لم يكن لأكثر المتشائمين أن يصل بخياله إلى أقل مما يحصل اليوم في بغداد، حيث يدخل الصراع السياسي جولة جديدة بين قطبي ما اصطلح على تسميته «المكون الاجتماعي الأكبر»: «الإطار التنسيقي» و«التيار الصدري».

لكن وجه الغرابة ليس في كون الصراع الحالي يمثل حلقة في سلسلة متراكمة من الازمات السابقة بين الطرفين، بل في الاسباب والدوافع التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن.

ابتليت المنطقة العربية والعراق بضمنها، بتحكم العواطف والنوازع الشخصية إلى درجة تقارب الاستبداد بعقول من يتصدون للعمل السياسي فيها سواء كانوا رؤساء أحزاب أو كبار شخصيات مؤثرين في بلدانهم، وحتى على مستوى الملوك والرؤساء في الدول العربية! وهذا بالضبط هو ما يجري في العراق منذ أمد بعيد.

إن طابع الشخصنة الصارخ في الأزمة بين كل من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي قد فرض نفسه بقوة على المشهد السياسي العراقي ليس ابتداء بأزمة حملة (صولة الفرسان) عام 2008 في البصرة أو انتهاء بأزمة الانسداد السياسي الحالية منذ الانتخابات المبكرة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، حين أصر الصدر على استبعاد المالكي من المشاركة في تشكيل الحكومة المقبلة التي اراد زعيم التيار الامساك بخيوطها و رسم ابعادها التفصيلية بنفسه تحت شعار «حكومة الاغلبية الوطنية»، بينما تمسك المالكي بمعادلة الحكم القائمة على عرف المحاصصة الذي سار العراق على طريقه منذ عام 2003.

وقف الإطار التنسيقي – والمالكي بشكل أساسي داخله – عقبة مستعصية طيلة ثمانية أشهر منذ إجراء الانتخابات المبكرة في وجه محاولة الصدر تشكيل حكومة يكون فيها ممثلًا للمكون الاجتماعي الأكبر في تحالف جمعه مع الحلبوسي والبارزاني، حيث تمسك الإطار بمصطلح (الثلث الضامن) لمنع تشكيل الحكومة معتمدًا على قرار المحكمة الاتحادية الأخير الذي أوجب حضور ثلثي أعضاء البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية الذي يعد شرطًا أساسيًّا لتكليف مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددًا، والتي ينفرد بها النظام السياسي العراقي عن باقي الأنظمة البرلمانية حول العالم.

كان مصطلح الثلث الضامن الذي يحاكي تجربة قوى الثامن من مارس (آذار) في لبنان والتي يمثلها بشكل أساسي تحالف حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر، جزء من محاكاة أكبر لمعادلة الحكم اللبنانية التي مثلت نموذجًا ملهمًا للتجربة العراقية وإن بشكل غير معلن. ويبدو أن النموذج اللبناني قد أخذ في السيطرة على أفكار بعض الشخصيات إلى الحد الذي بدأ يرسم ملامح تقسيم جغرافي لمناطق النفوذ بين التيار والإطار: الأول يسيطر على المنطقة الواقعة من جسر الجمهورية الذي يجتاز نهر دجلة نحو مجلس النواب، والثاني يسيطر على الضفة الأخرى حيث الجسر المعلق باتجاه المنطقة الخضراء والتي تشهد ابتداء من عصر الاثنين تظاهرات يطلق عليها انصار الإطار «دعم الشرعية والحفاظ على الدولة».

كما توقع كثير من المراقبين، فإن الاستقالة الجماعية التي قدمها نواب الكتلة الصدرية في البرلمان منتصف حزيران الماضي – بتوجيه مباشر من الصدر – لم تكن إلا نهاية فصل وبداية فصل جديد. فزعيم التيار الصدري الذي اعتاد على ممارسة دور صانع الملوك وقطب الرحى في المعادلة السياسية منذ ان قرر الاستعاضة بها بدلًا من تجربة العمل المسلح، لن يرضى بتسليم الدفة إلى خصمه اللدود وترك مائدة الحكم له ولمن معه بتلك السهولة التي تصورها الإطار التنسيقي وهو يندفع حتى الأسبوع الماضي في مباحثات داخلية لتسمية مرشحه لرئاسة الوزراء. أعطى الصدر أغلبيته للإطار، وبالمقابل انتزع منه ثلثه الضامن ليعطل هو بدوره مشروع خصومه لتشكيل الحكومة. والتي لم يكن فيها تسمية محمد شياع السوداني كمرشح لرئاسة الوزراء إلا شرارة أعادت إشعال جمر العلاقات الملتهبة بين الطرفين إلى سابق عهدها المتأزم بشكل تصاعدي سريع.

يلجأ كثير من قادة الإطار ومن نظرية ومتصدري واجهته الإعلامية، إلى تقديم حجتهم الدفاعية المعتادة والمفضلة، والتي تتلخص في وجود مؤامرة مدبرة تقودها أطراف منافسة من خارج دائرة «المكون الاجتماعي الاكبر» داخل العراق وأخرى من خارجه بقيادة الولايات المتحدة لإضعاف وحدة المكون ومنع الانسجام بين أقطابه. ولعل تلك الحجة تمثل ستارًا فضفاضًا يختبئ خلفه قادة الإطار ومنظروه للابتعاد عن تشخيص العلة الأساسية التي تتلخص في تعدد الأقطاب والرؤوس ورغبة كل منها في تسيد المشهد وحمل راية الدفاع عن «حقوق المكون».

في الوقت الحالي، يتوجه كلا الطرفين المتخاصمين – الإطار والتيار – إلى ممارسة لعبة كسر العظم في الميدان المفضل لهما: الشارع، حيث يتم استدعاء ما راكمه كل طرف على مدار السنوات السابقة من قوة سياسية وعشائرية تتمثل في توالي البيانات التي يعلنها امراء و رؤساء القبائل لمناصرة هذا الطرف او ذاك، وأخرى إعلامية تتمثل في ظاهرة تنامي ما يسمى (الكتَّاب والمحللين والمراقبين السياسيين ورؤساء مراكز الأبحاث) الذين أصبحوا ناطقين شبه رسميين باسم الأطراف المتصارعة في العراق عمومًا، والإطار والتيار بشكل خاص. وهو ما يرسم ملامح صورة جديدة تكون فيها تلك المسميات عوامل جذب لبضاعة الكلام المنمّق والمصطلحات الملتوية – اكثر منها معبرة عن الدلالات الحقيقية لتلك المسميات – التي تمثل سلعة تحتاجها الكتل السياسية لتسويق نفسها بحكم افتقارها لمثل تلك المميزات كجزء من افتقارها لمقومات أخرى كثيرة بفعل تسيد العناصر غير الكفوءة التي تتسلق المراتب العليا بأفضلية الولاء لشخص الزعيم السياسي على حساب الكفاءة.

يستدعي زعيم التيار الصدري – عبر وزيره – مساندة أطراف من خارج التيار الصدري و كقاعدته الشعبية في بغداد والتي اقتحمت مبنى البرلمان العراقي مرتين خلال اقل من أربع أيام. ابرز تلك الاطراف التي يناديها وزير الصدر في الوقت الحاضر، شباب تشرين وسكان المحافظات. إلا أن هناك من يرى تن الصدر معروف بمواقفه ذات التقلبات الحادة والسريعة في الوقت نفسه، وهو الذي كان لأنصاره دور بارز في الفترة الأولى من احتجاجات تشرين 2019 ثم ما لبثت علاقته بها وبمحتجيها إن تدهورت إلى حد التصادم العنيف في ساحات النجف والناصرية ومهاجمتها ونقدها بشكل لاذع عبر وزيره أيضًا. وهذا يعني صعوبة بناء توافق في الرؤى والمواقف مع الصدر دون أسس حقيقية وثابتة خصوصًا مع تلويحه الدائم بعصاه الغليظة المتمثلة بقاعدته الجماهيرية التي تتبع توجيهاته بحدة وقوة و كدون تردد.

بينما تتجه الأنظار صوب المرجعية الدينية في النجف الأشرف – التي تمثل المظلة العليا للمكون الاجتماعي الأكبر – ذات الكلمة المسموعة في الظاهر على الأقل بالنسبة لأتباعها والتي يبدو أنها اختارت التزام الصمت وعدم زج مكانتها الاعتبارية والمعنوية إزاء الصراع السياسي المحتدم، فإن الإطار والتيار يحرصان في بياناتهما الرسمية على استدعاء رمزية الفترة الحالية التي تُزامن حلول شهر محرم الحرام وذكرى عاشوراء وهتاف «هيهات منا الذلة» الذي أطلقه الإمام الحسين (ع) في واقعة الطف قبل ما يقارب 14 قرنًا.

بين (ثورة محرم الحرام) كما يسميها التيار، و(دعم الشرعية والحفاظ على الدولة) من جانب الإطار، فإن سيناريوهات حافة الهاوية لا تزال هي الاحتمال الأبرز لشكل اللعبة التي يخوضها الطرفان، والتي تعتمد على التصعيد الإعلامي والجماهيري لدفع الطرف الآخر إلى إلقاء سلاحه في اللحظة ما قبل الأخيرة والتسليم بأرجحية الطرف الآخر.

يجادل الإطار التنسيقي ومتصدرو مشهد التحدث باسمه في المنابر الإعلامية، بأن حركة الصدر الحالية وسيطرته على البرلمان ليست فقط لتعطيل مشروع الإطار لتشكيل الحكومة، بل تتجاوز ذلك إلى الإبقاء لأجل غير مسمى على حكومة تصريف الأعمال الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع الصدر. ورغم وجود ظل كبير من الحقيقة في الطرح المذكور، فإن ذلك لا يمنع من كون الإطار يتلاعب هو الآخر بالمشهد السياسي ويناقض طروحاته السابقة بتفاهماته الحالية مع أحد قطبي كردستان – الاتحاد الوطني – بشخص الرئيس برهم صالح الذي كان ولفترة سابقة محط اتهام صريح من قبل الإطار بأنه مسؤول عن أحداث الفوضى في البلاد وارتباطه المشبوه مع جهات خارجية معادية.

بينما يقبع أنصار كل من الإطار والتيار على ضفتي دجلة، ينتظر حراك الجيل الجديد بزعامة شاسوار عبد الواحد حلول السبت السادس من الشهر الحالي للانطلاق بتظاهرات ضد حكومة كردستان والزعامة البارزانية هناك، والتي طالما عارضها الجيل الجديد منذ أمد ليس بالقصير. وهذا يعني توسيع رقعة الاحتجاجات وإضافة رافد جديد لسيلها المتدفق.

إن «المؤامرات» الداخلية والخارجية لا تتحقق إلا بوجود بيئة خصبة في عقول وتصرفات من يشكون دومًا من تأثيراتها ووقوعهم في مرماها. وفي الوقت نفسه، فإن التجارب السابقة تعطي درسٕا قويًّا مفاده أن الخطوات النابعة من الفورية غير المحسوبة والتصرفات مبهمة الملامح لا تصلح ما خرب ولا تعمر ما بقي. وإن مصطلحات مثل (العقد الاجتماعي الجديد) و(تغيير شكل النظام السياسي) دون وجود خطة حقيقية لتحقيق ذلك، لا تعدو كونها مجرد وعود براقة تأخذ بالاطألباب لكنها تخفي وراءها أفخاخًا ملغومة.

ويبقى السؤال الأهم حول مدى صدقية الشعارات التي ترفعها الأطراف المتصارعة داخل «المكون الاجتماعي الأكبر» وخارجه ضمن دائرة الطبقة السياسية العراقية التي تم اختبارها عبر تجارب مريرة منذ عام 2003 وحتى اليوم، والتي تحاول من خلالها مغازلة ما تبقى من مشاعر لدى العراقيين يمكن التعويل عليها لكسب ودهم إلى صف هذا الطرف أو ذاك، بينما الحقيقة على الأرض أكثر مرارة وقسوة في أن سهم تلك الأطراف – بلا استثناء – كان كبيرًا وضخمًا في وصول العراق إلى حالة الموت السريري التي سيطرت عليه منذ سنوات، حيث يصارع ممنيًا نفسه بنهاية لمحنة الاحتضار الطويلة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد