قالوا في قديم الزمان وسالف العصر والأوان «تكلم حتى أراك»، لكن بعد مرور الدهر وكثرة الأحاديث والمحدثين اختلط الحابل بالنابل وتعلمت الجموع كيف يتكلمون ويخفون أكثر مما يبدون.
لذا أصبحت الكتابات هى السر الذي يفضح صاحبه وتشي لمن حوله بما يضحكه، وما يخيفه ومتى يكتب وهو ينزف ويخط بدمه الحروف بدلًا من الحبر، قديمًا حينما حاول الإنسان الأول التعبير عن نفسه تحدث بأصوات غير مفهومة، ثم أصبحت تلك الأصوات تحمل دلالات حسبما اتفق مع من حوله ليستطيع التواصل معهم، بعد ذلك تطورت اللغات المنطوقة، وتشعبت منها العديد من اللهجات، لكن كل ذلك لم يلبِّ حاجة الإنسان في التعبير عن نفسه، فكان دائم الشعور بأن هناك ما يجيش بداخله، ويريد أن يفيض به، ولكن لا يستطيع الكلام التعبير عنه، كأنه استشعر مقولة الكاتب الكبير عبد الرحيم كمال في أحد أعماله «الكلام ينقص المعنى»، وعندئذ ابتكر الكتابة ليجليه.
اخترع الإنسان الكتابة قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد تقريبًا، بدأها أولًا بالكتابة التصويرية أي أنه ينقش شكل ما يريد أن يكتبه، ثم بعد ذلك جاءت الكتابة المسمارية التي استخدم فيها الآلات الحادة في النقش على الطين والجدران وما شابه ومعها ظهرت أول أشكال الحروف التي لها أصوات معينة، وترتيب بعض الأحرف سويًّا يصنع الكلمة، ومن عدة كلمات يصنع جملة.
كثرت الجمل والكلمات وأصبح بمقدور الإنسان أن يوثق يومه وأمسه ويفكر في غده، صارت الكتابة هى الحارث للتاريخ عبر الإجيال، فنحن كمصريين كنا نجهل الكثير عن الحضارة المصرية القديمة، حتى تم فك شفرة الكتابات الفرعونية، كما أنها هى المعين الذي لابد وأن ينضج داخله، ويتجلى من خلاله كل العلوم، والأهم أنها استطاعت أن تفض الاشتباك بين المرء ونفسه، فأتاحت له الفرصة لكي يخط بأنماله ما يقيد روحه وأفكاره ومشاعره ومخاوفه حتى تمكَّن بها من تحرير نفسه.
فجاءت الكتابات الصادقة التي تفضح الكاتب والقارئ معًا، كلاهما يشترك في المؤامرة ذاتها وهى الاعترافات التي ظلت حبيسة، ولا أحد يستطيع ولا يريد التحدث عنها إنما وجدت طريقها عبر التسلل للورقة عن طريق الفيلم، لذلك نجد أن الكُتَّاب والمفكرين حين كتبوا عن الكتابة، وما تمثله لهم نجد أنهم وصفوها بصفاتٍ غاية في الحميمية والعذوبة وتحمل الكثير من الألم في آنٍ واحدٍ.
فقال عنها محمود درويش «الكتابة تجرح من دون دم»، وقال جبران خليل جبران؛ قال «ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب».
وكان لإرنست همنجواي رأي ليس بالبعيد فقال «ليست الكتابة بالأمر الصعب؛ ما عليك سوى أن تجلس أمام الآلة الكاتبة، وتبدأ بالنزيف»، أما مريد البرغوثي فرأى أن «الكتابة غربة، غربة عن الصفقة الاجتماعية المعتادة، غربة عن المألوف والنمط والقالب الجاهز، غربة عن طرق الحب الشائعة، وعن طرق الخصومة الشائعة».
وقال باولو كويلو «الدموع هي الكلمات التي تحتاج إلى كتابتها»، والكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قالت «الكتابة بوح صامت، وجع لاصوت له، لكننا ننفضح دومًا به، ننسى أن الحبر لايكتم سرًا، وأضافت مخيفة هي الكتابة؛ لأنها دائما تأخذ لنا موعدًا مع كل الأشياء التي نخاف أن نواجهها أو نتعمق في فهمها».
وقد وصف الكاتب واسيني الأعرج الكتابة بأنها «لا شيء سوى رعشة الألم الخفية التي نخبئها عن الآخرين، حتى لا يلمسوا حجم المأساة وجحيم صرخات الكلمات المذبوحة بنصل صدئ» لكنه قال عنها أيضًا «وعلى الكتابة أولًا أن تمنحنا فرصة للحلم، وإلا فلن تكون إلا مجموعة من الكلمات التي لا شأن لها»
واشترك معه في هذا الرأي الكاتب عزت القمحاوي فقال«الكتابة لا تعرف المستحيل، وهذه فضيلة تشترك فيها مع الأحلام، بينما الواقع فظ وعنيد»
وهناك من رأى أن الكتابة فعل يتصل مباشرة بالقدرة على العيش في الحياة بمختلف مضاربها، واكتشاف خباياها؛ فعبَّر عن ذلك نجيب محفوظ، وقال «الكتابة فن جميل يتصل به الكاتب بهموم الناس ويتلقى منهم وعنهم، أنا لا أستطيع أن أعيش بدون كتابة؛ لأنني في الكتابة أشبع رغبة بداخلي في أن أكتب»
أما توفيق الحكيم كتب «كتاباتي ليست أولادي، ولكنها صياحاتي التي تعبر بها عن وجودي وعن الوجود كله الذي يشملني ويحتويني»
وكان للكاتبة رضوى عاشور رأي بديع حين كتبت «أكتب لأنني أحب الكتابة، وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تُدهشني، تشغلني، تستوعبني، تُربكني وتُخيفني وأنا مولعةٌ بها»
الكاتبة الأردنية سميحة خريس قالت «أكتب كي تصرخ تلك الكلمات المختنقة في صدري، أكتب كيما أطرد أشباح الحروف والرؤى والمعاني، المتشكلة بشرًا وشجرًا وعالمًا يتشظى في دمي يطلب انطلاقًا. أكتب كي أتمكن من التنفس».
«الحياة لا يمكنها أبدًا هزيمة الكاتب الذي يشعر بحالة حب مع الكتابة» هكذا وصفت إدنا فيربر الكاتبة الأمريكية الكتابة وحالة الحب معها، وقالت فلانري أوكونور كاتبة رعب أمريكية «أكتب لاكتشاف ما أعرفه»، وكتب ريك مودي كاتب الخيال العلمي «الكتابة تمنحني الوقت والسكون اللازمين لأقول ما لم أقله كلامًا، ولكن بشكل أفضل»
وقالت ڤيكتوريا تشانغ كاتبة وشاعرة أمريكية «في الكتابة نخرج من صمتنا لنخلق لغةً جديدة، وتأتي هذه الرغبة بالخلق من حاجتنا العميقة لفهم ما هو غير مرئي، وغير مسموع».
وشارك تشارلز بوكوڤسكي قراءه عن شعوره أثناء الكتابة وقال «الخوف هو العائق الوحيد أمامك الذي يمنعك من الكتابة، لأنه يخلق بداخلك شعورًا غير مبرر بمقاومة انسياب الحروف بين ثنايا سطورك».
وحينما سُئل عما الذي أبقاك حيًّا؟ أجاب بكلمةٍ واحدةٍ «الكتابة».
هكذا إذًا تبقينا الكتابة أحياء تمنحنا الشعور بالوجود، وتخبر من يأتي بعدنا بأننا قد مررنا من هنا يومًا ما، هذا ليس رأي الكتاب وحدهم؛ فالعديد من الناس على اختلاف مهنهم وثقافتهم يرون أن الكتابة وجدت من أجلهم فهم يقرؤون أنفسهم بين السطور المكتوبة يشعرون أنها كتبت خصيصًا لهم، وقد قال يوسف إدريس «أن تؤلف كتابًا، أن يقتنيه غريب، في مدينة غريبة، أن يقرأه ليلًا، أن يختلج قلبه لسطرٍ يشبه حياته، ذلك هو مجد الكتابة»
في الختام ليس هناك ختام لأن الكتابة عن الكتابة كما الكتابة عن الحب لا تنتهي أبدًا، وفي كل مرة تكتب عنها تجد أنك تكتشفها من جديد ويختلج قلبك وتتسارع أنفاسك وتشعر أنك وقعت فيها من جديدٍ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست