نملةٌ صغيرة رأيتها تسعى على أرضٍ طينية جرداء، تتعثر بين حباتٍ رمل تبعثرت على هذه الأرض الطينية، تُحدث دبيبًا غير مسموع بالنسبة لأذني وأذن المارة، لا تدري هل سيأتي فردٌ يدهسها تحت حذائه بدون قصد، أم أنها ستستمر في السعي؟! دبيب النملة غير مسموع لكي تقول للناس أعيروني اهتمامًا أو على الأقل لا تدهسوني، اتركوني وشأني، لا تدعو فصيلتي تحزن علي.
السعي موروثٌ آدمي.. فطري.. شيءٌ ما يدفعنا لأن نسعى، إشاراتٌ لا إرادية تُبعث من المخ كالحاسوب لأن نكمل السعي في الحياة، سعيٌ كسعي النملة هذه؛ تسعى وتسير، وتتآخي مع نملةٍ أخرى وأخرى، تسعى وتجمع رزقها من كل أنعمِ الله ليذيقها الله تعالى متعة النجاح بعد السعي.
هبت تلك النملة واقفةً أمام شذرات من الطعام الملقى على الأرض، منه الكبير حجمًا ومنه الصغير، حاولت أخذ الكبير ليكفيها ولكنها وللأسف لا تدري من أي مقدرةٍ تقوى على حمله أو حتى زحزحته، ولكنها رضيت بالقليل، وأخذت أصغر الشذرات حجمًا، وحملته بمقدماتها فوق جزئها الأمامي، لتصنع المجد.
إن الرضا بالقليل هو من جميل صنع الله في خلقه لخلقه، وهذا ما دفع النملة لأن ترضى بالقليل وتأخذ ما في مقدورها لكي تحمد الله وتخزنه في فتحةٍ صغيرة بعيدة عن نظر البشرية لتضمن ألا يدهسها أحد ويدمر بيتها، ويخرب مسكنها، تسعى فتأتي بطعامٍ فتأكله هي وخواصها فقط لكي تضمن البقاء.
ها أنت ذا، إذا حملت ما فوق طاقتك تبرز عروقك وتنتفض، ويهيج قلبك بدقاتٍ متتالية وسريعة، لكي يكون إنذارًا لك بأنه يكفيك ذلك ويكفي طاقتك ويشبع رغبتك، إنه الرضا، إذا دخل للنفس هذبها؛ وإذا بعُد عنها قبحها، الرضا أسلوب حياة المتقين، ولماذا لا تكون النملة منهم؟! ولما لا تكون أنت كالنملة؟!
يا للعجب! نملة تعلم الإنسان الرضا، تعلمه القناعة بالقليل، والاستعداد لأن تلقى حتفها بدهسةٍ من شخصٍ حتى وإن كان دون قصدٍ منه، تهبُّ في الصباح الباكر لتخرج من مسكنها الضيق بالنسبة لباقي الحشرات تقريبًا، والضئيل بالنسبة للإنسان توكيدًا، الذي بنته وحفرته بجهدها، بقصارى جهدها، حتى تُعلِّمَ المرء آلية السعي، وديناميكية العمل الدنيوي في الحصول على بديهيات الحياة التي تخصها وبالتبعية تخص ذواتها، وتكمل سيرها بعد أن خرجت من بيتها، لتسعى لرزقها، ولمهامها، فكما أن للإنسان مهامًّا موكلًا بها، فللنملة مثلما للإنسان بالضبط، نفس الآلية نفسها، والديناميات نفسها، أسلوب الحياة نفسه، لا يدري الإنسان بأي أرضٍ وحالٍ ووقتٍ يموت، وهكذا النملة لا تدري أيضًا، وكما أن الإنسان في مقدوره أن يطغى على النملة -وإن طغى- فإن الوحوش في مقدورها أن تطغى -وإن طغت- على الإنسان، كما تدين تدان، هكذا الاتزان في كل شيء، وفي الحياة، وهكذا الإصلاح في الأرض، والبقاء ليس للأقوى كما يظن أغلب الناس، ولكن البقاء للساعي والمعافر، كالنملة، وبالنملة، فكالنملة كأسلوب حياة، وبالنملة بشؤونها وتدبير حياتها.
عرفنا علمًا أنَّ البقاء للأقوى، ولكن البقاء للنملة، لأنها مصدر الرضا، وخلقها الله لتكون مصدرًا له، لأن البقاء ليس للأقوى بل للأكثر رضا بصنع الله كالنملة، تسلك سُبل حياتها، ثم تعود مرةً أخرى لموطنها الذي يتجمع فيه طائفتها، لتقتسم ما زفرت به، لتعلمنا التعاون لأن التعاون نصف حل المشكلة، والاجتهاد نصفه الآخر؛ هكذا النملة تعلمنا منطق الحياة الذي فطر الله الناس عليه، لا تبديل لخلق الله، كما لا تبديد لملكوته.
خلق الله النملة مصدرًا للضعف والوهن، لأمرها لذويها: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، ولماذا: حتى لا يحطمنهم سليمان -عليه السلام- وجنوده، فهكذا كانت النملة مصدر الضعف والوهن، ورغم اعترافها بذلك فإنها لا تزال تسعى وتدُب وتسير في طريقها، لا تدري بأية حالٍ تموت، ولا بأي زفرٍ تزفر، ولا حتى بأية هيئة ستغدو، حقًّا وصدقًا، النملة مصدر للرضا، والقناعة، والخضوع لمراد الله، جعلها مصدرًا للحفاظ على البيئة من خلال قيامها بالتكاثر والتجمع على الجسم الميت ولا سيما بقاياه، لتلخصنا منه، هكذا كانت ولا زالت كُلفَة النملة.
لمَّا خلق الله النملة سمَّاها نملة لتنمُّلِها، وكثرة حركتها، وقلة قراراتها، إذ تتحرك النملة بشكل ملحوظٍ وسريعٍ، واعجباهُ! من نملة تقابل أخرى فتقف الأولى أمام الأخرى وكأنها تُسلِّم عليها! وتبادِلُها السلام، لتنسُنَّ في الكون مبدأ السلام والتآخي، ولتتماشى مع قرار السلام في الإسلام الذي قرَّه لنا رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن إفشاء السلام يولِدُ المحبة والتآخي، ولنا في النملة عِبرة وعِظة، وهي أن النظام العام يولد التعاون الحسي والمعنوي بين فصائل النمل المختلفة، إذ إن وقوف النملة هذه بمقدمة جسمها أمام الأخرى ذاك بالهيئة الأولى نفسها يدل على مبدأ النظام، سواءً كان بيولوجيًّا، أو حسيًّا، وكأن النملة تقول لنا: السلام ركيزة الحياة.
النملة تنظم حياتها طبقًا لقوانين بيولوجية الله أعلم بها، فهو أمر -حتى وإن اتضح- خفيٌّ، ولكن الظاهر هو التعاون وحب الغير، فقولها وأمرها لأقرانها في وادي النمل -وعندما وطأ سليمان الوادي- بأن يدخلوا مساكنهم، يدل موحيًا بقضية مصلحة الغير والتعاون من أجلهم، ولنا نحن البشر في ذلك عِبرة وعِظة، فلولا النملة ما تعلمنا التعاون وحب الغير والخوف عليه، والعمل على مصلحته، فذاك قمة التآخي بأن تخاف على تحطيم سليمان -عليه السلام- وجنوده ودهسهم بأقدامهم أو ما هو غير ذلك، يعلمه الله فقط.
فشكرًا للنملة التي رأيتُها، وشكرًا لتلك الظروف التي سمحت لي بأن أتدبر في حالِ النملة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست