«إذا أردت فهم تاريخ أمريكا، فعليك معرفة تاريخ الزنوج فيها. ثق بي تاريخ أمريكا معهم ليس مشرِّفًا» *الروائي الأمريكي الأسود جيمس بالدوين

كان مشهد مقتل جورج فلويد صادمًا للعالم. شرطيٌ أبيض يضع ركبته على عنقه، يستنجد فلويد مناديًا: «لا أستطيع التنفس»، يكررها مرارًا، يحاول التقاط أنفاسه ليجمع كلماته الأخيرة «لا أستطيع التنفس»، تسع دقائق تمر، لا يستجيب الشرطي لندائه. تسجل جريمة أخرى باسم «القانون» في تاريخ التمييز العنصري في أمريكا.

سطَّر تاريخ النضال الأسود نحو التمييز العنصري رموزًا كثيرة منذ بدايته، ليبراليين ومحافظين. مسيحيين، ومسلمين. متدينين، ولادينيين. شماليين وجنوبيين. وإذا ما نظرت بتمعن ستجد ألوانًا كثيرة في مسيرة النضال الأسود. ولكنَّ رمزين في تاريخنا الحديث، مثَّلا مدرستين متناقضتين (وأحيانًا تتقاطعان) في هذه المسيرة؛ وهما الحاج مالك الشباز «مالكوم إكس»، ومارتن لوثر كينج جونيور «كينج». الأول يمثل المدرسة «القومية» التي تعزز قومية السود الأفريقية، وتسعى للانفصال وإنشاء دولة وأمة خاصة للسود لمرحلة طويلة من حياته، والأخير يمثل المدرسة «الاندماجية» التي تحاول الاندماج في المجتمع الأمريكي، كما يصنفهم المؤرخ اللاهوتي جيمس كون.

أحلام كينج قابلتها كوابيس مالكوم. وعندما كان كينج يردد «لدي حلم» بأنَّ يعمل البيض والسود جنبًا لجنب، كان يراود مالكوم كابوس والده الذي رآه يُقتل بسبب لونه، وكابوس اللون «الأحمر» الذي يراه كل يوم في المرآة، ذاك الاحمرار الذي ورثه من رجل أبيض اغتصب جدته من أمه.

نظرة إلى الوراء.. الاندماجيون مقابل القوميين

يعود تاريخ الاندماجيين إلى تاريخ تأسيس الجمهورية الأمريكية، وأحد أهم أعلامهم الواعظ الديني فريدريك دوجلاس، الذي ولد عبدًا وهرب من سيده ليصبح بعدها شخصية عالمية، يكتب ويحاضر عن الفلسفة الاندماجية، وعن التناقضات بين العبودية والمبادئ الأولى من الدستور الأمريكي، وكيف أنَّ «إعلان الاستقلال» لا ينص على أيِّ تمييزٍ عرقيٍّ. رفض دوجلاس عروضًا مغرية للعيش في إنجلترا، راغبًا بالبقاء في الولايات المتحدة، لإيمانه باستطاعة السود تحقيق العدالة فيها؛ وانتقد الخطاب «الانفصالي» من بعض السود؛ بأنه من غير المنطقي عودة ثمانية ملايين أسود إلى القارة الأفريقية.

 القيادي فريدريك دوجلاس في حركة إلغاء العبودية. مصدر الصورة

في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية، انضم غالبية السود إلى كنائس خاصة بهم، معظمها كنائس ميثودية ومعمدانية، ومكَّنت الكنائس عددًا من القيادات ليصبحوا أصواتًا بارزة في نضال السود. من هؤلاء كان مارتن لوثر كينج سينيور (والد مارتن لوثر كينج جونيور) من ولاية جورجيا الجنوبية، وآدم كلايتون باول من ولاية نيويورك شمالًا. وبدأت دعواتهم ترتكز على السؤال التالي: كيف يمكن للبيض اعتناق المسيحية وهم ما يزالون يعدون السود عبيدًا ويفصلون كنائسهم عن كنائس السود؟

كان هذا الجيل يعتقد أنَّ المسيحَ سيكشف الحقيقة للرجل الأبيض، وبعدها ستختفي مظاهر العبودية والتمييز. كان هذا حجر أساسٍ لشعور التفاؤل عندهم، ولكنه خلَّفَ حالة استلاب، وشيئًا من التواكل، بحسب المؤرخ جيمس كون.

أما تاريخ «القوميون» فيعود للقرن السابع عشر، عندما بدأ واشتعل النضال التحرري من العبودية. فلم يكن الرجل الأبيض أو إبراهام لينكولن من حرر العبيد كما تصوِّر كلاسيكيات الدراما الأمريكية؛ ولكنَّهم السود حرروا أنفسهم بالضغط على لينكولن، عندما اتحدوا وأعلنوا مقاطعة أعمالهم أثناء الحرب الأهلية.

كان جبريل بروسير، أبرز القيادات المنتفضة، وقاد أحد أشهر الثورات المبكرة في تاريخ المجتمع الأفريقي في أمريكا؛ هدفها إقامة موطن للسود في ولاية فيرجينيا، ولكنَّه أُعدم مع 34 من رفقائه. وتقدر التمردات بـ250 تمردًا أسود في أمريكا قبل عام 1865. وقد ساعدت التمردات في تشكيل الوعي القومي للمجتمع الأسود في العصور المبكرة، كما يصف المؤرخ جيمس كون العناصر الأساسية لهذا الوعي: الوحدة السوداء، والاعتزاز بالإرث الأفريقي، وإنشاء مؤسسات مستقلة، والبحث عن أقاليم لبناء الأمة السوداء.

وكان لدى الحركة القومية العديد من الشخصيات المهمة في تاريخها، منهم ديفيد والكر، قبل فترة الحرب الأهلية، وماركوس جارفي، الذي كان إيرل ليتل (والد مالكوم إكس) أحد أتباعه، وإليجا محمد (أستاذ مالكوم إكس ومرشده الروحي) في القرنين التاسع عشر والعشرين.

دولي

منذ سنتين
من «أنتيفا» إلى «اليمين المتطرف».. خارطة الحركات السياسية الراديكالية في أمريكا

عاشت الحركة القومية السوداء تحولاتها الفكرية والنفسية الخاصة، ففي عصر الإصلاح (أي ما بعد الحرب الأهلية) ارتفعت روحهم المعنوية، فقد حاول مارتن ديلاني، أحد أشهر أعلام الحركة القومية السوداء، المشاركة في الحياة السياسية بترشيح نفسه لمنصب حاكم ولاية ساوث كارولينا. ولكنَّ قرار انسحاب القوات الفيدرالية من الولايات الجنوبية، في اتفاقٍ غير مكتوب عام 1877، في سياق مساومة مع الولايات الجنوبية، كان محبطًا للسود؛ لأنه سمح للمستعبدين الجنوبيين التصرف بعبيدهم كما شاءوا دون رقابة فيدرالية.

«ابن الطبقة المتوسطة».. نشأة كينج وتحولاته الفكرية

وُلد كينج في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا، لعائلة من الطبقة المتوسطة، وكان جده وأبوه من أشهر الوعاظ في المدينة. نشأ وترعرع في منزله وفي الكنيسة. عندما كانت الكنيسة المؤسسة الاجتماعية للمجتمع الأفريقي في أتلانتا، والتي يستمد منها أبناؤها قيمهم الأخلاقية، ونماذجهم القيادية الملهمة في مسيرتهم التحررية، من خلال تبني فلسفة «التكيُّف» التي رسمها لهم بوكر واشنطن، وفلسفة «الاندماج» التي عمل بها فريدريك دوجلاس.

حمل والد كينج إرث من سبقه، وبدأ بتوسيع نشاط الكنيسة، وتوسيع أعماله التجارية؛ ليستطيع التأثير والدفاع عن حقوق السود المدنية، وقاد حملةً دفاعية عن المعلمين السود لمساواة رواتبهم مع المعلمين البيض، رغم تلقيه تهديدات من حركة الكو كلوكس كلان، المجموعة المعادية للمجتمع الأسود، والمؤمنة بتفوق العرق الأبيض.

كان كينج يذهب إلى الكنيسة كل أسبوع؛ ليتعلم فيها التعاليم المسيحية. وعند التحاقه بالكلية لدراسة علم الاجتماع، أثَّر فيه البروفيسور والتر شيفر، الذي أقنعه بأن العنصرية ليست مسألة شخصية، وإنما «بنيوية» مرتبطة بالاقتصاد السياسي للرأسمالية. ولاحظ كينج في الكلية بعض البيض المناهضين للتمييز العنصري، وجعله يتساءل عن أسباب التفرقة، ليتبنى في هذه الفترة بعض القيم العلمانية.

التحق كينج بعدها بمدرسة كروزر اللاهوتية في ولاية بنسلفانيا، لدراسة العقائد الأوروبية، واهتم أثناءها بأفكار غاندي ومدرسة المقاومة السلمية نهجًا للإصلاح السياسي والمجتمعي، والتي رأى منها تطبيقًا عمليًّا في سياق السود في أمريكا، وانتقل بعدها لدراسة الدكتوراة في جامعة بوسطن. المحطة التي تعرف فيها إلى الفكر الليبرالي اللاهوتي، والذي وازن عنده التفكير «الأصولي» للمسيحية، ليعتنق الليبرالية البروتستانتية، وبعد انتهاء هذه المرحلة، عاد إلى ألاباما ليصبح قسًّا في الكنيسة المعمدانية، ويبدأ مسيرته النضالية.

أثناء تخرج مارتن لوثر كينج من جامعة هوارد  1957

«أَلَهُم الجنة ولنا الكنيسة؟».. بدايات مالكوم التراجيدية

وُلد مالكوم إكس في ولاية نيبراسكا عام 1925. وكان والد مالكوم، القس أورلي ليتل، عضوًا في جمعية تسعى لتحسين حياة السود في ولاية نيويورك، حيث كانت تنادي بعودة السود إلى أفريقيا. وتعرض والده لمضايقة حركة الكو كلوكس كلان، فقرر الهجرة إلى مدينة لانسينج بولاية ميتشيجان، ليشتري بيتًا، ويبدأ كسب قوته من الوعظ والتبشير في إحدى الكنائس المعمدانية.

خلال طفولة مالكوم؛ تعرض منزلهم عدة مرات للهجوم والمضايقات، وحُرق في عام 1929، عندها كان مالكوم في عامه الرابع، ولم تجذب مالكوم الكنيسة، ليذكر في سيرته الذاتية: «لم أقتنع في تلك السن المبكرة بألوهية المسيح، ولم أنظر بجدية إلى القساوسة». لقد كان يمقت القنوط الذي يعيشه «الزنوج» في الكنائس بحسبه، بينما ينعم الأبيض بالحياة. ومع أنَّ نشاط والده الديني لم يجذبه، فقد كان يرى نشاطه وخطابه السياسي مدعاةً للفخر والاعتزاز، خاصةً عندما كان يرافق والده في اجتماعات جمعية «التقدم الزنجية»، حيث يختم والده اجتماعات الجمعية: «امض للأمام أيها العرق الجبار.. تستطيع تحقيق المعجزات».

وفي إحدى الليالي استيقظ مالكوم على صراخ أمه ووجد الشرطة في منزلهم، وطلبت الشركة من والدته الحضور إلى القسم للتعرف إلى جثة «زوجها» المهشمة، الذي قُتل «بحادثة سيارة» كما هو مُعلن، رغم أن مالكوم وأمه يعتقدان أنه قُتل على يد أحد البيض الحاقدين. أصبح مالكوم يتيمًا في عمر السادسة، وبدأ حياته وطيشه في الشارع، وذكر في سيرته كيف كان يتسلل إلى مزرعة مجاورة لسرقة البطيخ والتوت بمساعدة بعض زملائه في المدرسة.

صدر قرار قضائي بوضع والدة مالكوم في مستشفى كلامازو للأمراض العقلية، بسبب تدهور صحتها النفسية والضغوط التي وقعت عليها بعد مقتل زوجها، وبالتالي أصبح مالكوم وإخوته أولادًا «للدولة»، وعُيِّن وكلاء في شؤون مالكوم وإخوته، ليقرروا في مصائرهم. وكما وصفه مالكوم بأنَّه شكل جديد من «أشكال الرق».

انتقل بعدها مالكوم للعيش مع إيلا كولينز، وهي شقيقته من زوجة والده الثانية، في مدينة بوسطن. ليبدأ العمل ماسحَ أحذية، وبعدها عمل بائعًا للـ«سندويشات» في القطار الواصل بين نيويورك وبوسطن. وأثناء هذه الفترة انضم إلى عصابات بوسطن، ليتاجر بالمخدرات ويتعرف إلى المقامرين، ويعيش حياته الشبابية الطائشة المليئة بالمغامرة والتجربة.

وبدأ مالكوم مشواره سارقًا محترفًا للمنازل، والذي أدى به إلى السجن في يناير (كانون الثاني) عام 1946، بعد أن كان يحاول استرداد ساعة مسروقة كان قد وضعها عند جوهري لإصلاحها، وأثناء استردادها أمسكت به الشرطة بتواطئ مع الجوهري وحُكم عليه من ثمانية إلى 10 سنوات في السجن، عندها لم يكن يبلغ مالكوم عامه العشرين.

أثناء اعتقال مالكوم بتهمة سرقة عام 1944

عاش مالكوم إكس تحولاته الفكرية في فترة السجن، فبعد زيارة أخوه ليخبره عن دعوة أليجا محمد، ومشروعه أمة الإسلام، أعجب جدًّا بدعوة أليجا لسببين؛ الأول أنَّ أليجا وضع البيض في خانة «الشيطان» مما عزز عداوته وكرهه للرجل الأبيض، والثاني أنه ابتدع سردية تاريخية يثبت فيها تميز العرق الأسود. وتطورت هاتان النظرتان مع مالكوم بانهماكه في القراءة في مكتبة السجن، فقرأ عن تاريخ الكولونيالية في أفريقيا، وتاريخ الاستعباد في أمريكا، وبدأ يكتشف ويقرأ كتبًا تتحدث عن الإنجازات الحضارية لغير الأوروبيين، كسلسلة «تاريخ الحضارات» لويل وآرييل دورانت.

وبعد خروجه من السجن عام 1952، أخذ مالكوم إكس على عاتقه نشر دعوة أليجا محمد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، حيث فتح مساجد عدة وأصبح إمامًا لمساجد في بوسطن، ونيويورك. وأسس مجلة أمة الإسلام في 1957. وفي عام 1963، صنَّفت «نيويورك تايمز» مالكوم إكس على أنه ثاني أكثر شخص طلب منه التحدث في الفعاليات العامة في الولايات المتحدة الأمريكية.

سنوات حركة الحقوق المدنية.. نجم كينج يسطع

توجد أربع محطات رئيسية عبرت فيها حركة الحقوق المدنية تحت تأثير قيادة كينج. المحطة الأولى كانت حركة مقاطعة حافلات في مونتجومري بين 1955-1956، والتي انطلقت بسبب اعتقال سيدة أفريقية تدعى روزا باركس، بسبب رفضها إعطاء مقعدها في الحافلة لشخص أبيض. وكانت هذه المحطة التي برز فيها نجم كينج في الساحة النضالية.

المحطة الثانية اعتصام جرينسبورو في عام 1960 أو ما تلقب بحركة «الجلوس»؛ عندما تجمع طلاب سود من ولاية نورث كارولينا في زاوية غداءٍ خاصة بالبيض ليجلسوا فيها، ورفض الطلاب المغادرة بعدما امتنع صاحب المطعم عن خدمتهم، وانتشرت الحركة إلى الولايات الجنوبية، بالرغم من اعتقال العديد من المشاركين، فإنَّ هذه الأحداث، جعلت بعض المؤسسات والشركات تعيد النظر في سياساتها التمييزية في الأماكن العامة.

المحطة الثالثة هي اعتصامات الركوب الحر عام 1961 من قبل نشطاء سود وبيض، والتي كانت اختبارًا لقرار المحكمة العليا لعام 1960؛ الذي يقر بأنَّ التمييز العرقي في المواصلات العامة «غير دستوري». وكان المعتصمون يركبون الحافلات المعلق عليها لافتات «للبيض فقط»، ورغم سلسلة من الاعتقالات للمعتصمين، سلطت هذه الاعتصامات الضوء على حركة الحقوق المدنية وأنشطتها بشكل كبير.

دخول المعتصمين للجلوس في قاعة انتظار الباصات المخصصة للبيض 

وأخيرًا المحطة الرابعة وهي حملة «برمنجهام» عام 1963، الحملة التي نظمها مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية (SCLC) بقيادة مارتن لوثر كينج، وكان هدفها إنهاء سياسات التمييز العنصري في ولاية ألاباما. وكانت الحملة نقطة انعطافٍ في مسيرة حركة الحقوق المدنية، فبعد أن وجَّه جيمس بيفل، القيادي في المؤتمر القيادي المسيحي، طلاب المدارس، من مراحل الابتدائية إلى الثانوية للمشاركة فيها. وقعت حالات عنف واعتقالات واسعة من قبل الشرطة الأمريكية، بالإضافة إلى تخويف المتظاهرين الأطفال والمراهقين بالكلاب البوليسية وتسليطها عليهم، لقد قسمت حملة برمنجهام شعرة معاوية، ولم يكن من الممكن أن تنجح محاولات تلفيقاتٍ إعلامية؛ فقد كانت صورة الكلب الذي يجر المراهق الأسود بأنيابه أكبر من كل الأجهزة الدعائية الإعلامية البيضاء.

هجوم كلب بوليسي من الشرطة على أحد المراهقين المعتصمين السود، مصدر الصورة. 

بعد هذه المراحل، أصبح مارتن لوثر كينج نجمًا ساطعًا في حركة الحقوق المدنية، فأثناء حملة بيرمنجهام، اعتقل وهو يشعل ويوجِّه غضب المتظاهرين. وبعد اعتقاله كتب رسالته الشهيرة «رسالتي من سجن بيرمنجهام» ليذكِّر الناس بمسؤوليتهم الأخلاقية  في مسيرة تحقيق العدل والتغيير. ومهدت الحملة المسيرة العظيمة إلى واشنطن، عندما ألقى كينج خطابه الشهير «لدي حلم» في ساحة البيت الأبيض. ليفرض بذلك قانون «الحقوق المدنية» لعام 1964، الذي ينهي التمييز العنصري في الأماكن العامة وفي الوظائف على أساس العرق، واللون، والدين، والجنس. القانون الذي اقترحه الرئيس الأمريكي جون كينيدي قبل اغتياله، ووقَّعه خليفته ليندون جونسون.

أمة الإسلام في شقاق.. ومالكوم إكس يجمع أمتعته

لقد أغضب تميز مالكوم بعض المقربين من أليجا محمد، وبدأوا بتشويه سمعته ووسمه بأنه «ساعٍ للشهرة» فقط. وكانت قد طرأت بعض الخلافات بين مالكوم وأليجا على المسار السياسي لأمة الإسلام.

وبعد حادثة اغتيال الرئيس جون كينيدي، طلب أليجا من مالكوم عدم التعليق على حادثة الاغتيال في كلمته القادمة. وتجنب بالفعل التعليق  على الحادثة أثناء كلمته، ولكن أحد الحاضرين وجَّه سؤالًا تابعًا، طالبًا منه التعليق على الحادثة، ليجيب مالكوم بعبارة ساخرة أنَّه يرى اغتياله بمثابة «عودة الدجاج للرقود على العش»، وهي مقوله تعني أنَّ الذي يعمل عملًا سيئًا أو جريمة في الماضي، سيعود هذا الجرم لينتقم منه يومًا ما. أصدر أليجا بعد هذه الحادثة  قرارًا بمنع مالكوم من التحدث في الأماكن العامة، وتبعه أن غادر مالكوم حركة أمة الإسلام عام 1964، وسط خلافات كبيرة.

انتقد مالكوم أثناء مسيرته حركة الحقوق المدنية ونهجهم السلمي، بوصفه نهجًا يضعف السود أكثر، ولكنَّه بعد خروجه من أمة الإسلام، ورحلته إلى الحج – ليتعرف أكثر إلى دينه الجديد الإسلام – التي رأى بها جمال التنوع والاختلاف كما وصفه، ومن ثم زيارته للقاهرة وبعض الدولة الأفريقية. تخلى عن فكرة أنَّ الشيطان هو الرجل الأبيض، وأدرك أنَّ كل الطرق تؤدي إلى الوجهة ذاتها. ليعود من رحلته ليؤسس منظمة الوحدة الأفرو أمريكية، التي استلهمها من نموذج الاتحاد الأفريقي، وكان هدفها الدفاع عن حقوق المجتمع الأفريقي في أمريكا «بأي وسيلة ممكنة»، وتبنت المنظمة أجندة أكثر اعتدالًا وانفتاحًا للآخرين.

 

لماذا قتلوهم؟ أعوام الحزن على أحرار أمريكا

«يجب أن يكون هناك توزيع عادل للثروة. على أمريكا تبني الاشتراكية الديمقراطية» مارتن لوثر كينج في نوفمبر 1966

«احكِ لي عن الرأسماليين، احكِ لك عن مصاصي الدماء» مالكوم إكس في ديسمبر 1964

لا تجد في سيرة هذين الرجلين الكثير من المشتركات، سواءً في تركيبتهم النفسية، أو قصصهم الشخصية، أو خلفياتهم التعليمية، أو حتى اللغة التي يستخدمونها، ويظهر اختلافهما حتى في مواقفهما تجاه قضايا في الشرق الأوسط المختلفة، فبينما كان مالكوم إكس متضامنًا مع العرب في صراعهم وناقدًا حادًّا لإسرائيل، وناقدًا لرالف بنش، الوسيط الدبلوماسي للأمم المتحدة أثناء النكبة عام 1948، واصفًا إياه «أنكل توم» الدولي. على نقيضه كان كينج يؤمن بحق إسرائيل في الوجود، وصديقًا للحركة الصهيونية في أمريكا.

ولكنَّهما أدُّوا دورًا مهمًّا في مسيرة النضال للسود، فبينما كان كينج العقل المدبر والاستراتيجي، كان مالكوم إكس يشكِّل وعي الأسود عن هويته وتاريخه، وكلاهما أدرك وجود أزمة في توزيع الثروة، وأنَّه لا يمكن تحقيق المساواة أو العدل، دون الحديث والعمل من أجل العدالة الاقتصادية.

اغتيل مالكوم إكس في أحداث مروعة في فبراير (شباط) عام 1965، فأثناء كلمته في إحدى قاعات نيويورك عن منظمته الجديدة، حصل شجار آخر خلَّف فوضى في القاعة، ويذهب يوجين روبرتس حارسه الشخصي ليرى ما في الأمر، وأثناءها دخلت مجموعة من السود، وتقدم أحدهم ببندقيته ليطلق رصاصة في ذقن وصدر مالكوم إكس. قُتل مالكوم وهو على يقينٍ من قرب أجله، فقد أخبر أليكس هالي، الكاتب الذي أعانه في كتابة سيرته الذاتية: «إذا صدر هذا الكتاب وما زلت حيًّا، ستكون معجزة»، وقبلها لطارق علي عند زيارته لجامعة أوكسفورد: «سيقتلونني قربيًا». وقد أصدرت نتفليكس وثائقيًّا استقصائيًّا أعده الناشط الأمريكي عبد الرحمن محمد، يكشف فيها عن حقائق جديدة تبيِّن تواطؤ حارس مالكوم الشخصي وتنسيقه مع شرطة نيويورك، وتبيِّن عدم وجود أي جهات أمنية في القاعة، رغم معرفة مكتب التحقيقات الفيدرالية باحتمالية وقوع الحادثة.

اغتيل كينج في أبريل (نيسان) من عام 1968، أثناء إقامته في موتيل لورن، وتقول الرواية الرسمية إنَّه قتل على يد جيمس إيرل، أحد القتلة المارقين والمؤمنين بالتفوق العرقي للبيض، فبينما كان كينج يقف على شرفة غرفته، تقدم إيرل وأطلق عليه رصاصة وفرَّ هاربًا، وأُلقي القبض على إيرل في يوليو (تموز)، أي بعد ثلاثة شهور من الحادثة.

لكن بالنسبة لعائلة كينج وبعض أعضاء حركة الحقوق المدنية، فإنَّ سبب مقتل كينج الرئيسي هو إيدجار هوفر رئيس الـ«إف بي آي»، وحملاته المضللة وإداناته المفتوحة لكينج. يقول ابن كينج: «لقد كان هوفر غاضبًا من والدي، ويحمل الكره والحقد تجاهه، والحقد لكل من هو ملون».

قُتل مالكوم وكينج وكلاهما في عمر الـ39 عامًا. الأول على يد أسود كان يدافع عنه طوال مسيرته، والثاني على يد أبيض يحاول الاندماج معه طوال حياته. وفي الحقيقة، قُتل كلاهما لأنهما أرادا إعادة تشكيل شبكات الثروة والمصالح في أمريكا. فقد كانت دعاوي «العدالة الاجتماعية» في المرحلة الأولى لكينج لا تعني شيئًا بلغة المال، ولكنَّ السعي وراء «العدالة الاقتصادية» من الواضح أنَّها قد كلفته حياته.

اللقاء الوحيد الذي جمع مالكوم وكينج في الكابيتول هيل في مارس 1964 لمدة دقائق قصيرة. 

المصادر

تحميل المزيد