مع تصاعد التوتر على الحدود الروسية الأوكرانية، وتزايد المؤشرات على حرب وشيكة بين الجانبين، عاد الحديث حول «اتفاقيات مينسك» التي جرى توقيعها خلال عامي 2014 و2015، وكان من المفترض أن تضع إطارًا لحل الأزمة المستعرة بين كلٍ من روسيا وأوكرانيا، لكنها صارت اليوم موطنًا للخلاف بين موسكو وكييف، فكيف تحولت الاتفاقية من محاولة للحل إلى سببٍ جديد للأزمة؟
كيف اشتعل لهيب الحرب في شرق أوكرانيا؟
شهدت أوكرانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 احتجاجات شعبية واسعة النطاق، بعدما قرر الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، المعروف بولائه لموسكو، التراجع عن توقيع اتفاقية للتقارب مع الاتحاد الأوروبي؛ إذ رأى القوميون الأوكرانيون، والاتجاهات المتطلعة للاندماج مع الغرب في الخطوة انصياعًا للضغوط الروسية، فاندلعت احتجاجات واسعة النطاق في البلاد، آلت في النهاية إلى إطاحة حكم يانوكوفيتش، الذي هرب إلى روسيا، لتحل محله حكومة قريبة من الغرب في كييف.
عندها لم تر روسيا فيما حدث في أوكرانيا «ثورة» أو «انتفاضة شعبية» كما صورها الإعلام الغربي، بل اعتبرتها مجرد خديعة غربية هدفها إيجاد موطئ قدم غربي على حدودها، وتهديدًا لمجالها الحيوي، وإخلافًا للوعد الذي قدمته الولايات المتحدة عقب نهاية الحرب الباردة بعدم توسع الناتو في دول الاتحاد السوفيتي السابقة أو أوروبا الشرقية، ومن ثم فقد كان من الصعب على موسكو التسامح عن توجهات أوكرانيا الجديدة، وإلا فيمكنها أن تجد صواريخ الناتو منصبة على بعد 200 كم فقط من سانت بطرسبرج.
لذا وصف «الكرملين» المحتجين في كييف بـ«الفاشية»، واعتبرتهم موسكو امتدادًا للقوميين الأوكران الذين تحالفوا مع النازية ضد روسيا أثناء الحرب العالمية الثانية، ولما كانت موسكو ترى في الوضع الأوكراني الجديد تجاوزًا «للخطوط الحمراء» المتعارف عليها منذ انتهاء الحرب الباردة، فقد كان رد بوتين قاسيًا.

مناطق سيطرة الانفصاليين في شرق أوكرانيا (بالأزرق) (واشنطن بوست)
أرسل بوتين قوات عسكرية سيطرت بشكل خاطف على شبه جزيرة القرم – التي كان الاتحاد السوفيتي قد أهداها قبل عقود للأوكران لتشجيعهم على الوحدة – وجرى عزل القوات الأوكرانية وحصارها في أماكنها، كما حوصر الأسطول الأوكراني في قاعدته الرئيسية في شبه الجزيرة، وبسرعة خاطفة سيطرت القوات الروسية على البنية التحتية الحيوية في شبه الجزيرة دون معارضة، ونصبت سلطات موالية لموسكو في المنطقة، قبل أن تنظم استفتاء قضي بإعادة المنطقة إلى السيادة الروسية.
أما التحرك الثاني للروس، فكان في منطقة شرق أوكرانيا، المعروفة باسم إقليم «دونباس»، الذي يتكون من منطقتي دونيتسك ولوهانسك، ويتحدث معظم سكان الإقليم اللغة الروسية، ويرتبطون بعلاقات وثيقة مع روسيا من نواحي اللغة والتاريخ والثقافة والاقتصاد، وفي أبريل (نيسان) 2014 أعلن انفصاليون موالون لموسكو للسيطرة على دونباس، بدعم من العسكرية الروسية، وأعلنوا عن قيام «جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين»، اللتين لم تنالا أي اعتراف دولي حتى الآن.
«اتفاقات مينسك».. محاولة أوروبية لنزع فتيل الأزمة
أشعلت المحاولات الانفصالية فتيل صراع في شرق أوكرانيا بين القوات الحكومية والانفصاليين الذين تمتعوا بدعم روسي، وبعد ثلاثة أشهر من القتال، وبالتحديد في يونيو (حزيران) 2014، اجتمع ممثلو كل من روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، في مقاطعة نورماندي شمال غرب فرنسا، للاحتفال بالذكرى السنوية لإنزال النورماندي، الذي يعد أكبر معركة بحرية في التاريخ، والذي مهد لانتصار الحلفاء على النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
كان تلك أول مرة يجتمع فيها الرئيسان الروسي فلايديمير بوتين، والأوكراني بيترو بوروشنكو على طاولة واحدة منذ اندلاع الأزمة، وهو ما اعُتبر نجاحًا في حد ذاته، وقد عرفت مجموعة الاتصال هذه، والمكونة من الدول الأربع باسم «صيغة النورماندي»، أو «مجموعة اتصال النورماندي»، وقد تكررت اجتماعات هذه المجموعة والاتصالات التليفونية بين قادة الدول الأربع خلال السنوات السابقة، في محاولة لإيجاد صيغٍ للحل، كانت تتسع أحيانًا لتشمل دولًا أخرى مثل: إيطاليا، وبريطانيا، وبيلاروسيا.
وأسفرت جهود «صيغة النورماندي»، عن مفاوضات ماراثونية نتج عنا في النهاية توقيع ما عُرف باسم «اتفاق مينسك»، نسبة إلى عاصمة بيلاروسيا التي احتضنت الاتفاق، في سبتمبر (أيلول) 2014، والذي نص على إنشاء منطقة عازلة مساحتها 30 كيلومترا (15 كم من كل جانب) لفصل طرفي النزاع.
كما نص «اتفاق مينسك» على سحب جميع المسلحين والتشكيلات العسكرية إلى ما وراء المنطقة العازلة، ومنع المقاتلات والطائرات بدون طيار من التحليق فوقها، وعدم استعمال الأسلحة الثقيلة في المناطق المأهولة، وكان يفترض أن تكون تلك المنطقة تحت مراقبة «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» التي تجمع 56 دولة من بينها روسيا ودول أوروبية، وتعد إطارًا دوليًا للتواصل بين الشرق والغرب منذ الحرب الباردة.
لكن «اتفاق مينسك» تعرّض للانتهاك من قبل القوات الحكومية والانفصاليين معًا، وهو ما أدى إلى مفاوضات جديدة قادت إلى ما عرف بـ «اتفاق مينسك 2»، والذي يعد تطويرًا لـ«اتفاق مينسك» الأول، وينص «اتفاق مينسك 2» على 13 بندًا أعادت التركيز على وقف إطلاق النار، وانسحاب الطرفين إلى خارج حدود المنطقة العازلة، التي جرى تعديلها بعد أن نجح الانفصاليون في السيطرة على مناطق جديدة خلال المواجهات الأخيرة.
كما ينص «اتفاق مينسك 2» على الإفراج عن الرهائن المحتجزين بين الجانبين، وإصدار عفو عام عن المقاتلين الضالعين في الحرب، وإعادة «السيطرة الكاملة» للحكومة الأوكرانية على حدودها، ورفع الحصار الاقتصادي وإزالة القيود المصرفية التي تفرضها السلطات الأوكرانية على مناطق النزاع، وبدء حوار سياسي يقود إلى انتخابات محلية لتحديد الوضع المقبل لمنطقتي «دونيتسك ولوغانسك»، مع الاتفاق على إعداد دستور أوكراني جديد يقضي باللامركزية في منطقتي دونيتسك ولوهانسك بالاتفاق مع ممثلي المنطقتين.
لماذا يثور الخلاف بشأن «اتفاق مينسك» الآن؟
رغم مرور سبع سنوات على توقيعها، عاد «اتفاق مينسك 2» ليتصدر عناوين الأخبار، خاصة مع تصاعد التوتر بين أطراف النزاع إلى مستويات غير مسبوقة، بعد أن حشدت روسيا نحو 130 ألفًا من قواتها على الحدود مع أوكرانيا، وسط تحذيرات دولية عالية المستوى من غزو روسي وشيك لجارتها.
وفي 16 فبراير (شباط) الجاري عقد مجلس الأمن الدولي جلسة لمناقشة الأزمة الأوكرانية، كان «اتفاق مينسك» عنوانها الأبرز، إذ تبادلت كل من روسيا وأوكرانيا الاتهامات بشأن عدم تنفيذه، وقد كرّس نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرتشنين جُل كلمته في الجلسة للحديث عن الاتفاق، متهمًا الحكومة الأوكرانية بالتقاعس عن تنفيذ مسؤولياتها التي ينص عليها «اتفاق مينسك»، فهي لم تبدأ حوارًا مع الانفصاليين، ولم تبدأ أي خطوات سياسية لتسوية الأزمة وإعطاء مناطق الدونباس وضعية خاصة كما هو منصوص عليه في الاتفاق.
في المقابل ألقى السفير الأوكراني سيرغي كيسليتسيا بالمسؤولية في عدم تنفيذ الاتفاق عللا روسيا على موسكو، مؤكدًا أن الدولة التي لم تلتزم ببنود الاتفاق هي روسيا، وهدد بأنه إذا «اعترفت روسيا باستقلال دونباس»، تنفيذًا لتوصية بهذا المعنى وجّهها مجلس الدوما إلى الرئيس فلاديمير بوتين فإنّ هذا الأمر «سيعني انسحابها من اتفاقيات مينسك».
تدريبات لجيش أوكرانيا
قبل يوم واحد من جلسة مجلس الأمن، أصدرت وزارة الخارجية الأوكرانية بيانًا تمسّكت فيه بأنه لا يمكن تنفيذ «اتفاق مينسك» بشروط روسية، وحذرت من أن «موسكو تحاول التلاعب بمضمون اتفاقات مينسك والترويج لرؤية مشوهة لجوهرها»، إذ تصر روسيا على إطلاق حوار مباشر بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين، في حين تتمسك كييف بمحادثات جماعية تشترك فيها روسيا ضمن إطار «صيغة النورماندي».
ووفق مراقبين، فإن المشكلة الأساسية هي أن كلًا من موسكو وكييف يحاولان تفسير الاتفاقات بشكل يختلف جوهريًا، فالحكومة الأوكرانية تعتبرها وسيلة لإعادة توحيد أوكرانيا واستعادة السيادة الأوكرانية بالكامل على لوهانسك ودونيتسك حتى مع منح سلطات معينة للمنطقتين.
وفي المقابل ترى روسيا أن الاتفاقيات يجب أن تساعد في إنشاء إدارة متحالفة مع موسكو في لوهانسك ودونيتسك، ويجب أن يجرى منح تلك المناطق «وضعًا خاصًا» قبل لم شملها مع بقية أوكرانيا؛ الأمر الذي من شأنه أن يُمكّن روسيا من الاحتفاظ بنفوذها على هذه المناطق على حساب الحكومة المركزية في كييف.
وفي هذا الصدد أكدت صحيفة «واشنطن بوست» أن اتفاقات «مينسك» مكروهة لدى الجانب الأوكراني، لدرجة أن رئيس مجلس الأمن القومي والدفاع في أوكرانيا أليكسي دانيلوف قد حذر من أن تنفيذ الاتفاقية وفقًا للشروط الروسية قد يؤدي إلى أعمال شغب وفوضى في بقية أنحاء البلاد، معتبرًا أن توقيع أوكرانيا على تلك الاتفاقية قبل سبع سنوات، قد «تم تحت فوهة البندقية الروسية، وتحت أنظار ألمانيا وفرنسا»؛ الأمر الذي يُرجح أن الأزمة الأوكرانية مُرشّحة للتصعيد في قادم الأيام.