بعد سنواتٍ من الحروب والدماء، وشهورٍ أخرى من المظاهرات، رسم العنف والتطرف أحد فصولها وتكفَّلت الانقلابات العسكرية والتدخلات الأجنبية برسم الباقي؛ بدأت مالي في لجم النفوذ الأجنبي في بلادها عبر الضغوط الدبلوماسية ومحاولة الخروج من العزلة الإقليمية والدولية.
فبعد الأزمة السياسية مع باريس، وطرد السفير الفرنسي من العاصمة المالية بداية 2022؛ والضغوط التي دفعت باريس إلى سحب قواتها وتوقيف عملياتها العسكرية في الأراضي المالية؛ إضافةً إلى قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر يوم 30 يونيو (حزيران) 2022، والذي نص على تمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة للسلام في مالي لمدة عام، دون دعم جوي فرنسي كما كان في السابق، بعد رفض مالي للدور الفرنسي في هذه البعثة؛ استدعت الخارجية المالية يوم الجمعة 1 يوليو (تموز) 2022، السفير الإسباني في باماكو؛ على خلفية تصريحاتٍ أدلى بها وزير الخارجية الإسباني أثناء قمة الناتو التي احتضنتها مدريد أواخر الشهر الماضي؛ بعد أن رأت إسبانيا أن «تدخُّل الناتو في مالي ليس مستبعدًا».
لكن سرعان ما نفت مدريد عبر سفارتها في مالي أي تصريحاتٍ لها تخص الإشارة إلى أن «تدخل الناتو في مالي ليس مستبعدًا»؛ وذلك بعد ساعاتٍ فقط من استدعاء سفيرها وطلب الخارجية المالية توضيحات.
وعلاوة على ما سبق، فإن التحالفات الجديدة التي عقدتها دولة مالي، مع روسيا وتركيا؛ تزيد من ضبابية المشهد في الساحل الأفريقي؛ كما تدفع جهود الآلة الدبلوماسية المالية التي يقودها وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب إلى تحقيق نتائج ملموسة، بعيدًا عن «دوي المدافع».
فرنسا الخاسر الأكبر من صحوة مالي الدبلوماسية
منذ نيل دولة مالي استقلالها عن فرنسا في 22 سبتمبر (أيلول) سنة 1960؛ ظلت باماكو جمهورية تابعة لفرنسا؛ تعبث بها الإرادة الفرنسية كما تريد؛ فعلاوة على اللغة الفرنسية التي فرضت على الماليين؛ ارتبط اقتصاد مالي وخيراتها بفرنسا ارتباطًا وثيقًا؛ فكانت جمهورية مالي إحدى أهم الدول الأفريقية المُشكِّلة لحديقة فرنسا الخلفية الذهبية.
من هذا المنطلق، ظلت فرنسا تحكم البلد الأفريقي الصغير من خلف الستار؛ وتعاقب على حكم مالي حكَّام اشتركوا في قربهم من قصر الإليزيه؛ حتى سنة 2013 التي شهدت أكبر تهديدٍ لحكومة مالي منذ استقلالها؛ وذلك بعد سقوط المدن المالية في الشمال كأحجار الدومينو في يد جماعات انفصالية مسلحة.
فقبل نحو تسعة أعوام، استنجدت مالي بمُستعمِرها القديم، بُغية تخليصها من هجمات الجماعات الانفصالية التي هددت العاصمة باماكو، وبالفعل أرسلت فرنسا قواتها إلى شمال مالي عام 2013. تلبية باريس للمهمة جاء ظنًّا منها أنها ستقضي على الانفصاليين خلال أسابيع، إلَّا أنها وجدت نفسها مضطرة إلى خوض معارك شرسة تحوَّلت فيما بعد إلى أشبه بحرب مفتوحة تأبى أن تفرز منتصرًا واحدًا.
في البداية نشرت فرنسا نحو 5100 جندي فرنسي مع طائرات ومركبات في منطقة تمتد عبر موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، وأطلقت «عملية برخان» عام 2014 من أجل دحر المسلحين الإسلاميين – وفق الاسم الذي يطلقه الغرب على الجماعات الانفصالية في مالي – بالمنطقة.
وبالرغم من الأموال الباهظة التي صرفتها باريس في عملياتها العسكرية في مالي، وتكبدها خسائر عسكرية فاقت المتوقع؛ فإنَّ الخسارة الأكبر من ذلك، كان خروجها المذل من مالي بعد معركة دبلوماسية أكثر منها عسكرية.
فبعد مظاهرات حاشدة ترفض الوجود الفرنسي في البلاد؛ وصلت العلاقة بين المجلس العسكري الحاكم لمالي والسلطات الفرنسية طريقًا مسدودًا؛ بدأ بطرد السفير الفرنسي من مالي في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) 2022؛ ونجاح الحكومة المالية في إجبار فرنسا على إنهاء عملية «برخان العسكرية» بعد تغيُّر الحكَّام في مالي بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في أغسطس (آب) 2020 قبل أن يتبعه انقلاب عسكري آخر في مايو (أيار) 2021، وسحب فرنسا جميع قواتها المتمركزة في البلاد، ليُكتب فصل نهاية النفوذ الفرنسي في البلاد.

لقاء سابق بين رئيس المجلس العسكري أسيمي غوتا والسفير الفرنسي جويل ميير
لم تكتف الحكومة المالية بضغوطها المباشرة على باريس لإجبارها على الرحيل، بل تعدتها إلى مستوياتٍ أخرى؛ فقد نجحت الحكومة المالية أيضًا في استصدار قرارٍ من مجلس الأمن الدولي لتمديد البعثة الأممية في مالي وفقًا لشروطها؛ وأهم تلك الشروط أن تكون القوات الفرنسية خارج تلك البعثة!
وبالفعل قرر مجلس الأمن الدولي الخميس 30 يونيو (حزيران) 2022، تمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة للسلام في مالي لمدة عام واحدٍ دون دعم جوي فرنسي كما في السابق، وهو ما قد يدفع الدول الأوروبية إلى مغادرة هذه القوة الدولية التي تتألف من نحو 15 ألف جندي وشرطي. وأمام هذه المعطيات، أعلنت باريس الجمعة 1 يوليو (تموز) 2022، انتهاء عمل القوات الخاصة الأوروبية «تاكوبا» في مالي بسبب التوتر بينها وبين حكام مالي الجدد.
لكن باريس ليست وحدها المرفوضة من قِبل الحكومة المالية؛ فحكومة باماكو تعاملت مع حلفاء باريس في المنطقة بالمنطق نفسه، إذ أعلنت حكومة مالي انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس ومن قوتها العسكرية المكلفة بقتال الجماعات الانفصالية المسلحة في المنطقة؛ وهي المجموعة التي أُنشئت بدعمٍ فرنسي عام 2017 لمواجهة الجهاديين والمسلحين الذين اجتاحوا المنطقة في السنوات الأخيرة.
ويأتي انسحاب مالي من المجموعة احتجاجًا على رفض توليها رئاسة هذه المنظمة الإقليمية التي تضم أيضًا موريتانيا وتشاد وبوركينا فاسو والنيجر، وقال بيان للحكومة المالية إن «اعتراض بعض الأعضاء على رئاسة مالي يعود إلى ارتباط هذه الدول بدولة خارج المنطقة تسعى جاهدة إلى عزل باماكو»، في إشارة إلى فرنسا.

اجتماع قمة أعضاء منظمة إكواس حول رفع العقوبات ضد مالي
ونجحت الحكومة المالية أيضًا في رفع العقوبات المسلطة عليها من قبل قادة المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا «إيكواس» منذ يناير 2022 وذلك بعد اجتماع قادة المنظمة اليوم الأحد 3 يوليو 2022 في أكرا الغانية.
تنصلت من التصريحات المسيئة لمالي: هل تخشى إسبانيا مصير فرنسا؟
لم تكن أجندة قمة الناتو المنعقدة في مدريد نهاية الشهر الماضي؛ مقتصرةً على دراسة الوضع العسكري في أوكرانيا وسبل دعمها ضد الغزو الروسي، أو مخططات كبح جماح التنين الصيني القادم من الخلف؛ فقد كان الوضع في مالي موضوع نقاشٍ وبحث بين أعضاء حلف الشمال الأطلسي؛ وذلك بعد أن طلبت إسبانيا من الحلف أخذ التهديدات القادمة من مالي بمحمل الجد، في إشارة إلى تدهور الوضع الأمني في الساحل الأفريقي وما يرافقه من موجة هجرة جماعية ستجتاح أوروبا، واعتبر وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألفاريز، أن فرضية «تدخل حلف شمال الأطلسي في مالي غير مستبعدة».
وقال ألبارز في تصريح للمحطة الإذاعية الرسمية «إر إن إي» على هامش قمة الأطلسي في مدريد: «لا يمكننا أن نستبعد ذلك. لم يجر التطرُّق إلى هذه القضيَّة خلال النقاشات في مدريد، لأن القمة مخصصة لتحديد إطار عمل حلف شمال الأطلسي. لكن إذا لزم الأمر وحصل تهديد لأمننا، بالتأكيد سنفعل ذلك».
هذه التصريحات الإسبانية هي ما دفعت حكومة مالي إلى تحريك دبلوماسيتها من خلال استدعاء سفير إسبانيا لديها يوم الجمعة الماضية، وطلب توضيحات من مدريد ووصف التصريحات بأنها غير مقبولة وغير ودِّية وخطرة».
لم يتأخر الرد الإسباني بعد استدعاء سفيره في باماكو؛ حيث ردت السفارة الإسبانية في مالي، في بيان السبت، مؤكدة أن «إسبانيا لم تطلب خلال قمة الحلف الأطلسي ولا في أي مناسبة أخرى تدخلًا أو تحركًا ما للحلف في مالي».

بيان سفارة إسبانيا في مالي حول تصريحات وزير الخارجية الإسباني ضد مالي
وأضاف البيان أن إسبانيا «ستواصل تطوير علاقة ودية وسلمية مع مالي»؛ وبعد ظهر السبت، كتب وزير الخارجية المالي على «تويتر» أنَّه أجرى مكالمة هاتفيَّة مع نظيره الإسباني، وأوضح ديوب أنَّ الأخير «نفى» إمكان تدخل الأطلسي عسكريًّا في مالي، و«أبدى تمسكه بعلاقات الصداقة والتعاون» بين البلدين.
هل تستخدم حكومة مالي روسيا وتركيا «فزَّاعة» لتثير رعب الغرب؟
أمام الأوضاع الدولية والإقليمية الآخذة في الاشتباك والصراع؛ لم تجد الحكومة المالية حرجًا في استغلال هذا الصراع الدولي وذلك عبر جلبها للمنطقة أهم لاعبين في الصراعات التي يشهدها العالم بمنطقة الشرق الأوسط.
قبل أن تعلن الحكومة المالية التمرد التام على الوجود الفرنسي وتطرد السفير الفرنسي من بلادها؛ بدأت باماكو فعليًّا في رسم موقعها في التحالفات الدولية، وذلك عبر التقرب من موسكو وتوقيعها عدة اتفاقيات أمنية مع روسيا تسمح بوجود فرق فاجنر الأمنية الروسية، والتي يبدو أنها قد ملأت الفراغ العسكري الفرنسي، ناهيك عن توريد موسكو للسلاح إلى الحكومة المالية.

قوات فاجنر الروسية في مالي
لم تكتف الحكومة المالية بالاقتراب من موسكو، بل غذت مخاوف الغرب والقوى الإقليمية المتصارعة حول النفوذ في الساحل الأفريقي، من خلال التقارب الكبير بينها وبين تركيا في عدة مجالات؛ كان آخر محطات هذا التقارب زيارة وزير الدفاع المالي ساديو كامارا، إلى العاصمة التركية أنقرة في أبريل (نيسان) 2022، حيث تباحث مع نظيره التركي خلوصي أكار، حول قضايا دفاعية وأمنية ثنائية وإقليمية، بالإضافة إلى التعاون في مجال الصناعات الدفاعية.
تجدر الاشارة إلى أنَّ التجارة السنوية بين تركيا ومالي ارتفعت بأكثر من 10 أضعاف في الفترة من 2003 إلى 2019، من 5 ملايين دولار إلى 57 مليون دولار. كما أطلقت الخطوط الجوية التركية رحلة مباشرة من باماكو إلى إسطنبول؛ وهي مؤشرات جلية على التقارب المالي التركي.