يظل التاريخ نبعًا للعبرة والتدبر، غالبًا ومنهلًا للقياس وأحيانًا مصدرًا للخجل والاستنكار؛ مما يدعو البعض للاستبراء منه ورجمه بكل وسيلة متاحة معتمدًا على أفكار أقل ما توصف به مرتبكة ومشوشة، لن أقول مغلوطة ولا مدسوسة.
والتاريخ أحداث، فمثلًا ستجد من يقول إن الفتوحات الإسلامية احتلال، ويرفض أن يسمع الرد، وتجد من يقول إن الدين الإسلامي يكره مصر! (لا تنزعج؛ يرى فقط أن القرآن ذم فرعون مصر، وبهذا يكون الإسلام قد ذم مصر).
ومن حيث الشخصيات سنجد من يقول إن سعد زغلول زعيم مدسوس مصنوع بيد الإنجليزي، وآخر يقول عن الحجاج الثقفي السفاح إنه موحد الجماعة؛ ليدعم قتيبة في فتوحاته، وهكذا سيكون لكل أمر وجهان.
ومن هذا الباب وجدت ما يمس سيدتنا عائشة رضى الله عنها بتكرار أمور كثيرة مغلوطة بحقها وبها الكثير من الشطط واللغط.. وما الجديد؟ فقد واجهت سيدتنا عائشة هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يمشى على الأرض.
وقد تكررت الرود كثيرًا اسيدتنادًا للمرويات (كما يفعل الغالبية والمحبذ من الأكثرية)، ولكن لا أحد يصغي لهذه الردود، وتلقى في سلال النسيان المدعوم بالتعصب.
ولكن ما باليد حيلة، فما دام البهتان يتكرر لا بد أن يتكرر الرد.. ولكن سيكون هذه المرة اعتمادًا على العقل والقياس و(سعة الرؤيا الهاضمة للتراث وإسقاطه على أيامنا هذه) لمن كان له سمع وضمير معرفي واضح.
عُمْر سيدتنا عائشة عند زواجها
مدخل مناسب لمن يريد أن يظهر العقلانية والموضوعية في تناول التاريخ الإسلامي، وهل يجوز أن تتزوج بنت تسع سنوات من الرجل الكهل كبير السن؟
وبغض النظر عن كل المرويات التي أكدت أن سيدتنا عائشة كانت مخطوبة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم سنرد بالعقلانية ذاتها (كما تواعدنا).
عندما تزوج جدى سنة 1925، وكانت جدتي بنت 14 سنة هل أنكر الناس على جدى ما فعل؟ وكان جدى قد قارب الثلاثة والثلاثين من عمره؟ لم ينكر أحد؛ لأن العرف يقر هذا.
وكذا كان زواج سيدتنا عائشة متوافق مع العرف.. هذه واحدة.
محمد صلى الله عليه وسلم حين تزوج سيدتنا عائشة كان على خلاف مع قريش (لا أحد ينكر!) فهل عندما يفعل المختلف معنا شيئًا مشينًا ومخزيًا سنسكت عنه أم سنفضحه ونشهر به؟ (في الطبيعي والعام)، ولكننا لم نجد في شعر قريش ولا في مرويات الجهلاء منهم ما يذم هذا، بالرغم عن الحرب الإعلامية التي كانت تدور بين الفريقين وخمدت بظهور حسان بن ثابت ورائعته (بانت سعاد).. أعتقد أن عمر سيدتنا عائشة عند الزواج ما عاد يفرق مع أي منا، فالزواج متوافق مع العرف والتقاليد العصرية حينها (وكل وقت وله أذان ـ كما نقول في العامية المصرية).
ومن بعدها نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يضع سيدتنا عائشة في مكانة خاصة ويقول:
«خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء»
سنأخذ عن أنثى ـ نعم، والشطر فقط ـ أي النصف ـ لماذا؟
لأن فقه النساء يشغل النصف في الشرع الإسلامي وسيدتنا عائشة هي أطول من عاشت في بيت النبوة، بل تربت فيه، فنبتت عظمًا ودمًا على الإسلام الصرف المحض، وخصوصًا في أحكام الجماع والطهارة، فهي ذات باع فيها؛ لأنها تروى مشاهدات ومعايشات، وهذه نطلق عليها في الدين (السنن الفعلية)، لهذا سنجد أغلب مرويات سيدتنا عائشة تبدأ بقولها (شاهدت الرسول صلى الله عليه وسلم.. أو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل كذا حين كذا)، ونادرًا ما سنجدها تروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقولها (قال).
ومن هنا سنصل لأن الزج والدفع بسيدتنا عائشة في باب المرويات عن جمع القرآن ما هو إلا حيلة حاو مبدع في سيرك البهتان على القرآن؟ ما غرضه.. ليس حينها الآن!
والتركيز على سورة الأحزاب بعينها (لهو من خصوص رديء الكلام عند فئة معروفة)، وهي السورة التي يعرف كل من تماس مع الدين الإسلامي فقهًا وشريعةً أنها الدليل الأكبر على المنسوخ لفظًا (بالرفع) في مقابل المنسوخ حكمًا، رفعت آيات سورة الأحزاب، ومن قبلها نُسخ زواج المتعة حكمًا.. هل عرفت لماذا يجري التركيز على نسخ سورة الأحزاب؟
لنصل لإنكار الناسخ والمنسوخ
ويحل المنسوخ حكمًا (زواج المتعة/ الذي يجب أن نقف معه، لكنها وقفه للخواص أصحاب الرؤيا، والحل، والعقد، والتشريع، لا أصحاب الطرح العام).
وجَمع القرآن كان من الصدور وبشهادة القراء الحفظة أولًا، فأية مروية عن صحيفة هنا أو هناك فلا مجال للاقتناع بها، ولا داعي لذكرها فهي مما تناقله رجال مطعون في سردهم بأنهم إما متروك، أو مكذوب، أو واضعو النص، وهذا ملخص علم الرجال (الجرح) الناقل لنصوص الحديث النبوي.
أنوثة سيدتنا عائشة
من الجميل في الإسلام أنه أقر بأننا بشر ـ خُلقنا من ضعف ـ ولنا سمات وطبائع قد تغلبنا أحيانًا، إلا من عصم الله جل وعلا، وسار النهج مع هذا، والمسلمون لم ينكروا طباعهم هذه ما دام لا حرام فيها، وإن تخللها الحرج.
فنلاحظ أن سيدتنا عائشة تغار (غيرة الزوجة المحبة لكونها أنثى طبيعية) من ذكرى أمنا خديجة (الزوجة الراحلة) رضي الله عنها عندما تعبر سيرتها في مجلس زوجها، ويدافع الزوج عن ذكرى الراحلة بكل وفاء وأمانة، ويضع الزوجة في نصابها الحق، ويردها للحق (طبيعة بشرية).
وتستبد الغيرة وتشتد لعظم الحب والجوى وعظم مكانة الزوج.
هذا ما صرحت به عائشة رضي الله عنها في سبب دواعي الغيرة عندها؛ ففي مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلًا قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع فقال: ما لك يا عائشة، أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك.
وتتجاوز الغيرة حدها لقلة الخبرة وعدم الإحاطة بالأمر، فتمس النص المقدس على عجل، وتقول قولتها الشهيرة المأخوذة دون تحليلها (ما أرى إلا أن ربك يسارع في هواك).
وتلك المقولة أنصفت الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله تجاوز عن المعدود، ولم يتجاوز عن العدد للرسول صلى الله عليه وسلم.
مثلًا رجل عينه فارغة ومزواج، تزوج أربع دفعات من النساء، كل دفعة أربع، إذًا لقد تزوج 16 امرأة، هو هنا يستغل العدد، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد تجاوز الله له في المعدود، أي أن معه تسع زوجات، وأربع ملك يمين، ولن يتمكن من الزيادة بعكس الرجل السابق.. فهل سارع الله في هوى رسوله؟) بهذه المقارنة تتضح الصورة أكثر ونزداد فهمًا لها.
وقد لعبت بها الغيرة والحمية مع سيدات بيت النبوة الأخريات فكشف الله (سرائر الضرائر) إن جاز التعبير الدارج فهنْ لسنْ كأحد من نساء العالمين.. ولهذا تخضع الصديقة للاختبار الأكبر.. الإفك.
هذا كان الأفك الأول ولن يكون الأخير فكل يوم يرمي البيان سيدتنا عائشة «بافتكاسات» لا محل من العقل، ولا الرشاد، ولا حتى الإعراب.
هذه الحادثة أيضًا تجعلنا نقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم وسيدات بيت النبوة موقع التقدير؛ لأنها تسير مع طبيعتنا البشرية، وبالسنن الكونية المعتادة، ولن تتدخل السماء إلا عندما يستعصى الحل، وتتأزم الأمور، وهذا ينفي (أن السماء تسارع في هواك).
السماء التي تركت الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض حربًا شرسة وقذرة دفاعًا عن عرضه وشرفه بما هو بشري وقانوني متعارف عليه، حتى حكم الله ووضع الضوابط للحادثة؛ فكان اسمها الإفك.
وسماها الله جل وعلا هكذا لأن (الإفك ـ لغةً يعنى كذب له أساس صغير في الواقع) يعنى الشائعات في حياتنا المعاصرة «نعمل من الحبة قبة».
والتركيز على ربط ما كان يوم الإفك بالخلاف السياسي في الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان لهو من باب الضجيج، وخلط الأمور، وتلمس إسقاطات من واقعنا المعاصرة على حياة الرعيل الأول، فلو أن الأمر كما يحلو تفسيره عند البعض بأنه نفوس محتقنة (كما يبدو/ ولو هذا حق سندخل لمواقف متشابه منها ما يمس فاطمة الزهراء وعلاقتها مع سيدتنا عائشة، ودفعها لعلي لينفر من سيدتنا عائشة يوم حادثة المغافير ـ وكلا وحاشا) فلماذا تركت سيدتنا عائشة أخاها محمد بن أبى بكر ليتربى في بيت علي كرم الله وجهه بعد أن تزوجت أمه من علي كرم الله وجهه (ولقد كان محمد هذا من أشد المتعصبين والموالين لعلي كرم الله وجهه حينها) إذًا العلاقات شائكة ومتداخلة، وعلينا أن نمسك بأطرافها بحذر لنجمع كل الأطراف بسلام.. وأول الأطراف.
التلميح لموقعة الجمل يوم صلح الحديبية
التناول مزعج ومربك لا محالة، ولكن كل من تعامل مع السيرة بمهل وترو عرفوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تقاعس على كرم الله وجهه (حمية، وغيرة، وأنفة، واعتزازًا بدينه) وهو يكتب شروط الصلح بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيتنزل ذات يوم كما يحدث بالحديبية حينها.. وفوق هذا مر الرسول صلى الله عليه وسلم على الزبير بن العوام وعلى كرم الله وجهه فقال للزبير: (يا زبير، ألا تحب عليًّا؟).. فقال: ألا أحبُّ ابنَ خالي، وابنَ عَمِّي، ومن هو على ديني؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم).
دعنا نوضح درجات القربى بين هذا الجمع:
علي حفيد عبد المطلب لأبيه أبي طالب، والزبير حفيد عبد المطلب لأمه صفية، علي كرم الله وجهه ابن خاله، والزبير زوج أسماء أخت سيدتنا عائشة، أما عثمان بن عفان فهو حفيد أم حكيم (البيضاء) بنت عبد المطلب، فليس في الأمر شبهة احتقان أو نزعه نفسية، وشهوة انتقام كما يحلو للبعض أن يصور الخلاف بهذه الصورة الشوهاء لرجال سمعوا النداء ففرقوا بين الحق والباطل.
وفي النهاية يبقى عندي سؤال مرير: هل هذا الخوض وتكراره مفيد؟ هل سيغير من الوضع شيئًا؟
هل ستقبل نظرتي الموضوعية؟ وتضعها في سياقها، أم أنها بالنسبة إليك منحازة وعوراء؟
وبهذا سيزداد الفراق والتباعد، وتطغى الكراهية، وينفجر بركان النفور، ولربما جرف في هديره أبدان وأرواح.. ونحن في غنى عن كل هذا، ولننظر للأمام لجمع الشمل باتفاق على مبدأ واحد، ومنه نغزل أثواب الاتحاد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست