من بين الأسماء الخالدة في الذاكرة الشعبية، يبرز اسم سليمان الحلبي، يعرفه الجميع بأنه قاتل كليبر، وبأن مصيره كان الإعدام على الخازوق في انتقام فرنسي وحشي، لكن الكثيرين تغيب عنهم الكثير من التفاصيل في قصة سليمان الحلبي، الذي استطاع بمفرده أن يسدد ضربة قاصمة إلى الجيش الفرنسي في مصر.

من بونابرت إلى كليبر.. المصريون «لا يملون الثورات»

كان نابليون قد بذل جهودًا مضنية لاستمالة المصريين؛ إذ ادعى احترامه للدين الإسلامي وللنبي محمد، ويروي عنه الجبرتي أنه خاطب المصريين بعبارات جاء فيها «قد قيل لكم، إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم»، كما أشرك العلماء في الدواوين التي أنشأها لتسيير شؤون القاهرة والمحافظات، وكتب إلى شريف مكة يعده بإرسال أوقاف الحرمين الشريفين، وشارك المصريين في الاحتفال بالمولد النبي، كل ذلك في محاولة لكسب ثقة الشعب واتقاء غضبه.

غير أن كل تلك الجهود قد ذهبت أدراج الرياح، فلم تنطو خدع نابليون على المصريين، الذين اشتعلت في نفوسهم نيران الغضب ضد المحتل الطارئ، وأخذ المشايخ يحرضون المصريين على الثورة، فانضم إليهم طوائف من المصريين وبخاصة أصحاب الحرف، ونودي بالثورة من على مآذن المساجد، وصار الجامع الأزهر مركزًا للانتفاضة التي عرفت باسم «ثورة القاهرة الأولى»، التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) 1798.

عصفت المفاجأة بالجنود الفرنسيين، وقتل الثائرون حاكم القاهرة الفرنسي الجنرال ديبوي، فشرع نابليون في الانتقام، فنصب المدافع حول القاهرة، وقتل الفرنسيون كل من اشتبهوا في صلته بالثورة، واقتحمت الخيول الفرنسية صحن الجامع الأزهر وعاثت فيه، وربط الفرنسيون خيولهم بقبلة المسجد وكسروا القناديل، وزاد بطش الفرنسيين بالأهالي، كما زاد التباعد بين نابليون والمصريين بعدما أدرك فشل مخططاته في استمالتهم.

ثورة القاهرة

لوحة تصور ثورات المصريين ضد الاحتلال الفرنسي والانتقام الفرنسي 

تكسرت أحلام نابليون في السيطرة السريعة على مصر والشام بإنشاء إمبراطورية فرنسية في الشرق على صخرة المقاومة الشعبية، ومع اضطراب الأوضاع في فرنسا وجد بونابرت نفسه مضطرًّا إلى الرحيل سرًّا عن مصر في أغسطس (آب) 1799، وسلم قيادة الحملة إلى الجنرال كليبر، الذي كان قد أسند إليه حكم مدينة الإسكندرية منذ بداية الحملة. كان كليبر قد تطوع في صفوف الجيش الفرنسي قبل سبع سنوات فقط، وترقى في صفوفه سريعًا حتى وصل إلى رتبة الجنرال، وكان نابليون يرى أنه أكفأ قادته العسكريين، ولذلك استخلفه على الجيش الفرنسي من بعده.

لكن المصريين ما لبثوا أن أعادوا الكرة مع كليبر كما فعلوها مع سلفه نابليون، فاندلعت ثورة القاهرة من حي بولاق أبو العلا بقيادة الحاج مصطفى البشتيلي، وبنى المصريون الحصون، وصنعوا البارود والقنابل تأهبًا لقتال كليبر الذي عاد بجيشه سريعًا بعدما أدرك عظم الخطب، فحاصر القاهرة قرابة شهر، وعلى الرغم من بسالة المصريين في المقاومة فقد تمكن الفرنسيون من إخماد الثورة في النهاية، وأباح كليبر القاهرة لجنوده يعيثون فيها نهبًا وانتقامًا.

لكن كليبر، وبعدما ظن أنه تمكن من إخماد ثورة المصريين، لم يكن يعلم أنه يسير بسرعة البرق إلى حتفه، فهو لم ينتصر سوى في جولة أخرى من معركة ستنتهي فصولها قريبًا على عكس هوى حكومته، وأن قربان تلك المعركة سيكون رأس كليبر نفسه، على يد شاب من بسطاء الشام، سيخلِّد التاريخ اسمه، يُدعى سليمان الحلبي.

من حلب إلى القاهرة.. سليمان الحلبي يقهر جيشًا بمفرده

في عام 1777، وفي قرية عفرين التي تقع شمال غربي مدينة حلب السورية، رُزق محمد أمين بابنه سليمان، كان الأب يعمل في بيع الزيوت والسمن، ولم يكد ابنه يتم عامه العشرين حتى أرسله أبوه للدراسة في الأزهر، وكان من ضمن من تتلمذ على أيديهم الشيخ أحمد الشرقاوي، الذي رفض الاستسلام للغزو الفرنسي عام 1798، وساهم في إشعال فتيل ثورة القاهرة الأولى، التي أخمدها الفرنسيون بلا رحمة، وحكموا على ستة من شيوخ الأزهر بالإعدام، كان من بينهم الشيخ أحمد الشرقاوي معلم سليمان الحلبي.

غادر سليمان مصر إلى حلب، قبل أن يعود إلى مصر في منتصف عام 1800، وقد بيت النية على قتل زعيم العسكر الفرنسيين في مصر، الجنرال كليبر. تتعدد الروايات في تفسير دوافع سليمان لقطع تلك المسافة الطويلة في سبيل قتل كليبر، رغم علمه بأنها مهمة سيكون ثمنها في الغالب حياته نفسها؛ إذ يذكر الجبرتي أنه فعل ذلك سعيًا وراء مصالح شخصية، وسعيًا في أن يُعين ضابطًا برتبة رفيعة في الجيش العثماني، أو أملًا في أن يسقط والي حلب ديونًا وضرائب كانت قد تراكمت على والده، فوجهه ضابط عثماني إلى السعي في اغتيال كليبر في مقابل إسقاط تلك الديون والضرائب.

سليمان الحلبي قاتل كليبر

فيما يرى البعض الآخر أن خطوة سليمان الحلبي قد جاءت بدافع عقائدي ووطني صرف، فقد كانت دعوات «الجهاد» ضد المحتل الفرنسي على أشدها، خاصة بعد مجازر الفرنسيين في مصر والشام، وأيًّا يكن الدافع الحقيقي وراء الاغتيال، فقد قطع سليمان الحلبي كل تلك المسافة إلى مصر، حيث نزل لدى رجل يدعى مصطفى أفندي البرصلي، وقد كتم الحلبي خطته إلا عن ثلاثة من طلاب الأزهر الذين وثق بهم.

تاريخ

منذ 3 سنوات
مستشرق فرنسي ترجم القرآن وألهم نابليون ليغزو مصر.. من هو؟

وفي يوم الرابع عشر من يونيو (حزيران) 1800، تنكر سليمان الحلبي على هيئة شحاذ، حيث اعترض طريق كليبر في حديقة قصره، مد إليه كليبر يده ينتظر تقبيلها مكافأة على إحسانه، فانقض سليمان على الجنرال ووجه إليه طعنات قاتلة، كانت كفيلة بإنهاء حياته، قبل أن يركض سليمان هاربًا ووراءه حراس الجنرال الذين ألقوا القبض عليه مختبئًا في بستان مجاور.

الانتقام الفرنسي «الوحشي» من سليمان الحلبي

انهارت معنويات الجنود الفرنسيين بعد مقتل قائدهم، وقد نظمت له جنازة مهيبة أطلقت خلالها طلقات المدفعية من القلعة حتى وصلت الجنازة إلى مزرعة حصينة، وقد تقدمت الموكب قوة من سلاح الفرسان وخمس فرق مدفعية. كان النعش محمولًا على عربة محاطة بأسلحة الجنرال، وأعلى النعش وضعت قبعة الجنرال وسيفه، وقد نقُش اسمه على قوس النصر في باريس على الجهة الجنوبية، تخليدا له بين أسماء أبرز القادة في تاريخ فرنسا.

إعدام سليمان الحلبي على الخازوق

إعدام سليمان الحلبي على الخازوق

تشكلت محاكمة عسكرية للتحقيق مع سليمان الحلبي، الذي اعترف تحت وطأة تعذيب الفرنسيين بأنه قد حضر من غزة على متن قافلة محملة بالصابون، وقد خطط لقتل «ساري عسكر العام» (أي قائد الجيش كليبر) مع بعض أغوات الإنكشارية منهم أحمد أغا وياسين أغا، وأنه اشترى السلاح الذي نفذ به عملية الاغتيال من سوق غزة. وجهت المحكمة الاتهامات إلى سليمان، وأربعة من رفاقه الأزهريين الذين أفضى إليهم بعزمه على الاغتيال، ومصطفى أفندي البرصلي، ووكلت مترجمًا من جانبها للدفاع عنهم.

حكمت المحكمة بإحراق اليد اليمنى لسليمان الحلبي التي قتل بها الجنرال، وإعدامه على خازوق حتى  الموت، وإعدام رفاقه الذين علموا خطته وأخفوا الأمر عن الفرنسيين، فيما أفرج عن الشيخ البرصلي بعدما ثبت أنه لم يعلم بالأمر، وقد بقيت جثة الحلبي عدة أيام تنهشها الطير، قبل أن يفصل الفرنسيون رأسه عن جسده، حيث أرسل الرأس إلى متحف كلية الطب في العاصمة الفرنسية، قبل أن ينقل إلى «متحف الإنسان» في باريس، وما زال موجودًا هناك منذ ذلك اليوم.

حقوق إنسان

منذ سنتين
متحف الإنسان.. حيث تتباهى فرنسا بعرض جماجم ثوار مستعمراتها السابقة

 

المصادر

تحميل المزيد