يحكي أن مسؤولًا سابقًا سأل الرئيس المصري عن سبب إقالته، فأجابه: التغيير سُنّة الحياة، فرد المسؤول: ولماذا أقلت فلانًا وفلانًا؟ فأجابه: التغيير سُنّة الحياة، فرد المسؤول: ولماذا أنت الوحيد الذي لا تتغيّر؟ فأجابه الرئيس: تغييركم أنتم سُنّة، لكن أنا وجودي فرض.
في سبتمبر (أيلول) 2018، جلس محمود السيسي وعباس كامل مدير المخابرات ومحمد أبو شُقّة المستشار القانوني للسيسي، يتدارسون إطالة فترة بقاء الرئيس في منصبه. وخلصوا إلي أنّ هناك مهامًا ما زال عليه إنجازها، مثل محاربة الإرهاب وإصلاح الاقتصاد، ولذا فهو يحتاج مزيدًا من الوقت والسلطة. إنها ليست المرة الأولى التي يعبث فيها ديكتاتورٌ بالدستور، لينصّب نفسه حاكمًا أبديًا ويسيطر على كل شيء.
في الحقيقة، كل ديكتاتورية تخلق أسبابًا لتبرير وتمرير مشاريعها القمعية السلطوية، كي تُحكم قبضتها على المجتمع أكثر. وفي نفس الوقت تحتاج إلى معارضة من نوع خاص، تصنعها وتوجّهها كما تريد، دون أن ينفلت زمام الأمر من بين يديها. ولا يمكن تفسير الحالة الانفعالية التي أظهرها السيسي مؤخرًا، إلا على ضوء فهم، أنه بخلاف كل الضغوط الناجمة عن اخفاقاته الأمنية والاقتصادية والسياسية، وجد نفسه في مأزق جديد أمام فوبيا الثورة ضد حكمه.
بعض الديكتاتوريات تدوم طويلًا، وبعضها لا. حكَم الحزب الشيوعي الاتحاد السوفيتي 70 عامًا، في حين احتفظ الجيش التركي في الثمانينات بالسلطة لمدة ثلاث سنوات فقط. هناك بالطبع عوامل تفسر الاختلافات في هشاشة الديكتاتوريات، ولماذا تستمر بعضها أكثر؟ وما هي الإستراتيجيات المختلفة التي تتبعها للحفاظ على سيطرتها؟
إذا أسقطنا هذه الأسئلة على الحالة المصرية. يجب أن نعرف العوامل التي تؤثر في بقاء نظام السيسي، وكيف ولماذا يختلف نموذجه الديكتاتوري عن غيره؟ ثم كيف يمكن إسقاطه؟
العوامل التي تؤثر على بقاء نظام السيسي
أي نظام سياسي يتكون من قواعد وإجراءات رسمية وغير رسمية لاختيار القادة والسياسات الوطنية. وتُعتبر الأنظمة استبدادية، إذا سيطرت على السلطة التنفيذية والتشريعية، وحظرت المعارضة، وهذا ما فعله نظام السيسي.
أولا: الدعم الشعبي
يتطلب نظام السيسي، مثل كل الأنظمة الاستبدادية، دعم مجموعة من الشعب للحفاظ على السلطة. وهذا الدعم ضروري لجميع الديكتاتوريات. وبالتالي سيظل نظام السيسي، طالما أنه قادرٌ على تعبئة بعض المصريين لصالحه، بغض النظر عما إذا كان هؤلاء يدعمونه بإخلاص أو مكرهين. وهنا أشير إلي أن صمت المصريين يعتبر موافقة ضمنية علي وجود السيسي.
ومع ذلك، لماذا يدعم أي مواطن نظام السيسي؟ ألا يفضّل الديمقراطية؟ على الرغم من أن الإجابة معقدة، إلا أن بعض المواطنين يدعمون نظام السيسي طالما لديهم حوافز للقيام بذلك. تتراوح بين المال، مثل توزيع الغنائم الحكومية، إلى الأمن، مثل الاعتقاد بأن الحياة أكثر أمانًا بتواجد السيسي، وخوفا من اندلاع العنف إذا سقط، ويعمل نظام السيسي على ضمان وجود مثل هذه الحوافز، فنراه يوزّعها على مؤيديه من الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، ويحجبها عن معارضيه بل يعاقبهم أيضًا. والكارثة أنه يعتمد في هذه الرشاوي على موارد الدولة الخاصة؛ مما خلق فسادًا هائلًا. ويجب أن نلاحظ أنه من الصعب الحفاظ على الدعم المالي خلال فترات الأزمة الاقتصادية، ولهذا لجأ السيسي إلى القروض الضخمة، أيضًا يصعب استخدام القمع دون وجود جهاز أمني متطور، ولهذا تعاقد على صفقات أسلحة قمعية بمليارات الجنيهات.
ثانيًا: معارضة مكسورة وضعيفة
في كل الديكتاتوريات، يوجد أفراد لا يدعمون النظام. ومفتاح بقاء نظام السيسي هو ضمان عدم توحّد هؤلاء، حتي لا يصبحون أقوي تنظيميًا، فيهدّدون سيطرته. وتأتي معارضة السيسي بأشكال متنوعة، تتراوح من منظمات المجتمع المدني إلى جماعات الثورة المسلحة، لاحظ عدم وجود أحزاب سياسية معارضة فعالة. مجرد وجود هذه الجماعات لا يضر نظام السيسي، طالما أنها منقسمة. الجماعة المعارضة الموحدة وذات الحجم الكبير المنظّم، هي التي تهدد السيسي، حيث يمكنها أن تحرك المصريين نحو التغيير. وفي أقل الاحتمالات يمكنها أن تضعف نظام السيسي تدريجيًا بعدة طرق، مثل حشد الجمهور ضد تزوير الانتخابات، أو تنظيم احتجاجات، وكلاهما يمكن أن يشكل كارثة على نظام السيسي. لذلك نراه ينخرط في مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لإبقاء مجموعات المعارضة منقسمة وضعيفة، بل يشيطنها. مثل التهديد والقمع والاعتقال والإعدام، ووضع قوانين لخنق المعارضة.
ثالثًا: ولاء النخبة
يحتاج نظام السيسي أيضًا إلى الدعم المتواصل من النخب التي تشاركه في صنع سياساته، إنهم العناصر الأساسية لتوزيع المحسوبية، فهذه النخبة تؤدي خدمات مهمة للسيسي، مثل حشد الناخبين بالإجبار، وتزوير الانتخابات، وتهديد المعارضة، والتجسس على الشعب. ويصدّر النظام لهذه النخب فكرة محورية، وهي أن فوائد دعمهم للسيسي تفوق تكاليف معارضته.
رابعا: العوامل الهيكلية
يخبرنا التاريخ أن الديكتاتوريات العسكرية هي الأكثر هشاشة والأقل عمرًا. ومن أهم أسباب كون بعض الأنظمة الاستبدادية أكثر عرضة للانهيار من غيرها، تأتي العوامل الهيكلية للديكتاتورية، فمثلًا إذا حدثت انقسامات داخل النخبة المؤيدة لنظام السيسي سوف يتزعزع استقراره وينهار، بلا شك. في نظام السيسي، يتمتع العسكر بكل السلطات. ومع ذلك، فإن بقاء وفعالية الجيش نفسه، هو ما يُقدّره الجنود المحترفون أكثر من غيرهم. ولهذا السبب، فإن أكبر تهديد لنظام السيسي، هو حدوث انشقاق في الجيش. وهذا ما يعيه السيسي جيدًا، وهو على استعداد لفعل أي شيء لمنع حدوثه. لأنه إذا اشتدت الانقسامات، سيفضّل معظم القادة والضباط العودة إلى ثكناتهم، بدلًا عن المجازفة بتفكك الجيش. وأي تنافس لفصائل داخل نظام السيسي، يمكن أن يدفع الجيش إلى ترك السلطة بمحض إرادته. ونظرًا لأن معظم أعضاء نظام السيسي يمكنهم العودة إلى الثكنات، مع استمرار حياتهم الوظيفية نسبيًا، فإن ترك مناصبهم قد لا يحمل تداعيات سلبية كبيرة. لهذا أرى أن نظام السيسي يحمل داخله بذور تدميره الخاص. لهذه الأسباب، لن يدوم نظام السيسي طويلًا، كما أنه معرض لأزمات اقتصادية ومجتمعية القاتلة، بسبب جهل العسكريين إدارة الأزمات المدنية. وعندما يخرج وزير دفاع السيسي ويقول: الجيش على قلب رجل واحد، ولا توجد به انقسامات فهذا معناه أن هناك ميلٌ إلى خلافات داخلية. ما لا يعرفه وزير الدفاع، هو أن ممارسة الجيش للحكم يمكن أن تؤدي إلى خلافات بين أفراده، وأن أي جيش يحتاج إلى عزله عن المجتمع ليظل متّحدًا.
كيف يسقط نظام السيسي؟
يجب أن نلاحظ أنه عندما تنهار الديكتاتوريات، فإن هذا ليس مؤشرًا على الانتقال إلى الديمقراطية. كثير من الديكتاتوريات تم استبدالها بعد فترة وجيزة بديكتاتورية أخرى. وهذا ما حدث في مصر، ديمقراطية لم تدم سوى عام واحد، ثم عاد الانقلاب بوجهه القبيح. وبرغم هذا، فنموذج نظام السيسي عرضة للسقوط بوسائل كالثورة، وقد ينهار أيضًا بوفاته. لكن من غير المرجح أن يؤدي غياب السيسي إلى ديمقراطية، دون تفكيك للدولة العسكرية.
فما هو الحل إذًا؟
هناك أربعة سيناريوهات رئيسة تسقط بها الديكتاتوريات
1. الانقلاب العسكري: وهذا وارد في حالة نظام السيسي. الإطاحة به بالقوة أو التهديد باستخدامها، من قبل مجموعة من ضباط الجيش الساخطين. فالانقلابات العسكرية تكون مدفوعة دائما بدافع معين وفرصة سانحة. والإطاحة بمحمد مرسي (الرئيس المنتخب ديمقراطيًا) توضح ذلك. كان الدافع وراء الانقلاب متجذرًا في تصوّر الجيش بأنه كان يهدد المؤسسة العسكرية، وأنه أهان كبار الضباط حين عزلهم، ثم أعلن عن رغبته في إخضاع إمبراطورية الجيش الاقتصادية للمساءلة، مما سيقلل أو يمنع وصول ملايين الجنيهات إلى كبار الضباط. وكان من الطبيعي أن يحظى الانقلاب بدعم شعبي، بعد الهجوم المتواصل علي مرسي طوال سنة حكمه، إعلاميًا ومؤسسيًا تحت قيادة الدولة العميقة والمخابرات. فأوهم الجيش شرائح عديدة من الجماهير بأنه يقوم بتصحيح الأوضاع نيابة عنهم. وأن الحكومة المدنية غير قادرة على حل مشاكل البلاد. ولكن، لن يتم الانقلاب العسكري علي السيسي، إلا بعد ظهور اضطرابات اجتماعية مثل الاحتجاجات أو المظاهرات.
2. التسوية التفاوضية: الخروج السلمي. وهذا وارد في حالة نظام السيسي، إذا كان البديل عسكريًا. يترك السلطة طواعية لرئيس آخر، ويتفاوض على شروط رحيله. مثلما حدث عند سقوط فرانكو في، وتم تعيين خوان كارلوس ملكًا لإسبانيا.
3. الثورة: الإطاحة بالقوة أو التهديد بالقوة، وهذا وارد في حالة نظام السيسي. وغالبًا لن يكون هذا السيناريو عنيفًا. فالثورات العنيفة لا تحدث في مصر؛ لأنها صعبة التنفيذ، حيث تفتقر الجماهير إلى الأسلحة اللازمة لإزالة نظام السيسي من السلطة. ولكن المرجح أن تحصل حركة ثورية معارضة على قوة أكبر، وأن تنجح في الحصول على دعم شرائح واسعة من المصريين بطبقاتهم الاجتماعية المختلفة. لكن كي تحدث ثورة، يجب أن تكون حركة المعارضة كبيرة الحجم بحيث لا يستطيع نظام السيسي قمعها، أو أن ترفض قواته استخدام القوة ضد المواطنين أو تقدم دعمهما للمعارضة. وهذا سيحدث عندما يعمل المصريون من الأسفل لإسقاط النظام. ولكن يجب أن ينتبهوا هذه المرة. يجب أن يختلف النظام السياسي الذي ينتج بعد سقوط السيسي اختلافًا كبيرًا عما سبقه، سواء من حيث الأيديولوجية أو المؤسسات.
4. التدخل الأجنبي: بشكل مباشر وغير مباشر، وهذا غير وارد في حالة نظام السيسي. قوة أجنبية تجبر النظام على السقوط، من خلال غزو مباشر، مثلما سقط صدام حسين في العراق عام 2003. أو من خلال دعم عسكري خارجي، مثلما حدث في زائير، حين سقط موبوتو علي يد كابيلا المدعوم عسكريًا من رواندا وبوروندي وأوغندا.
فهل المصريون قادرون على الصمود أمام نظام السيسي وأدواته وأجهزته الأمنية؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست