سترول، في مؤتمر صحافي: «سيستفيد تنظيم الدولة (داعش) من تلك الحملة، ناهيك عن التأثير الإنساني».
ومن جانبه قال مظلوم عبدي، قائد «قسد»، في مؤتمرٍ صحافيٍ عقده في 15 يوليو 2022: إن «دعوات التحالف الدولي والولايات المتحدة والمواقف الدولية غير كافية لردع التهديدات ووقف التصعيد»، وبدورها قالت رئيسة اللجنة التنفيذية لـ«مجلس سوريا الديمقراطية» (أحد الأذرع الرئيسة للإدارة الكردية بشمال شرق سوريا) إلهام أحمد في تصريح لموقع «المونيتور»: «لم يقدم المسؤولون الأمريكيون ولا الروس ضمانات أمنية ردًا على تهديدات تركيا».
إلا أن بعض التقارير أفادت بأن واشنطن قدمت مقترحات لـ«قسد»، بما في ذلك «تسليم بعض المناطق شرق نهر الفرات للقوات التركية لتبديد مخاوف أنقرة، مقابل إبقاء المناطق الأخرى على الحياد»، نقلًا عن مصادر خاصة، بينما تداولت صفحات كردية على «فيسبوك» أنباءً في السابع من يوليو 2022 تفيد بأن المجلس العسكري الكردي رفض طلبًا أمريكيًا لتسليم منبج.
وأسفرت هذه الخطوات للنظام السوري، عن قبول كردي بالنظام السوري؛ إذ كشفت صحيفة «الوطن» الموالية للنظام السوري، أن «قسد» أقامت غرف عمليات عسكرية مشتركة مع النظام السوري في مدينتي منبج وتل رفعت بريف حلب الشمالي لمواجهة العملية العسكرية التركية المتوقعة، وذلك عقب إعلان تحالف مع دمشق في وقت سابق من هذا الشهر.
وقال عضو مجلس منبج العسكري – تابع لقوات سوريا الديمقراطية – الذي يشارك في غرفة عمليات مشتركة مع النظام، لموقع «سوريا على طول» إن دمشق و«قسد» تعملان أيضًا على «إنشاء غرفة عمليات مشتركة جديدة في اللواء 93 في عين عيسى»، مشيرًا إلى أن «550 عنصرًا من قوات النظام دخلت مناطق سيطرة قسد بأسلحة ثقيلة، وراجمات صواريخ، ودبابات، وأسلحة أخرى، وأن القوات المنتشرة في منبج وكوباني وعين عيسى وتل رفعت، هي الدفعة الأولى المكونة من 3 آلاف جندي من قوات النظام».
التطورات والتنسيق بين النظام والقوى الكردية، وصفها المتحدث باسم وحدات «حماية الشعب»، نوري محمود، في حديث لوكالة «سبوتنيك» الروسية بـ«الإيجابية»، في حين أكد مظلوم عبدي قائد «قسد»، في تصريح لوكالة «رويترز»، إن قواته «منفتحة» على العمل مع قوات النظام للتصدي لتركيا.
ولا تعد هذه التصريحات جديدة؛ إذ أعلن الرئيس المشترك لـ«مجلس سوريا الديمقراطية»، رياض درار، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، خلال تصريح لشبكة «رووداو» الكردية، أن «قسد» ستنضم للجيش السوري الذي سيتكفل بتسليحها عندما تتحقق التسوية السورية، وذلك في أعقاب إعلان تركيا لعملية «غصن الزيتون» التي سيطرت فيها على مدينة عفرين غربي محافظة حلب.
لماذا فشل إطلاق العملية التركية؟
فشلت تركيا في الحصول على الضوء الأخضر من الأطراف الدولية المنخرطة في المشهد السوري (الولايات المتحدة – روسيا – إيران) للمضي قدمًا في الخطة، ولم تحقق اختراقًا قويًا، في غضون ذلك، أرسل الإيرانيون تعزيزات لميليشياتهم في بلدتين شيعيتين شمال غرب حلب، وهما ليسا ببعيدتين عن المناطق التي تنوي أنقرة دخولها.
خطوات موسكو وطهران لإقناع تركيا بالعدول عن هذه الخطوة، كانت عبر تصريحات إعلامية وزيارات أبرزها زيارة لوزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، لأنقرة، في يونيو (حزيران) 2022، ولاحقًا إرسال طهران لمسؤول في المخابرات العسكرية إلى أنقرة لنقل اعتراضاتها، وفق ما نقله موقع «المونيتور»، وأخيرًا وخلال زيارة أردوغان لإيران، في 19 يوليو 2022؛ إذ قال المرشد الإيراني، علي خامنئي، للرئيس التركي: إن «أي عمل عسكري في سوريا سيعود بالضرر على تركيا وسوريا والمنطقة بأكملها».
ومن جهته يقول السياسي السوري، وعضو «الائتلاف السوري» المعارض، زكريا ملاحفجي، لـ«ساسة بوست»: «هناك رغبة من جانب روسيا والنظام السوري والإيرانيين ببسط نفوذهم على شمال سوريا، ولكن ما يقف أمامهم هو الوجود الأمريكي في هذه المناطق، وكانت الفترة الماضية منذ إعلان أنقرة عن عملية عسكرية، عبارة عن حالة من التفاوض المستمر».
ويعتقد ملاحفجي، أن طلب الرئيس التركي من إيران وروسيا مساعدته في شمال سوريا هي بمعنى «السماح والقبول بالعملية التركية وعدم الاصطدام مع الجيش التركي، بسبب وجود روسيا والنظام في هذه المنطقة».
إلا أن المحلل العسكري، العقيد عبد الله حلاوة، يرى في حديثه لـ«ساسة بوست»، عكس ذلك؛ إذ يعتقد أن الطلب التركي، مجرد استغلال لطلب «قسد» من النظام بدخول مناطق سيطرته ومواجهة الجيش التركي، «عبر استحواذ النظام، وبالطبع الإيرانيين، على المنطقة».
ومن جانبه، يقول المحلل العسكري، العقيد مصطفى الفرحات، لـ«ساسة بوست»، إن العملية العسكرية التركية باتت بحكم «المجمّدة وشبه مُعطلة»؛ لأن التصريحات لا تعكس الحقيقة؛ إذ أكد أردوغان خلال عودته من القمة الثلاثية في طهران، أن «ملف العملية العسكرية الجديدة شمالي سوريا سيظل مدرجا على أجندته»، في حين نصّ البيان الختامي للقمة على رفض أية محاولة «لخلق وقائع جديدة على الأرض بحجة مكافحة الإرهاب».
نفوذ جديد لطهران.. هل كسبت إيران الجولة؟
يمثل الوجود العسكري التركي في سوريا منذ أغسطس (آب) 2016 مصدر قلق أكبر لإيران الحليف الحربي للأسد، كما وصفت وسائل الإعلام الإيرانية وجود تركيا بأنه «غزو»، وأشارت إلى «الجيش الوطني السوري» المعارض الذي تدعمه أنقرة، على أنهم «إرهابيون تدعمهم تركيا».
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع المرشد الإيراني علي خامنئي
كما اتهمت إيران تركيا بدفع التغييرات الديموغرافية على حساب الأكراد، وتوسيع مساحة «الإرهابيين» حسب وصفها، تحت غطاء المناطق الآمنة، والسعي وراء مكاسب لاستخدامها ضد دمشق في محادثات مستقبلية أو تمهيد الطريق لضم الأراضي السورية، لكن في المقابل استخدمت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة التركية تسمية «الإرهابية» للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في سوريا والعراق.
وهنا يشير العقيد مصطفى الفرحات، إلى أن دخول القوات الإيرانية مع قوات النظام إلى المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، استغلته طهران في تبديد حجج أنقرة فيما يخص شمال سوريا؛ إذ بدخولهما تؤكد إيران لتركيا أن «قسد» لن تكون قادرة على مهاجمة الأراضي التركية أو قواتها في سوريا، وأنهم قادرون على إدارة هذه المناطق وضبط سلوك «قسد».
ومن جانبه يقول الباحث المشارك في «المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية» (أفايب)، مصطفى النعيمي، لـ«ساسة بوست»: إن «موقف تركيا تجاه عمليتها العسكرية في شمال سوريا يرتكز على مسألة التهديدات المستمرة من (حزب العمال الكردستاني) و(وحدات حماية الشعب) الكردية المصنفة على قوائم الإرهاب التركية، وأنه بموجب اتفاقية (أضنة) الأخيرة تسمح من خلالها توغل القوات التركية بعمق 30 كم داخل الشريط الحدودي مع سوريا.
ووفق حديث النعيمي فإن وجهات النظر المتباينة حول العملية العسكرية تأتي في سياق سؤال: ماذا لو جرى تحييد خطر من تصفهم أنقرة بالإرهابين؟ هل ستمضي تركيا قدما تجاه تنفيذ العملية العسكرية؟ وعليه فإن المسألة ستدخل في التعقيد بشكل تلقائي نظرًا لزوال سبب العملية، إضافة إلى أن «قوات سوريا الديمقراطية» أجرت تفاهمات مع القادة بدمشق وموسكو حول السماح لقوات النظام السوري بالدخول إلى مدينتي تل رفعت ومنبج، وذلك من أجل منع تركيا من تحقيق رغبتها في العملية العسكرية.
صراع المصالح
وفقًا لما ذكره يوسف إريم، محلل الشؤون التركية ومحرر «TRT World» التركية في تصريح لموقع «الجزيرة»، فإن السيناريو الذي يمكن لإيران العمل عليه، هو أن تجعل الأتراك يحدون من نطاق العملية العسكرية، مع دفع «وحدات حماية الشعب» الكردية بالقرب من دمشق، وهذا سيكون انتصارًا كبيرًا لطهران ونظام الأسد.
وبحسب تحليل يمان دابقي، الباحث الرئيس سابقًا لدى مركز «برق» للاستشارات، لـ«ساسة بوست»، فإن المساحة وهامش المناورة التي توفّرت لتركيا على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، تُجابه بـ«مكرٍ وخداع روسي إيراني بالدرجة الأولى وأمريكي ثانيًا، بهدف تقليص المكاسب التركية واحتواء مخاوفها، وعدم تغيير في خرائط السيطرة السورية».
وطبقًا لحديث دابقي، فإن روسيا أعادت الزخم لدور إيران في سوريا، ومنحتها هامش مناورة كانت قد فقدته سياسيًا منذ العام 2019، والحقيقة الماثلة واللغز الجوهري هو «قسد» وضرورة الحفاظ عليها دوليًا، فالكل عندما يريد أن يضغط على تركيا يستخدم «قسد»، وعندما يرغب تقديم تنازل لها يكون عن طريق «قسد».
ويرى دابقي، أن قمة طهران الأخيرة، أفرزت حجم الخلافات والتناقضات في المصالح بين ثلاثي «أستانة»، لدرجة أصبح التعقيد سيد الموقف، ونقطة الخلاف الأبرز حول مفهوم محاربة الإرهاب، بينما نقطة الالتقاء الوحيدة التوافق على قسمة النفوذ الأمريكي شرق الفرات الذي التقط اليوم الإشارة وأطلق تصريحات داعمة لـ«قسد».
بينما يرى النعيمي أن المنطقة ستبقى رهينة الإرهاصات خاصة أن الخليط غير المتجانس (النظام – «قسد» جمعتهم الضرورة وحتما سيبحثون عن البدائل المتاحة، ولن تهدأ المنطقة طالما أن المنظومة الدولية تعالج العرض وتترك المرض المتمثل في بقاء النظام السوري على ماهيته رغم كافة الجرائم التي ارتكبها، فعلى مدار 11 عامًا حرصت القوى الدولية على بقاء النظام السوري بماهيته حتى إيجاد البديل، وما مناطق النفوذ العسكرية في الجغرافية السورية إلا شكلًا من إدارة الأزمة حتى اللحظة وبنسب متفاوتة.