تشهد أحداث اللحظات الأخيرة في كتالونيا تطوراتٍ هائلة، فقد نشرت وكالة بي بي سي «BBC» خبرًا يشير إلى أن إسبانيا تتخذ إجراءاتها من أجل سيطرة كاملة على كتالونيا، وهو ما يتم اعتباره مؤشرًا خطيرًا في الفترة القادمة، إذ جردت مدريد كتالونيا من الحكم الذاتي، وأعلنت إقالة الزعيم الكتالوني «كارليس بيغديمونت»، وستشمل حركة الإقالة أكثر من 150 من وزراء الإقليم الكتالوني؛ وهو ما دفع وكالة إكسبريس «Express» أن تتساءل: هل هذه الخطوة نحو الاستقلال سيدفع ثمنها الإسبان في حربٍ أهلية؟ وهو الأمر الذي قد يعيدنا إلى تاريخ المنطقة نفسها لنتذكر الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي، فهل التاريخ يعيد نفسه أم أن الأمور غير المحلولة من الماضي هي التي تعيد كتابة الواقع الكتالوني اليوم؟
لم تكن كتالونيا في الماضي البعيد جزءًا من الأراضي الإسبانية، فقد كانت منطقة مستقلة من شبه الجزيرة الأيبيرية -إسبانيا والبرتغال حاليًا- لها سيادة كاملة على أراضي مملكتها في القرن الـ11، ولها قوة بحرية سيادية في العصور الوسطى، ولغة مستقلة، وعادات أخرى؛ ولكنها أصبحت جزءًا من إسبانيا الحديثة حين نشأتها في بدايات القرن الـ15، إذ قرر ملك أراغون «فرديناند»، وملكة قشتالة «إيزابيلا» الزواج وضم أملاكهما، وهو الأمر الذي آل بالوراثة إلى ابنهما فيما بعد ليكون ملكًا على الأرضين.
وهو أيضًا الأمر الذي أدى بأهالي الإقليم الكتالوني فيما بعد إلى الشعور بالتميز والانفراد، فقد فُرضت عليهم اللغة الإسبانية فرضًا، إلا أنهم على الرغم من ذلك استطاعوا المحافظة على عاداتهم المستقلة ولغة إقليمهم، ولكن هل الشعور بالتميز فقط هو الذي دفع الكتالونيين إلى طلب الانفصال؟
كيف صنعت الحرب الأهلية جزءًا من الواقع الكتالوني اليوم؟
لم يعش الإقليم الكتالوني في سلامٍ منذ الانضمام إلى الأراضي الإسبانية في القرن الـ15، إذ واجه مشكلاتٍ لها علاقة بالهوية وباللغة والانصهار داخل الواقع الحديث، كما حاول الحكام بدأب طوال قرونٍ أن يدمجوهم مع الإقليم الإسباني حتى عام 1931، تحديدًا حتى اندلاع الثورة الإسبانية، والتي تبعها حرب أهلية استمرت من 1936 إلى 1939 كان لإقليم كتالونيا دور فعال بها.
أتت هذه الثورة في بداية الثلاثينات بإطاحة النظام الملكي الذي وقعت إسبانيا تحت وطأته لسنواتٍ طويلة، وبدأ معها نظام جمهوري وليد لم ينجح في تهدئة الأمور، يخبرنا عن ذلك د. «خليف مصطفى غرايبة» أستاذ العلوم السياسية في بحثه الخاص بالأسباب التاريخية للحرب الأهلية الإسبانية أنه في هذا الوقت كانت إسبانيا تعاني من الانقسام، وتنافس الزعماء والأحزاب على الحكم، إذ استطاع زعيم الجمهوريين زامورا (Zamora) الوصول إلى سدة الحكم، وهو ما لم يرضِ الفئات اليسارية حينذاك، والتي أرادت حُكمًا شيوعيًّا في البلاد، الأمر الذي قامت على إثره عدة ثورات انتهت بحربٍ أهلية.
كانت تجربة الحرب الأهلية في إسبانيا هي تجربة أناركية بحق، رواها بعمق الكاتب جورج أورويل في روايته «الحنين إلى كتالونيا»، كان أورويل على عكس الكثير من الأدباء يفضل أن يعايش أحداث رواياته بنفسه، فقد ذهب إلى الحرب الإسبانية بوصفه مراسلًا حربيًّا مهمته هي جمع الأخبار، لكنه قرر فور وصوله أن ينضم لساحات القتال جنبًا إلى جنب مع ميليشيات الجمهورية اليسارية.
وكانت برشلونة التابعة للإقليم الكتالوني هي معقل الأناركية والحركات اليسارية في مواجهة الجمهوريين، لا تنتمي لأطراف الصراع الكبرى؛ هؤلاء الذين دخلوا الحرب إما مدعومين من الاتحاد السوفيتي حينذاك، وإما من الجانب الغربي (ألمانيا وبريطانيا)، فهي إذًا الذراع الوطني غير المدعوم من طرف خارجي، يقول عنها أورويل في كتابه: «كان الأناركيون ما زالوا يسيطرون على كتالونيا سيطرة كاملة، والثورة ما زالت في عنفوانها، إنها المرة الأولى التي أجدني في مدينة تمسك الطبقة العاملة بأعنة الأمور فيها».
يصف أورويل الأبنية الكتالونية وقت الحرب مُعلقة على واجهاتها الأعلام الحمراء الشيوعية جنبًا إلى جنب مع أعلام الأناركيين، في حين نُقشت على الجدران الرموز الشيوعية كالمطرقة والمنجل، مُشيرًا إلى أن الجميع أصبح رفيقًا للجميع، إذ اختفت الكلمات التي تحمل نوعًا من الفوقية من لُغتهم اليومية، ويتعامل الجميع وكأنهم أنداء، واصفًا الحالة الثورية التي كانت عليها مدينة برشلونة بأكملها بالمبهرة.
لكن يعود أورويل في نهاية كتابه ليلقي نظرة على الحرب بعد ست سنوات من نهايتها، وقد زال عنها الوهج الأول للتجربة الأناركية ذاكرًا ويلاتها وقائلًا: «إحدى الورطات الأساسية في معاناة الحرب هي عدم القدرة على إخفاء الروائح الصادرة عن البشر». مُستكملًا: «ها نحن هنا عساكر الجيش الثوري، ندافع عن الديمقراطية ضد الفاشية، أي نخوض حربًا لهدفٍ نبيل، وتفاصيل حياتنا هي من السوء والانحطاط بحيث تقارن بالحياة في السجون»، لا يذكر أورويل أيًّا من ويلات الحرب هنا، فأكثر ما كان يتذكره هو السأم والجوع الحيواني في حياة الخنادق، والمكائد الحقيرة على فتات الطعام.
والحقيقة أن برشلونة والإقليم الكتالوني كله قد دفع ثمن تلك التجربة غاليًا بعد انتهاء الحرب، فقد آلت الحرب في النهاية لصالح الديكتاتور الفاشي «فرانشيسكو فرانكو»، والذي نجح في السيطرة على كتالونيا سيطرةً كاملة، فبعد أن تولى حكم إسبانيا عام 1939، وعقب انتهاء الحرب اضطهد الإقليم الكتالوني، فأعدم حكومة «لويس كومبنيس» زعيم كتالونيا حينذاك ضربًا بالرصاص، واضطر أكثر من 200 ألف من السكان الكتالونيين إلى مغادرة البلاد.
أمر فرانكو بإلغاء اللغة الكتالونية، وتم حظر استخدامها في المؤسسات الحكومية الكتالونية تحديدًا، كما ألغيت كل المؤسسات الكتالونية وعلى رأسها الحكومة الكتالونية والأحزاب في محاولة منه لإنهاء النزعة الإقليمية، وحرمهم من حقوقهم الديمقراطية، وظل الأمر هكذا حتى وفاته عام 1975؛ فاستعادت كتالونيا الحكم الذاتي عام 1977، والحقيقة أن النزعات الاستقلالية والحراك قد بدأ منذ فترة ديكتاتورية فرانكو، وهو الأمر الذي أشارت إليه «ذي أتلانتيك» في تقريرها عن الوضع في إسبانيا عقب إعلان الاستقلال.
كيف ساهمت أزمة الاقتصاد الإسباني في تفاقم الأمر؟
رغم الحكم الذاتي، ظلت كتالونيا تابعة اقتصايًّا وسياسيًّا لإسبانيا منذ سبعينات القرن الماضي وحتى الآن، فهم يتذمرون من دفع الضرائب للحكومة الإسبانية، خاصةً وأنهم يساهمون بمبالغ طائلة دون أن تعوضهم الحكومة عن ذلك من خلال الخدمات مثل المدارس والمستشفيات، وقد صرحت حكومة كتالونيا بأن الضرائب قد بلغت في عام 2014 حوالي 11.8 مليار دولار.
في الحقيقة، يأتي طلب الاستقلال الحالي مع الأزمة الاقتصادية الإسبانية، إذ اقترضت البلاد أكثر من 508 مليارات جنيه إسترليني، وهو الأمر الذي توقع الخبراء الاقتصاديون أن يكون سببًا في أزمة جديدة، مصرحين بأن القروض المجنونة التي تم اقتراضها من البنك المركزي الأوروبي سيتبعها عجز عن السداد، وهو الأمر الذي أدى بمقاطعة برشلونة إلى إعلان أنها تدفع ثمن فقر إقليم مدريد باعتبارها الإقليم الأكثر ثراءً.
ظلت المنطقة الكتالونية لفترة طويلة هي قلب الصناعة الإسبانية؛ فهي تضم منشآت الأدوية والصناعات الكيميائية والمعدنية وشركات التكنولوجيا الفائقة، هذا بالإضافة إلى قوتها البحرية التي تتيح لها التجارة المثمرة، ما جعلها من أغنى المناطق في إسبانيا، حيث تمثل 19% من الناتج المحلي الإسباني ككل، وهو ضعف ما تساهم به مقاطعة أسكتلندا في المملكة المتحدة؛ مما يجعل الانفصال مفيدًا لكتالونيا اقتصاديًّا، ولكنه سيكلف إسبانيا حوالي 20% من ناتجها القومي.
هل تُعاد صناعة الديكتاتورية الإسبانية عقب «استقلال كتالونيا»؟
سعت السياسة الكتالونية وحكومتها في نهايات سبتمبر (أيلول) الماضي بزعامة «بويغديمونت» نحو إجراء استفتاء ملزم بشأن استقلال كتالونيا، وهو الأمر الذي ظل يداعب الأذهان الكتالونية منذ زمنٍ بعيد لعدم شعورهم بالانتماء، والذي رفضته المحكمة الدستورية الإسبانية، إلا أن الحكومة الكتالونية قد مررت الاستفتاء رغم ذلك، وهو ما نتج منه عنف وغضب داخل لجان الاقتراع، مُشيرين إلى أنهم استطاعوا حمل أكثر من 2.26 مليون شخص على التصويت الذي جاءت نتيجته إيجابية لدعم الاستقلال، وإقامة جمهورية كتالونيا.
جاء رد الفعل الإسباني عقب ذلك صادمًا للمجتمع الدولي؛ إذ أعلن رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راجوي تجريد كتالونيا من حكمها الذاتي، وفرض حُكمًا مباشرًا عليها من مدريد، ودعا رئيس الانفصاليين بويغديمونت إلى وقف تصعيد العصيان، وهو الأمر الذي شبهه البعض بإعادة إنتاج ديكتاتورية فرانكو، واعتبروه تصعيدًا للأزمة الدستورية في إسبانيا.
Embed from Getty Images
مظاهرات في برشلونة دعمًا للاستقلال
تشير «Teneo intelligence» وهي مجموعة لتحليل المخاطر، أنه من المتوقع أن تتزايد التوترات في منطقة النزاع في الأيام القليلة القادمة، مضيفين أنه من المرجح أن يقاوم المسئولون الكتالونيون وموظفو الحكومة المبعوثين المؤقتين من الحكومة المركزية بمدريد، وأن التظاهرات قد تقف حائلًا بين الشرطة، وبين طرد الوزراء الكتالونيين من مكاتبهم، وهو الأمر الذي قد ينجم عنه اشتباكات خطيرة.
في حين يشير تقرير الإندبندنت، حول الأزمة الكتالونية وتوقعاتهم بما هو قادم، إلى أن مدريد وبرشلونة الآن تقفان على طرفي طريق مسدود، قد تكون نهايته إما النجاح في إلقاء القبض على بويغديمونت وإحكام القبضة على الإقليم حتى لا تتكرر المحاولات الانفصالية لدى الأقاليم الأخرى مثل الباسك وغاليسيا، وهو ما يعرضه للسجن مدة قد تزيد على الثلاثين عامًا، أما الطريق الثاني فهو أكثر عنفًا، كما يشير موقع إكسبريس؛ لأنه قد يقود إلى حرب أهلية دموية أخرى.