في عالم اليوم، يسعى جميع العاملين سواءً كانوا مديرين أو موظفين إلى تحقيق أقصى درجات النجاح والتفوق، ويبدو أن الجميع قد اتفق على أن التغذية الراجعة (Feedback)، والتي تعتمد على إعطاء معلومات من شخص لآخر أو شخص لمنتج لتحسين جودة أداء ذلك الشخص أو المنتج؛ هي الطريقة الأمثل للحصول على نتائج جيدة فيما يتعلق بمستويات الأداء والوصول إلى ذلك «التفوق» المرجو.

فعلى سبيل المقال أخذت شركة «نتفليكس» الأمريكية فاعلية التغذية الراجعة (الفيد باك) في زيادة جودة الأداء خطوة أبعد من الجميع، إذ تطبق في بيئة عملها ما يسمى بالشفافية المتطرفة، والتي تعتمد على إعطاء العاملين بالشركة تغذية راجعة قاسية وتقييمات مستمرة وحادة لجميع جوانب عملهم. لكن هل تحسن التغذية الراجعة من الأداء بالفعل؟ ماذا لو كانت التغذية الراجعة إجابة خاطئة لسؤال كيف نساعد الآخرين على التفوق والتحسين من أنفسهم؟

في مقالة لهما نشرت على موقع «هارفارد بزنس ريفيو» وفي كتاب يدعى «تسع كذبات عن العمل: دليل القيادي ذي التفكير الحر للعالم الحقيقي»، يعارض الباحثان الأمريكيان ماركوس باكينجهام وآشلي جودال، الفكر القائل بأن «الفيد باك» مفيدة لمن يستقبلها في الوصول إلى التفوق، لكن قبل أن نتطرق إلى التفسيرات التي يقدمانها لتأصيل فكرتهما، هناك سؤال محوري ستساعدنا إجابته على فهم الكثير فيما يتعلق بالتغذية الراجعة، وهو: ما الذي يدعو المديرين والموظفين والشركات لاعتبار «الفيد باك» الطريقة الأمثل لتحسين الأداء؟

ما وراء «الفيد باك»: 3 نظريات داعمة

توجد ثلاث نظريات تشرح لنا اعتبار التغذية الراجعة أو «الفيد باك» شيئًا مبررًا ومهمًّا للغاية، أولها: أن الآخرين يستطيعون ملاحظة عيوبك ونقاط ضعفك أكثر منك، وعلى ذلك فإن تقديمهم لآرائهم بخصوص تلك العيوب ونقاط الضعف هو أفضل ما يستطيعون تقديمه لك. فمثلًا، أنت لن تكون واعيًا بأن العرض الذي قدمته كان مملًا، أو أن بذلتك لم تكن مكوية جيدًا للقاء في العمل، لذلك فإن من مسئولية زملائك أن يوجهوا انتباهك لتلك العيوب حتى تصححها.

Embed from Getty Images

وتفترض النظرية الثانية أن عملية التعلم تشبه إلى حد كبير ملء إناء فارغ، أي إنك تفتقد إلى بعض القدرات والمهارات التي ينبغي لك اكتسابها، ويتمثل دور زملائك أو مديرك في مساعدتك على ذلك. فإذا كنت تعمل في المبيعات على سبيل المثال، فينبغي لك أن تتعلم من زملائك الأكثر خبرة في المجال كيفية إبرام الاتفاقات، وكذلك إذا كنت مدرسًا سينبغي لك أن تتمرس على آخر تقنيات التدريس، ولذلك فإنك تحتاج إلى التغذية الراجعة (فيد باك) لتطوير المهارات التي تفتقدها.

أما النظرية الثالثة: فإنها تقول بأن الأداء الممتاز يمكن قياسه وتحليله وتعريفه بغض النظر عن السياق الزمني والمكاني، ويمكن أيضًا لشخص ما أن ينقل ذلك التعريف للأداء الممتاز إلى شخص آخر بغض النظر عن الاختلافات الفردية بينهما، ومن ثم يمكن للشخص أن يستقبل «فيد باك» متعلقًا بأدائه ثم يقيس أداءه الفعلي إلى ذلك الأداء القياسي ويحسن من نفسه بناءً عليه.

ربما يكون العامل المشترك بين هذه النظريات جميعًا هو التمحور حول الذات واعتبار أن ما يراه شخص ما صحيحًا وقياسيًّا، وينبغي لشخص آخر أن يراه كذلك أيضًا. وفق كتاب «تسع كذبات عن العمل»، فإن الأبحاث تظهر أن كل هذه النظريات خاطئة، ومن ثم فإننا كلما زدنا من الاعتماد عليها في صنع أنظمة للفيد باك، سيقل التعلم وتقل الإنتاجية لدى أولئك الذين نوجه لهم هذه الأنظمة.

لكن، ما الأسباب التي يقدمها الكتاب لاعتبار هذه النظريات خاطئة بالأساس؟ سيساعدنا فهمنا لهذه الأسباب على تحديد طرق أكثر فاعلية لتطوير مستويات الأداء دون الاعتماد على التغذية الراجعة، ولنتناول خطأ كل نظرية على حدة.

1- البشر لا يستطيعون تقييم بعضهم بعضًا بموضوعية

خلال الأربعين سنة الأخيرة، أثبتت الدراسات في علم القياس النفسي أن البشر لا يستطيعون تقييم بعضهم بعضًا بموضوعية، خصوصًا إذا تعلق الأمر بقيمة مجردة مثل التفوق والنجاح والثقة بالنفس وما إلى ذلك، ويرجع ذلك لتأثير يدعى تأثير المقيم التمييزي (Idiosyncratic Rater Effect)، والذي يقول بأنه حين يقيِّم شخص ما شخصًا آخر، فإن أكثر من 60% من ذلك التقييم يكون في الحقيقة تقييمًا للشخص معطي التقييم وليس لمستقبل التقييم!

وذلك لأن تقييماتنا مبنية على فهمنا الذاتي القاصر لما ينبغي أن تكون عليه قيمة ما، ومبنية أيضًا على حدتنا في التقييم وتحيزاتنا غير الواعية. وحتى إذا جمعنا أكثر من تقييم للشخص نفسه، لنحصل على تقييم صحيح له فلن يحدث ذلك، لأن الخطأ في تقييماتنا نظامي (Systemic Error)، أي يمكن التنبؤ به وتزداد حدته إذا جمعت عدة تقييمات معًا للشيء نفسه، وبما أننا في هذه الحالة نضيف بيانات مشوهة إلى أخرى مشوهة، فلن ينتج منها إلا مزيد من التشوه.

 "الفيد باك" يقتل أحيانا: التركيز على أخطاء الموظفين يؤدي إلى المزيد منها

على سبيل المثال، إذا طلبنا من شخص يعاني من عمى الألوان أن يصف لنا مدى احمرار زهرة معينة، فإنه لن يستطيع ذلك، ونحن نعلم أنه لن يستطيع ذلك، لذا فالخطأ في هذه الحالة نظامي، وليس عشوائيًّا يمكننا أن نكون مخطئين بشأنه.

وتثبت الأبحاث أننا جميعًا نعاني من الخطأ النظامي ذاته فيما يتعلق بتقييماتنا للقيم المجردة، مثل التفوق والنجاح والإمكانية، رغم أننا نرى في أنفسنا أننا نستطيع تقييم الآخرين بموضوعية دون تدخل عوامل أخرى، فإن هذا هو الوهم الذي نعاني منه جميعًا فيما يتعلق بالتغذية الراجعة أو «الفيد باك».

الحالة الوحيدة التي نستطيع فيها الاعتماد على تقييماتنا لتلك القيم هو عندما نقيم مشاعرنا وخبراتنا الخاصة. فمثلًا، حين يسألك الطبيب أن تقيم حجم الألم الذي تشعر به على مقياس من 1 إلى 10، فهو هنا يعتمد على تقييمك الذاتي لما تشعر به، ومن غير المرجح أنه سيجادلك بشأن ذلك، لأن هذه تجربة شخصية بك لا يوجد لها مقياس سوى شعورك بها.

2- التعلم هو البناء على ما هو موجود بالفعل

بعكس النظرية القائلة بأن التعلم يشبه ملء إناء فارغ، فإن التعلم يتمثل أكثر في البناء على المهارات والقدرات الموجودة بالفعل عند المتعلم. ووفق عالم الأعصاب جوزيف لودو، فإن كل واحد منا ينمو عقله بطريقة مختلفة عن الآخر بناءً على عوامل وراثية وعوامل متعلقة بالنشأة، لكن ذلك النمو يحدث بشكل أكبر في مراكز الدماغ التي تحتوي على وصلات عصبية أكثر، وهي ما يمكن عدها مراكز القوة والقدرة لدينا. ولذلك فإن التعلم يمكن تشبيهه بعملية البناء التي تحدث بالتدريج على ما هو موجود بالفعل، ويزداد التعلم مع التركيز على نقاط القوة لدينا بعكس نقاط الضعف.

في تجربة علمية قسم العلماء عددًا من الطلاب إلى مجموعتين، مجموعة منهما تلقت تدريبًا إيجابيًّا بسؤال أفرادها عن أحلامهم وتطلعاتهم للمستقبل، أما المجموعة الأخرى فتلقت انتقادات بخصوص واجباتهم المنزلية وما يجب أن يفعلوه بشكل أفضل.

في أثناء ذلك، كان العلماء يتابعون شكل الدماغ لكل فرد من أفراد المجموعتين عن طريق جهاز خاص؛ وقد وجد العلماء أن أفراد المجموعة الثانية الذين تلقوا انتقادات بخصوص واجباتهم المنزلية قد تفعل عندهم الجهاز العصبي الودي (Sympathetic Nervous System)، وهو المسئول عن آلية الهرب أو المواجهة في الدماغ، ما أدى إلى تعطل نشاط التعلم لديهم.

أما المجموعة الأولى، فقد تفعل لديها الجهاز العصبي السمبثاوي (Parasympathetic Nervous System)، وهو المسئول عن نمو الوصلات العصبية وتقوية الصلات بينها في الدماغ، ويعطي الجسم مناعة أقوى وشعورًا بالراحة والانفتاح الفكري والعاطفي.

ما تشير إليه تلك التجربة هو أن التعلم يحدث حين نرى إمكانية عمل شيء ما بصورة أفضل عن طريق إضافة بعض الإضافات المبنية على فهمنا لما نفعله، فهو بذلك يعتمد على فهمنا لما نعمله بشكل جيد وليس ما نعمله بشكل سيئ، وهو ما تغفله التغذية الراجعة التي تركز على تجنب الفشل والأخطاء، وهو ما يقودنا إلى المزيد منها.

3- التفوق نسبي والوصول إليه سهل

إذا تابعت مباراة كرة قدم، ونظرت إلى اللاعبين المتميزين من الفريقين، فإنك لن تراهم يلعبون بطريقة واحدة، ورغم ذلك فإنك ستصف كل واحد منهم بأنه متفوق ومتميز في منطقته. لذلك، فإن التفوق ينبعث من داخلنا متشكلًا بهويتنا وقدراتنا الخاصة، وذلك ما يجعل التفوق سهلًا، لأنه تعبير طبيعي من ذواتنا للنسخة الأفضل منا، وليس شيئًا قياسيًّا ينبغي لنا أن نكون مثله حتى نصبح متفوقين.

بقياسنا أداء شخص ما على أساس نموذج معد مسبقًا للتفوق، وإخباره عن أوجه القصور التي يعاني منها بالنسبة إلى ذلك النموذج، فإننا لا نساعد ذلك الشخص على التفوق فعلًا، على سبيل المثال، إذا وجهت انتباه كاتب إلى الأخطاء اللغوية التي ارتكبها في مقالته، فإنه ربما سيعدلها، لكن ذلك لا يضمن أن المقالة صارت جذابة ومتميزة بالنسبة للقارئ، لذلك فإن التفوق لا يأتي من رأب نقاط الضعف في الأداء كما هو الحال في التغذية الراجعة أو الفيد باك، بل من العمل على تنمية مراكز القوة فيه.

وما هو بديل «الفيد باك» الأكثر فاعلية؟

إذا استمررنا في تحديد أوجه القصور والفشل في أعمال الآخرين ومحاولة تجنبها عن طريق تقديم التغذية الراجعة لهم فإننا ربما نصل إلى الكفاءة، لكن نصل إلى التفوق سيتوجب علينا اكتشاف بديل آخر، وهو التركيز على النجاحات التي يحققها الآخرون ومحاولة إبرازها لهم كي يزيدوا منها، لأن هناك العديد من الطرق لفعل الشيء بشكل خاطئ، لكن هناك طرق معدودة فقط لفعل الشيء بالشكل الصحيح.

Embed from Getty Images

هناك قصة مؤثرة بذلك الخصوص، وهي قصة توم لاندري مدرب فريق دالاس كاوبويز لكرة القدم الأمريكية، حيث لاحظ لاندري تراجع أداء فريقه، وفي الوقت الذي كان السائد أن يركز المدربين على أخطاء اللاعبين ومحاولة مساعدتهم على تجنبها، راجع لاندري بعض مقاطع المباريات التي خاضها الفريق واقتطع منها مقاطع قصيرة تظهر كل لاعب وهو يلعب بشكل سلس ومتميز، ثم عرض تلك المقاطع على اللاعبين وطلب منهم أن يركزوا على إعادة ذلك الأداء في مبارياتهم القادمة، وهو ما حقق معهم نتائج مبهرة بالفعل.

يمكنك أن تطبق ما فعله لاندري في عملك الخاص، إذا كنت مديرًا مثلًا، فربما ينبغي لك حين ترى موظفًا لديك أدى مهمة بصورة متميزة أن تخبره بذلك، لا من باب الثناء فحسب، ولكن من باب التحليل ومحاولة شرح ذلك الأداء وتفصيله له حتى يتحول من مجرد أداء جيد عشوائي إلى أداء منظم يستطيع أن يعيده فيما بعد بصورة أكثر سلاسة، وذلك لأنك فعَّلت لديه جانب الدماغ المسئول عن زيادة سعة استيعابه وقدرته على الفهم والتنفيذ.

ختامًا، فإننا كبشر لا نؤدي بشكل متميز حين نتلقى تغذية راجعة من أشخاص لا يستطيعون أن يكونوا موضوعيين تركز على أخطائنا ومواطن فشلنا وتخبرنا كيف نتجنبها بالقياس إلى نموذج للتفوق معد سلفًا لا يناسب شخصياتنا وهوياتنا، بل نصل إلى التفوق فقط حين يكون التركيز على مواطن القوة لدينا وكيفية تنميتها من أشخاص يهتمون لأمرنا.

علاقات

منذ 4 سنوات
كيف تتعامل مع مديرك النرجسي؟ 5 نصائح يخبرك بها علماء النفس

المصادر

تحميل المزيد