بعد منتصف ليل العاشر من يوليو (تموز) عام 1856 وفي قرية (سميليان- smiljan) الصغيرة على أطراف صربيا (كرواتيا اليوم)، وفي قلب عاصفة ثائرة، وُلد المخترع والفيزيائي الصربي الشهير «نيكولا تسلا»، الليلة تلك، والذي بحسب ما تردد في أوساط عائلته كانت ممطرة يزمجر فيها الرعد، وصفتها القابلة التي ساعدت في ميلاده بأنها نذير شؤم، وأن الطفل نيكولا الصغير سيكون «طفل ظلام»، ولكن – بحسب القصة أيضًا- سارعت أمه بالرد على القابلة؛ بأنه سيكون طفلًا للنور.

ربما تكون هذه الحكاية العابرة ملخصًا مجازيًّا عن حياة «نيكولا تسلا» التي احتوت الكثير من السعي إلى النور، وانتهت بالكثير من الخفوت والظلام. وفي هذا التقرير نسلط الضوء على حياة الفيزيائي الصربي الأشهر في عالم الطاقة والفيزياء، وعن تصوراته وأفكاره، وطموحه العلمي الذي خرج عن الإطار التقليدي لإمكانيات العلم آنذاك، وعلى جوانب ربما تكشف لنا عن مدى غرابة تسلا، وتفرُّده وعبقريته التي ما زالت تتردد حتى يومنا هذا برغم مرور ما يقرب من 80 عامًا على رحيله.

نيكولا تسلا.. طفل مميز وشاب غريب الأطوار

لم يكن نيكولا تسلا طفلًا وحيدًا، أو مدللًا بأي حال من الأحوال، فهو أخ أوسط لأربعة أشقاء وشقيقات ترعرعوا في منزل القِس الأرثوذكسي «موليتين تسلا» الذي اشتهر في قريته بالانضباط والورع، بجوار هذا عُرف بأنه موهوب في نَظم الشِعر، كما امتلك الأب مكتبة ضخمة احتوت الكثير من المراجع اللاهوتية والأدبية، وبين هذه الكتب نشأ تسلا الشغوف الذي كان متأثرًا بأشعار والده، كما تأثر بعنصر آخر قد يكون له الأهمية الأكبر في مسار تفكيره الابتكاري؛ ألا وهو أمه.

برغم كونها أمًّا لخمسة أطفال، وبرغم مسؤوليات هذا البيت الكبير وعدم تلقيها لأي تعليم يُذكر؛ فإنها كانت مُبتكرة حاضرة الذهن، واستطاعت أن تبتكر لنفسها العديد من الملحقات والأدوات المنزلية المُبسطة التي بالطبع خلبت لُب تسلا الصغير، الذي امتلك آنذاك ومنذ صغره ذاكرة فوتوغرافية حادة (eidetic memory) مكَّنته من حفظ كُتب بأكملها مع إمكانية استرجاعها في أية لحظة.

Embed from Getty Images

في سن التاسعة عشرة ارتحل الشاب نيكولا تسلا لدراسة الهندسة الكهربائية في معهد «بولي تك» في مدينة غراز في النمسا، أظهر تفرُّدا شديدًا وتميزًا عن أقرانه لدرجة أن أساتذته بدأوا في الانزعاج من ملاحظات نيكولا عن «ثوابت» الفيزياء التي يدرِّسونها، وكان من بين أبرز أفكار تسلا التي تتحدى المألوف تعليقاته على محركات كهرباء التيار المتردد؛ إذ أبدى لأستاذه عيوبًا كبيرة أو «نقصانًا» في الاستفادة من التيار الكهربي المتردد الذي تنتجه المحركات، وكانت لديه تعليقات تفيد بأنه يمكن تعديل محركات التيار الثابت وتحسينها لحصد طاقة كهربائية أكبر، ولكن سرعان ما كان يلاقي إحباطًا من أساتذته نظرًا إلى عدم اكتمال أطروحاته أو نظرياته آنذاك؛ وهو ما تسبب في مروره بمرحلة حرجة في شبابه، عادة ما تُذكر عند ذكر نيكولا تسلا.

مقامر ومهووس ويفكر فيما وراء الطبيعة!

قضى نيكولا تسلا ست سنوات كاملة يحاول أن يطارد فكرة واحدة؛ ألا وهي كيف يمكنه أن يبتكر محركًا يعمل بتيار كهربائي يختلف عن التيار المباشر أو الثابت (Direct Current)؛ إذ من المعروف أن التيار الكهربائي ينقسم إلى نوعين فقط؛ التيار المتردد والتيار المباشر، لكن تسلا كان يؤمن في أعماق ذهنه بأن هناك المزيد حول هذه الطاقة المبهرة: الكهرباء، لكن هذه الفكرة التي تحولت من شغف شخص يملك عقلًا مبتكرًا إلى بذرة للهوس نَمَت وسيطرت عليه بشكل كامل وتسببت في اضطراب نمط دراسته بالمعهد، وفي نمط نومه؛ فكان تسلا يقضي أيامًا كاملة أحيانًا بلا نوم؛ وبضع ساعات في قاعات الدرس يقضيها مشتت الذهن لدرجة أن أساتذته قد أخبروا والده بأن عادات نوم ابنه نيكولا ودراسته سوف تقتله!

وبدلًا من أن يعيد نيكولا تسلا حساباته، ويعود لنمط حياة طبيعي؛ اتجه إلى المُلهيات التي تجول يبحث عنها في الحانات ونوادي القمار حول مدن النمسا، ووقع أسيرًا لفخ إدمان المقامرة؛ إذ اعتقد أنه يستطيع أن يطوِّع الحظ لصالحه بفضل معرفته بالرياضيات، وظل حبيس دائرة من الهوس بأفكار غير مكتملة يقضي فيها أوقاتًا مطوَّلة ثم يخرج إلى الحانات للمقامرة.

Embed from Getty Images

لكن بعد عدة أشهر، ومع بدايات عام 1881 بدأ نيكولا تسلا في تدارك نمط حياته غير المثمر، وركَّز أبحاثه على إيجاد ابتكار يخرج عن نمط الطاقة الكهربائية ذات التردد المباشر، وبالفعل وبمصادفة غير عادية أثناء نزهة قصيرة مع صديق له، ترك صديقه فجأة واتجه ليرسم على الأرضية الترابية الصغيرة بين الأعشاب رسمته التي تخيل فيها أول محرِّك يعمل بالتيار الترددي (Alternate Current)، الفكرة التي لم يُصرِّح لأحد كيف أتت له في لحظة تنزه عابرة، ولكن بالتأكيد كانت فكرة خارج الإطار التقليدي لعلوم الطاقة والكهرباء آنذاك، بحسب ما قال تسلا لاحقًا في مقولة شهيرة.

كانت مقولته الشهيرة التي حيرت العلماء والفيزيائيين لفترات طويلة هي: «حينما يأتي اليوم ليدرس العلم فيه الظواهر غير الفيزيائية؛ سوف يحرز تقدمًا هائلًا في غضون عِقد واحد من الزمن أكثر تقدمًا حتى مما أحرزه العلم منذ بدايته»، وهو ما فسره الكثيرون على أنه فكر غير تقليدي، يخرج عن الصندوق التقليدي للعلوم الفيزيائية كما نعرفها بقوانينها الصارمة وحقائقها الثابتة، والتي لم يجرؤ الكثيرون على تحدِّي قواعدها؛ ولكن برغم ذلك استطاع تسلا أن يتحداها، بل يخرج للعالم ابتكارات ومبادئ غيرت قواعد اللعبة تمامًا.

ابتكارات نيكولا تسلا في سطور

أكثر ما يُشعر الناس بالأسف تجاه نيكولا تسلا هو أن أكثر ابتكاراته – أو المبادئ التي فكَّر فيها قبل الآخرين صارت ابتكارات شهيرة، لكنها للأسف لم تسجل في سجلات براءة الاختراع باسمه، ربما قد يكون نمط حياة تسلا غير المهتم بالحقوق التجارية أكثر من فكرة الاكتشاف العلمي ذاته، هو أحد الأسباب في عدم نسبة هذه الاختراعات إليه، والتي كان أبرزها:

– الدينامو «مولد الطاقة بالحركة».

– المحرك الحثي (Induction motor).

– تكنولوجيا الرادار.

– تقنية أشعة إكس (نُسبت لاحقًا للألماني فيلهلم رونتجن).

– أجهزة التحكم عن بعد «الريموت كونترول»، وكان أبرز تطبيقاته هو قارب تسلا الشهير الذي كان يتحكم في دوران محركه من خلال الموجات الترددية.

– الراديو (الذي قام على أكتاف ابتكاره الشهير ملف تسلا ونُسب لاحقًا للإيطالي ماركوني).

– المجال الكهربائي الدوار (الذي هو حجر الأساس لكل محركات التردد المتغير).

Embed from Getty Images

– ابتكر محركات وأنظمة طاقة كاملة تعتمد على التردد المتغير وباعها لشركة «وستنجهاوس». المنافس الشهير لشركات إديسون، وهي المنتجات التي حاربها إديسون بضراوة وأقام حملات تشويه لها في الجرائد الأمريكية – قيل بأنها تصعق وتقتل مستخدميها- قبل أن تبتلع مبيعات أجهزة تسلا السوق الذي سيطر عليه إديسون، وهو ما كان بداية النهاية لأفول نجم العبقري الصربي.

للعبقرية ثمن.. الهوس والتطير والوسواس القهري!

أحد أكثر الأشياء انتشارًا حول غرابة أطوار نيكولا تسلا هو أنه كان محبًّا للحمام بشكل مبالغ فيه، بل قيل أيضًا للمبالغة إنه تزوَّج من حمامة رافقته في آخر أيامه، وبرغم المبالغة في هذه القصة فإنه بالفعل كان مهتمًّا بشكل غير عادي بالحمام ومراقبته، وكان في آخر أيامه بعدما انهارت حالته الاقتصادية يقطن إحدى الغرف في أحد فنادق نيويورك، وكان يخرج باستمرار في نزهات قصيرة لأكبر ميادين الولاية لمراقبة الحمام ومداعبته، بل اعترف تسلا قبل رحيله بأنه كان متعلقًا بحمامة بيضاء بعينها ووقع في هواها؛ وهو الأمر الذي لم يستطع أحد أن يفسره، خاصة وأنه كان مصابًا برهاب الجراثيم (Germophobia) والذي يناقض تمامًا فكرة التلامس مع أي كائن حي؛ فما بالك بأحد أكثر الكائنات عرضة لحمل الجراثيم أكثر من الجرذان! وبرغم هذا تعامل نيكولا تسلا مع هذه الحمامة البيضاء بحميمية، لكن لم يتزوجها كما أشيع.

وعطفًا على ما سبق، لم يتزوج نيكولا تسلا في الحقيقة، وبدا غير مهتم بالنساء – باستثناء أمه- وعلاقاته معهن على الإطلاق، بل كان من أحد أكثر ردود أفعاله غرابة تجاه النساء أو تجاه تزينهن باللآلئ والألماس تحديدًا، أنه كان يتطير عند رؤية امرأة متزينة بالحلي الثمينة، وكان يتطير من رؤياها لدرجة أنه أخبر سكرتيرته ذات يوم أن تعود لمنزلها عندما رآها تعتمر عقدًا من الألماس.

كما كان معروفًا عنه إصابته أيضًا بمتلازمة اضطراب الوسواس القهري (OCD)؛ إذ كان مهووسًا بفعل الأشياء أكثر من مرة، وبعدد معين؛ فكان يدور حول المبنى ثلاث مرات قبل أن يدخله، وكان يرفع قابس الإضاءة ثلاث مرات، كما كان لديه هوس خاص بالأرقام: 3 و6 و9؛ إذ نُسبت إليه مقولة شهيرة: «لو عرفت أهمية ودلالة الأرقام 3 و6 و9، سوف تجد أنك تمتلك مفتاح الكون»، وهو الهوس الذي لم يستطع أحد تفسيره حتى اليوم.

وبعد رحلة امتلأت بالغرائب والأفكار الهوسية، والابتكارات الرائدة، وفي مطلع عام 1943 رحل نيكولا تسلا عن العالم وحيدًا وشبه مفلس في غرفة مظلمة بفندق متواضع في أحد أحياء نيويورك، بعدما أنارت مسيرته الكثير من الدروب المظلمة في عوالم الكهرباء والطاقة.

علوم

منذ سنتين
«30 % تلوث أقل».. ماذا لو كنا نستخدم كهرباء تسلا بدلًا من كهرباء إديسون؟

المصادر

تحميل المزيد