عن “وهم الجَماعة” سنغوص في محاولة للتمنطق والتفلسف الحازمين، سنطاوع دهاليز الفكر ونقارعها بغية اِكتشاف الخيوط الناقلة التي تتيح فهما جيدا لهذه القضية الشّائكة، متجاوزين تلك المسافات البيضاء التي تعكر الرّؤية، وتجعل من العاطفة ضربا من ضروب السّذاجة في قضية فِكرية محضة لا تقبل أن تعيّر بمسبار التّفاهة والشّعبوية؛ النّقاش الشعبوي أكل عليه الدّهر وتجاوزته الحِقبة وتمّ طيه ونسيانه للأبد، فإلى مزبلة التّاريخ لكلّ الأفكار غير المحيّنة التي لا تواكب ولا تثير البحث والعمق النّافِع.
إريك فروم
يقول إريك فروم: “الإنتماء للجماعة مصدر الفخر النّرجسي الوحيد للفقراء ثقافيا واِجتماعيا”. وفي هذا ضربة موجعة لكلّ من يذوب في رهان خاسر بالحجّة والبرهان وينسج الهروب الماكر والذي لا يعدو سوى أن يكون هروبا ضائعا من رحمِ حياةٍ تستمد شرعيّتها من الثقافة والعِلم؛ الاِمتثال والخضوع وكذا الاِنصهار وسط جماعات تتبنّى الشعبوية والنّقاش العقيم كما تكمن مناعتها في آلية الدّفاع السّبقي، هذا لا يرسّخ سوى لجدلية العبد والسيّد وسيادة القطيع وغيرها من النظريات التي أكل عليها الدهر من ناحية السيّاق الزمني والجدول الفكري، لكن وللأسف لا تزال قائمةً على أرض الواقع، بل ولها أتباع وأناس لا يدّخرون جهدا من أجل أن توجَد وتتقوّى مثل هذه الممارسات الكئيبة فنيّا والمُنتقصة تقنيّا.
الاِستثناء
الاستثناء هنا يخصّ كل الهياكل والتّنظيمات ذات القيم والأخلاق، والتي لها أواصر متينة وتقف وقفةً شامخة بفضل المبادئ التي تحرص مثل هذه التّجمعات/ الجماعات، نقابات كانت أو جمعيّات أو نوادي. في حين أنّ النقاش الثقافي والسيّاسي في بلدنا يأخد مسارا بهيّا ومشرقا، تأخذ هذه التّجمعات مُنتقصة الرؤية ومنعدمة الأهداف؛ منعطفا في الآن ذاته قد يسبّب الاِندثار لما حقّقه المجتمع المدني وآلياته من تعزيزات لروح الأخلاق والقيم بالسّنوات القليلة الفارطة، والضرورة هنا تستثني كل التّجمعات البنّاءة وذات روح المسؤولية، وللأسف فقد أصبحت هي الاِستثناء في زمن يسود فيه روّاد السّفسطائية والدّغمائية، وليسَ غريبا أنّ نفس الأشخاص هم أعضاء وأصحاب دق الطّبول لهذا النّوع من الكيانات.
آليات ممارسة الضّغط
الإخفاقُ الذي تحقّقه مثل هذه التّجمعات يكمن في الضّرب في أعراض النّاس والتّطاول على أصحاب القرار، النّقص أراه في النّقاش الشعبويّ الذي تفيض منه رائحة “كذبة تبنّي النّضال” والعُرف يقضي أنّه شتان بين النّضال والكذبة الخرقاء الهوجاء التي تسوّق لذلك، الإحساس بالنّقص لا يظهر سوى في خلطِ المقدّسات بالضرب في أعراض النّاس على نفس النّص بدون الاِحتكام للرّجاحة والمنطق.
اِستغلال الدّين والتّجارة به
يدعو الله عزوجل إلى دار السّلام وحفظِ الكلّيات الخمس وعلى رأس القائمة حفظ العِرض، وضرورة الصّلح واللّين وأن لا تشيع الفاحشة؛ في الوقت الذي أضحت فيه عديد التّجمعات في زمننا هذا تتاجر بأعراض النّاس وتمارس ضغطا مهولا على كلّ شيء/ شخص يمكن أن يهدّد وجودها وكيانها. المروءة والأخلاق والحِلم ليس لصيقا بالدّراسات أو نيل الشّواهد ما دامت تلك الكيانات تحدّد قيمتها وعلوّ كعبها من خلال الشّواهد والدّرجات الدّراسية كما لو أن الوعي مقرون بذلك، والواقع يقضي بأن هذا تعميم جدّ خاطئ.
اللّغة
من الواضح جدّا الاِستعلاء باللّغة والأسلوب من طرف أعضاء هذه الجماعات، ثم اِستغلالها استنادا للوضعيات والأشخاص المستهدفة بل والهدف الكامن وراء ذلك والذي يتغيّر بسرعة البرق لأنه لا مبدأ يصون تحركاتهم الرّجعية تلك. الواقع يقضي بأنّ اللّغة وليدة فعلٍ أميّ وهذا لا مناصّ منه، بعث المولى فينا رسولا أميّا منّا حفظَ الذكر ليُجمع بعدها وتصونه عين الربّ التي لا تنام، ثم بعدها لتُستخرج منه اللّغة فقواعد الصّرف والتّركيب تباعا، المتضلّع العالم الذي غاص في بحر الثقافة والدّراسة يعلم أصول اللّغة ومخرجها بل والرّحم التي كانت خلف الولادة تلك، والمنطق يقتضي بالضرورة أن العكس ضرب من الحماقة ضد قائلهِ/ صاحبه، كما أن الاِستعلاء لا يكون إلا لرواد النّقص الحادّ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست