يوجد في التاريخ حالات كثيرة شهدت فيها دول ظاهرة «التضخم المفرط» مع تجاوز معدلات التضخم 50%، نتيجة قرار الدولة طباعة النقود.
ولشرح علاقة طباعة النقود بمسألة الإنتاج والتضخم، نطرح مثالًا سنشير إليه خلال التقرير، وهو مثال افتراضي لاقتصاد مغلق لجزيرة معزولة تنتج 100 كيلوجرام من القمح مثلًا، ولا تنتج شيئًا آخر، ولديها عملة افتراضية هي الدولار، وفي اقتصادها 100 دولار فقط، في هذه الحالة ستساوي الـ100 دولار الـ100 كيلوجرام من القمح، ولن تزيد ثروة هذه الجزيرة عن طريق زيادة النقود فيها، ولكن عن طريق زيادة إنتاجها، أما زيادة النقود إلى 1000 دولار دون زيادة الإنتاج ستعني أن الـ1000 دولار الجديدة ستساوي المئة دولار القديمة.
اليوم تطبع الدول النقود وتخلقها بالفعل، والخلاف بين الاقتصاديين على حدود هذا «الخلق»، والآثار المترتبة عليه. ولتعيين هذه الحدود، يوجد نظرة اقتصادية تقليدية، يقابلها رأي «ثوري» حديث نسبيًّا لا يزال مرفوضًا من جانب علم الاقتصاد التقليدي بمختلف مدارسه؛ وأصبح هذا الرأي ضمن النقاش وهو ما يعرف باسم «النظرية النقدية المعاصرة Modern Monetary Theory».
فما علاقة النظرية النقدية المعاصرة بمسألة طباعة النقود؟ وهل تصبح مفتاحًا لحل مشكلات اقتصادية؟ وهل يمكن للعرب الاستفادة منها؟
«طباعة النقود» بعيون تقليدية
لنبدأ من النظرة الطبيعية للاقتصاد. ولأنَّ المقصود في النهاية من مسألة «طباعة النقود» تغطية التكاليف نبدأ من عند الموازنة العامة للحكومات، وكيف يراها الاقتصاد التقليدي.
هنا نرى تشابهًا كبيرًا بين الموازنات الحكومية وغيرها من أنواع الموازنات للشركات أو للأفراد، فالحكومات تقدِّر الإيرادات التي ستحصلها (في الدول المتقدمة تتكون هذه الإيرادات من الضرائب بشكل أساسي)، ثم تضع المصاريف الواجب على الحكومة دفعها، فإن تعدت الإيرادات المصاريف نتج من ذلك فائض، والعجز هو عكس هذه الحالة.
في حالة العجز فإن ما لا تستطيع الدولة توفيره من خلال الضرائب، توفره من خلال الديون. وتصبح الديون تكاليف يجب على الدولة إدارتها، ومنع تضخمها أبعد من حدود معينة قد تحصل عندها أزمات اقتصادية، أو تضطر الدولة للتعثر عن دفع ديونها والدخول في حالة الإفلاس وما في ذلك من تكاليف اقتصادية وضرب لسمعة الدولة.
عملة معدنية
في حالة الدول المتحكمة بعملتها المحلية تحكمًا كاملًا، وإصدارها بوصفها طرفًا محتكرًا لهذه العملية، فإن عليها مراقبة عجوزات ميزانيتها المتراكمة على شكل دين، سواء مولت هذه العجوزات بالاقتراض من الداخل بعملتها التي تصدرها الدولة نفسها، أو من الخارج بعملات أجنبية.
في حالة الأمثلة التي تكلمنا عنها بداية التقرير؛ فإن بعض الدول أصبحت المصاريف الواجب تغطيتها أكبر من الإيرادات الممكن تحصيلها. ففي حالة جمهورية يوغوسلافيا السابقة فإنها في سنوات التسعينيات الأولى، بدأت تتفكك بفعل الحرب القائمة فيها، وضرب اقتصادها مجموعة عوامل مختلفة؛ من الحرب نفسها إلى انتهاء التجارة الداخلية، حتى الحظر الاقتصادي المفروض عليها.
أدى ذلك إلى تناقص موارد الدولة، ولكنها قررت الحفاظ على جهازها البيروقراطي بالحجم نفسه، ولم يبق للدولة خيار غير مضاعفة عرض النقود في الاقتصاد، بطباعة النقود اللازمة لتغطية تكاليف جهازها البيروقراطي الكبير، وهو ما أدى نهاية إلى النتيجة نفسها التي حصلت في دول أخرى فعلت ما فعلته يوغوسلافيا؛ تضاعف معدل التضخم بشكل كبير جدًّا، وأصبحت العملة بلا قيمة فعليًّا، واضطرت الدولة نهاية إلى إصدار عملة جديدة لإنهاء موجة التضخم المفرط.
والمعادلة البسيطة: عندما يكون هناك عدد متزايد من الدولارات أو أي عملة أخرى، مقابل عدد ثابت من المنتجات الممكن شراؤها؛ فذلك سيعني ارتفاع التضخم، ولذلك فإن على الدولة الامتناع عن زيادة عدد الدولارات على عدد المنتجات.
الطباعة والإنتاج.. قراءة جذرية
تقرأ النظرية النقدية المعاصرة العالم بشكل مختلف تمامًا، وتعيد تعريف كل ما تقدم ذكره، بل إن النظرية النقدية المعاصرة لا تدعي فقط أنها تقدم للسياسيين حلًّا لمشكلات اقتصادية، بطرحها لمقترحات في السياسة الاقتصادية، بل تقول إنها تقدم الفهم الصحيح لما يحصل اليوم في الاقتصاد، وهو مختلف عما تقدم في القسم السابق.
النظرية ببساطة تقول إن الدول تدفع بالفعل نفقاتها عن طريق طباعة النقود طالما أنها السلطة المحتكرة لهذا، وأن للضرائب في الاقتصاد دورًا آخر غير تمويل الميزانية، وكذلك الأمر بالنسبة للديون، ووجودهما لا يناقض أن الدولة تحتاج لوجودهما لتمويل ميزانيتها، بل إن الحكومات تستطيع أن تنفق دون الاكتراث لقيود توافر الإيرادات؛ طالما أنها تحتاج للإنفاق بعملتها المحلية طبعًا.
هل يعني ذلك أن الدول تستطيع التوقف عن فرض الضرائب؟ أو أن تنهي ديونها المحلية ولا تعود إلى الاستدانة من الداخل مرة أخرى؟ أو هل يعني ذلك أن مثل هذه الدول تستطيع الإنفاق بما لا نهاية؟ الإجابة «لا» على كل هذه الأسئلة، ولنبدأ بالإجابة عن السؤال الأخير.
تقليديًّا يكون قيد إنفاق الحكومة هو قدرتها على توفير الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، ومن ثم قدرتها على الاستدانة، واستدامة الدين وإدارته. في النظرية النقدية المعاصرة يُلغى هذا القيد تمامًا، ويمكن للدولة أن تنفق دون الخوف من عجز الميزانية أو الديون، ويمكنها طباعة النقود كما تريد لتغطية كل ذلك دون أي مخاوف.
بدلًا من ذلك على الحكومة أن تستبدل هذه القيود بـ«قيد التضخم – Inflation Constraint» وحده، وهذا يعني أن الحالات التاريخية السابقة الذكر صحيحة بالفعل، ولكن تلك الدول أخطأت في فهمها لقيد التضخم، أو لكيف يمكن لها أن تزيد من طباعة النقود لتغطية النفقات دون أن يشكل ذلك أزمة اقتصادية، وبالتالي حصل التضخم الكبير في هذه الدول.
ما دور الضرائب والديون في هذه الحالة؟
يرى أصحاب هذه النظرية أن للضرائب دورين مختلفين عما يفهمه الاقتصاديون بشكل معتاد؛ الأول متعلق بسيادة الدولة التي تريد إجبار مواطنيها على استخدام عملتها حصرًا، ومن ثم تفرض عليهم ضرائب تجعلهم مضطرين إلى قبض الثمن بعملتها المحلية، أو تحويل عملاتهم إلى العملة المحلية، ليستطيعوا دفع الضرائب المفروضة عليهم.
والهدف الثاني متعلق بمشكلة التضخم؛ فالضرائب بالنسبة لأصحاب هذه النظرية إحدى آليات التحكم بالتضخم، فإذا كان التضخم نتاجًا لارتفاع الطلب مقارنة بالعرض، فإن الضرائب تقلل من قدرة الناس على الإنفاق على مختلف المنتجات، وتخرج النقود من الاقتصاد إلى الدولة عندما تخاف الدولة من ذلك، ويمكن للدولة أن تفعل العكس في حال خوفها من الركود أو معدلات التضخم الضعيفة.
أما ديون الدولة المحلية وإنفاقها من جهة فيلعبان دورًا في تحكم الدولة بأسعار الفائدة في السوق، فإنفاق الدولة في الاقتصاد يعني زيادة الأموال في الاقتصاد، وزيادة حجم الحسابات لدى البنوك، وزيادة حجم هذه الحسابات يعني زيادة حجم الاحتياطات النقدية، فالبنوك تحتفط بجزء من كل وديعة بصفته احتياطًا نقديًّا، وهذه الاحتياطات لا يحصل عليها أسعار فائدة كبيرة، ومن ثم تدفع نحو انخفاض أسعار الفائدة في الاقتصاد، وعندما تبيع الدولة السندات فإنها تقدم بديلًا مضمونًا بسعر فائدة أعلى من مراكمة الاحتياطات للبنوك، وهذا يدفع أسعار الفائدة للارتفاع.
قيد التضخم
مفهوم أن على الدولة أن تتوقف عن طباعة النقود عندما يصبح ذلك مسببًا للتضخم، ولكن متى تصبح طباعة النقود مسببة للتضخم؟
يقول الاقتصادي الأمريكي مايكل بيتيس في مقال نشرته مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إن الأمر متعلق بنوعية الصرف الحكومي من الأموال المطبوعة أو المخلوقة أو المستدانة، لا بكمية الصرف أو طباعة النقود. باختصار إذا استطاعت الدولة أن تزيد من مصاريفها بما يسمح بزيادة الإنتاج بأي شكل، وبما يتناسب مع زيادة النقود في الاقتصاد، فإن هذه الحالة لن تتحول لأزمة اقتصادية، بل على العكس ستكون إيجابية للاقتصاد.
في المقابل تظل القاعدة صحيحة؛ إذا زادت الدولارات أو وحدات العملة، ولم تزد المنتجات ينتج التضخم، ولكن هذه الحالة تحصل عندما تستثمر النقود المخلوقة بشكل غير إنتاجي، وبشكل لا ينتج منه زيادة في المنتجات الممكن شراؤها، وطبعًا يمكن أن يتأخر ظهور الإنتاجية عن ظهور أثر دخول الأموال للاقتصاد، ما يعني حصول تضخم عارض ومؤقت.
فما الجديد في النظرية إذا كانت القاعدة الأساسية هذه صحيحة؟ الجديد هو أن الاقتصاد التقليدي يجبر الدولة على التوقف عن طباعة النقود ضمن قيود الموازنة، ويرى أن الطباعة الزائدة عن هذه القيود تؤدي حتمًا للتضخم، بينما ترى النظرية أنه يمكننا إهمال كل قيود العجز والدين وغيرها، وأن قيد التضخم مختلف، وقد نضاعف ديون أمريكا الحالية أربعة أضعاف مثلًا، بشرط استثمار كل النقود الجديدة استثمارًا إنتاجيًّا، ولن يتسبب ذلك بأزمة على مستوى الدين لأن الحكومة تستطيع طباعة المزيد لسداده، أو أزمة تضخم لأن الطلب الزائد نتيجة لزيادة النقود يقابله عرض زائد نتيجة للاستثمار الإنتاجي.
عودة إلى مثال الجزيرة المعزولة؛ يمكن أن نقول إن لدى الجزيرة إمكانات لإنتاج المزيد، ولكن النقود المعبرة عن قيمة الإنتاج في الاقتصاد موزعة بحيث إن من يستطيع إنتاج المزيد ليس لديه ما يكفي من المال لشراء ما يلزم لإنتاج المزيد، وإبقاء النقود على ما هي عليه تعني إبقاء حال الإنتاج على ما هي عليه، بينما خلق المزيد من النقود وإعطاؤها لمن يريد ويستطيع أن ينتج سيغير في حجم الإنتاج في الجزيرة، لا في كمية النقود وحسب، ومن ثم فإن توزيع النقود قد يغير الإنتاج وكميته في الاقتصاد.
في الأمثلة التي بدأنا بها هذا التقرير ستقول النظرية إن هذه الدول فشلت في تطبيق النظرية بالشكل الصحيح، فربما كانت هذه الدول عند أعلى قدرة لها على الإنتاج، ورفعها لعرض النقود لم يكن يمكن له أن يؤدي لزيادة الإنتاج مثلًا، أو أن النقود المطبوعة لم تستخدم لزيادة الإنتاج، أو أن كثيرًا من هذه الدول كانت تعاني من ديون خارجية بالدرجة الأولى، ولا ينطبق عليها حالة طباعة النقود المحلية لسداد نفقات بالعملة المحلية.
هل يمكن للدول العربية أن تستفيد من هذه النظرية؟
نظريًّا فإن الدول العربية تستدين محليًّا؛ فـ62% من الدين المصري محلي وفقًا لجهاز الإحصاء، وعليه فإن القدرة على طباعة النقود لسداد هذه الديون المحلية سيكون عظيمًا جدًّا لمصر، وغيرها من الدول العربية، على الأقل فيما يخص ديونها المحلية، وباستثناء دولة مثل لبنان انهارت عملتها أصلًا.
ولكن الإشكال هو أن هذه الدول ليس لديها تحكم كامل بعملتها وإصدارها؛ فعمل الدول العربية في أغلبها مربوط بقيمة شيء آخر، تمامًا كما كانت العملات عليه سابقًا لظهور «Fiat Currency»، عندما كانت العملات مثبتة لقيمة الذهب أو الفضة، والدول العربية اليوم في أغلبها تثبت قيمة عملاتها للدولار أو اليورو أو سلة من العملات، بينما أصبحت عملات الدول المتقدمة اليوم تعتمد على الثقة بالدولة المصدرة للعملة.
الليرة اللبنانية مثبتة أمام الدولار رسميًّا بينما تهبط قيمتها في السوق السوداء
بصرف النظر عن هذه الإشكالية؛ فإنه يبقى عند الدول العربية مشكلة كبيرة فيما يخص الدين الخارجي، والذي لا تستطيع أن تطبع من عملاته ولا تحكم لها به، وهذه المشكلة مرتبطة أصلًا بعجز الميزان التجاري المزمن عند الدول العربية، والتي تحتاج بسببه إلى اجتذاب العملات الأجنبية لدفع ثمن المستوردات، بينما لا تستطيع قيمة صادراتها التي يُدفع ثمنها بالعملة الأجنبية أيضًا تغطية قيمة المستوردات.
كل ذلك يضاف إلى الفرق الكبير بين اقتصادات دول مثل الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي أو اليابان واقتصادات الدول العربية، وهي اقتصادات أصغر وأقل كفاءة، وتعتمد الاقتصادات الثرية منها على بيع المواد الأولية مثل النفط والغاز، ولذلك فإن مهمة استثمار النقود المطبوعة حديثًا فيما يرفع الإنتاجية ستكون أصعب مما هو في الدول المتقدمة.
ولكن لو صحت النظرية، واستطاعت الدول العربية أن تستخدم طباعة النقود كأداة داخلية تحفز فيها زيادة الإنتاجية فإنها ستستطيع العمل في هذه الدول، ولن يشكل ذلك خطرًا محدقًا من انفلات التضخم ووصوله لمعدلات مفرطة.