جميعنا يعرف معنى كلمة «النرجسية» جيدًا، فهي نوع من أنواع اضطرابات الشخصية التي تتعلق بالتمركز حول الذات، والتجاهل التام للآخرين، وفي الأسطورة اليونانية، عندما نظر نارسيس لانعكاس وجهه على سطح البحيرة، أُعجب بنفسه إلى حدِ الغرق في ذاته، أو في صورته المنعكسة، لكن هل يمكن لأحد اضطرابات الشخصية أن يصبح وباءً؟
وهل يمكن له أن يستشري داخل المجتمعات، وكأن النرجسية فيروس يمكنه أن يصيبك بالعدوى؟ والأكثر من ذلك هل يمكن للنرجسيين أن يحكموا العالم ويشكلوا سياساته؟ عزيزي القارئ، أهلًا بك في القرن الحادي والعشرين، «عصر الاستحقاق»، حيث النرجسية هي السلعة الأكثر رواجًا، وإليك بيان ذلك.
«النرجسية»: فيروس آخذ في الانتشار
عندما عانى العالم من وباء «كورونا» عام 2020، كان الأشخاص النرجسيون من أوائل الأفراد الذين اعتقدوا وقت الجائحة أنهم يستحقون معاملة خاصة، بل رفضوا اتباع إجراءات التباعد الاجتماعي، أو عرقلة أسلوب حياتهم، خاصةً الأصحاء منهم، حتى وإن كان الثمن هو مرض بعض أفراد عائلاتهم؛ وذلك وفقًا للعديد من التقارير.
ولا تعد «النرجسية» اضطرابًا جديدًا على المجتمعات؛ فالأشخاص النرجسيون كانوا متواجدين على طول التاريخ الإنساني، وكان من بينهم أباطرة دمويون غزوا الأرض لإظهار قوتهم ونيل الإعجاب، وفي المقابل قتلوا الملايين من أفراد الشعوب.
وفي كل جيل تقريبًا يظهر نرجسيون يتمحورون حول ذاتهم، وينتهكون المبادئ الإنسانية، مثل العدالة، والإنصاف، وكرامة الآخرين، وإنسانيتهم بكل أريحية، وظل أغلبهم طوال العصور الغابرة بلا صوت يُسمع؛ حتى جاء عصر التواصل الاجتماعي الذي وجدوا في وسائله منفذًا مكّنهم من الاستعراض والانتشار حتى أصبحت ظاهرة مثيرة للانتباه والقلق.
فيرى البروفيسور وأستاذ علم النفس بالجامعة الفيدرالية الجنوبية بروسيا، سام فاكنين، أن «النرجسية» تشبه فيروس آخذًا في الانتشار داخل المجتمعات الحديثة، وقد ساهم في انتشاره «أنظمة التربية المختلة للأجيال السابقة»؛ إذ منحت الأجيال الجديدة الأدوات اللازمة لذلك، عن طريق إهمال عامل مراعاة مشاعر الآخرين وقناعاتهم، وعن ذلك يشير سام فاكنين أن الأجيال الجديدة أكثر عرضةً لأن يصبحوا نرجسيين بنسبة خمس مرات، عن الأجيال السابقة.
«النرجسيون يشبهون مصاصي الدماء، إذا تعرضت للعضِ من أحدهم؛ فأنت إما معرض للإصابة، أو للموت النفسي» *سام فاكنين
يرى فاكنين أن ما يحتاجه «فيروس النرجسية» من أجل الانتشار، هو مهاجمة مجموعة ساذجة من البشر لم يسبق لهم التعرض لمثل هذه الأساليب من قبل، فعندما بدأ البروفيسور محاضراته عن النرجسية عام 1995، فوجئ أن السواد الأعظم من المجتمع لم يكن يعرف شيئًا حينها عن النرجسية أو ما تمثله، وهو ما كان يمثل بيئة مناسبة تمامًا للنرجسيين من أجل نشر العدوى. على حدِ تعبيره، وذلك لافتقاد المجتمع إلى الإستراتيجيات اللازمة لمواجهة ذلك؛ الأمر الذي شبهه فاكنين بـ«نظام المناعة» في الأجسام البيولوجية عندما يهاجمها جسم غريب فتعجز عن الدفاع.
(سام فاكنين – النرجسية فيروس ووباء عالمي)
في كتابهم «وباء النرجسية: العيش في عصر الاستحقاق» الذي صدر عام 2010 يصف أستاذا علم النفس جين توينج وكيث كامبل الأشخاص النرجسيين بأنهم أولئك الذين نمت لديهم ثقة مفرطة بالنفس، وبالتالي يطالبون من حولهم بمعاملة خاصة لأنهم يعتقدون أنهم يستحقونها – ليس بسبب العمل الجاد، أو الأعمال الطيبة، أو الإنجاز – ولكن بسبب نظرتهم إلى أنفسهم.
هؤلاء الأشخاص غالبًا لا يكون لديهم الوقت لأي شخص آخر في حياتهم غير أنفسهم، وعلى الأرجح لا يشاركون في علاقات رعاية متبادلة مع الآخرين، بل يستغلون الآخرين من أجل تعزيز مصالحهم الخاصة، وهو ما رأى فيه الباحثون وفق الدراسات التي أجروها وباءً آخذًا في الانتشار داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والذي من المتوقع أن تكون له عواقب وخيمة على المدى البعيد.
ولم يمضِ وقتٌ كبير قبل أن تتحقق نبوءة جين توينج وكيث كامبل عام 2016 بصعود دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، والذي جرى اعتباره من طرف الباحثين دليلًا على وباء النرجسية الذي استشرى في المجتمع الأمريكي، إلى درجة إضفاء الشرعية على الفكر «النرجسي الجمعي»، بوصول أحد رموز النرجسية إلى البيت الأبيض؛ إذ كانت نسبة النرجسيين الجمعيين الذين صوتوا لدونالد ترامب أعلى من غيرهم من الأفراد.
هكذا تؤثر «النرجسية الجمعية» في السياسة العالمية
«لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» *شعار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية
عندما استخدم دونالد ترامب هذا الشعار في حملته لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، رأى البعض أن الشعار كان مثاليًا لتعبئة ما يمكن أن نطلق عليه «الوعي الجمعي النرجسي»، وقد جرى استخدام مصطلح «النرجسية الجمعية» لأول مرة في ثلاثينات القرن الماضي من جانب الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو. وذلك عندما استخدمه لوصف المشاعر التي دعمت الحكم النازي في ألمانيا حينذاك، لكن المصطلح ذاته عاد وبقوة عام 2016، عندما وصف الأشخاص الذين صوتوا لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والأشخاص الذين صوتوا لمرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب بالنرجسيين الجمعيين.
ويمكنك التفكير في «النرجسيين الجمعيين» باعتبارهم مجموعة من البشر متحيزين بشكلٍ تلقائي لجماعتهم، وهم يهاجمون الجماعات الأخرى التي تهدد الصورة العظيمة التي يرسمونها عن أنفسهم، وهم متعصبون لرؤيتهم، ويؤمنون غالبًا بنظريات المؤامرة التي تُحاك ضدهم من الجماعات الأخرى.
النرجسية الجمعية تختلف سماتها عن نرجسية الأفراد، خاصةً أنها ترتبط بالشعور بالتفوق لدى جماعة من البشر على بقية الجماعات البشرية الأخرى، تمامًا مثلما آمن أعضاء الحزب النازي قديمًا بتفوق العرق الآري على الأعراق الأخرى، وفي سبيل ذلك اتخذوا إجراءات معادية وانتقامية ضد المخالفين لهم في العرق والرأي.
«النرجسية تولِّد النرجسية»، هكذا صرح بيتر هاتمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا، بعدما اكتشف أن الأشخاص النرجسيين المهتمين أكثر بمكاسبهم الشخصية ومصالحهم الخاصة يشاركون بشكلٍ أكثر فاعلية في الانتخابات، وبالتالي لا يمكننا سوى توقع ظهور مرشحين يعكسون رغباتهم.
جاء ذلك وفقًا لإحدى الأوراق العلمية التي نشرت عام 2020 عن المشاركة السياسية للنرجسيين، وفيها أشار الباحثان زالتان فازيكاس من الدانمارك وبيتر كي هاتمي أستاذ العلوم السياسية من جامعة بنسلفانيا، إلى أن الأشخاص النرجسيين يميلون للانخراط في الأنشطة السياسية أكثر من غيرهم.
وكانت تلك الدراسة جزءًا من سلسلة دراسات أجريت في الولايات المتحدة والدانمارك، كشفت نتائجها أن الأشخاص الذين يظهرون مستويات عالية من النرجسية عادةً ما تكون أصواتهم على الساحة السياسية أكثر تأثيرًا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالناخبين النرجسيين؛ إذ يصبحون أكثر ميلًا حينها للاتصال بالمسؤولين السياسيين، والتبرع للحملات، والمشاركة بأصواتهم؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل هل المجتمعات هي التي تخلق القادة النرجسيين، وتصنع منهم أبطالًا، أم أن القائد النرجسي هو الذي يؤثر في المجتمع خالقًا لنفسه قاعدة جماهيرية؟
بالنسبة إلى بيتر هاتمي وورقته البحثية كان القادة مجرد انعكاس لأفراد المجتمع ورغباتهم، وهي نفس الرؤية التي تبناها ثلاثة من أعظم فلاسفة ومفكري العصر الحديث أمثال جورج فيلهلم هيجل، وكارل ماركس، وفريدريك إنجلز، وأطلقوا عليها مصطلح «الحتمية الاجتماعية»؛ فيقول عن ذلك الفيلسوف الألماني هيجل في كتابه «فلسفة التاريخ» إن الأشخاص الذين اصطلح على تسميتهم أبطالًا لا يستطيعون التأثير في الاتجاه العام للأحداث لأنهم هم أنفسهم نتاجها وثمرتها.
ونتيجة لذلك فإن البطل والقائد بالنسبة إلى هيجل ليس صانعًا للتاريخ كما اعتدنا أن ننظر له، بل يمكن اعتباره من صنع مجتمعه، ونتيجة حتمية للقوى الفاعلة في هذا المجتمع، وبالتالي لا يمكن للقائد التأثير في مجتمعه ما لم تكن الظروف مهيأة لظهوره فعلًا.
ويذهب أنجلز إلى أبعد من ذلك قائلًا إن «الضرورة التي تحكم مسار التاريخ، وظهور الأبطال فيه، هي في صميمها ضرورة اقتصادية»، وحتى إن جرى القضاء على البطل أو القائد، فسيعمل المجتمع على إظهار بديلٍ يشبهه؛ فلو لم يبرز نابليون نتيجة لإنهاك القوى المتصارعة في الثورة الفرنسية لظهر نابليون آخر، وفقًا لكتاب الفيلسوف الأمريكي سيدني هوك «أنثروبولوجيا البطل في فلسفة التاريخ».
«النرجسية» وعصر الاستحقاق الذي ترعاه
تختلف النرجسية عن الاعتزاز الصحي بالذات؛ فالنرجسي يشعر في أعماقه بالهشاشة، ويشك في قيمته الحقيقية. لذا فهو في حاجة إلى لاعتراف بتلك القيمة التي هي له أو لجماعته من طرف الآخرين. وفي حالة عدم الحصول على هذا الاعتراف، يتحول الفرد إلى العدائية والانتقام.
وقد شبَّه الباحثان في علم النفس جين توينج وكيث كامبل «النرجسية» بـ«طاعون العصر الحديث»، في كتابهما «وباء النرجسية: العيش في عصر الاستحقاق»، مُشيرين إلى أنها تؤثر على الاقتصاد العالمي؛ نتيجة للثقة المفرطة في الذات، والتي عادةً ما تتبعها خطوات غير محسوبة محفوفة بالمخاطر، وبالنسبة إليهما فقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق نمو غير مسبوق للنرجسية، خاصةً بين الشباب صغير السن والمراهقين، وهو أمر علينا مكافحته، حسب قولهما.
ومن أجل تفسير انتشار النرجسية استخدم المؤلفان نموذج التبادل الثقافي والنفسي، الذي طوره من قبلهم علماء مثل ماركوس وكيتاياما، للإشارة إلى الطرق التي يؤثر بها الأفراد والثقافات على بعضهم البعض، وفي الثقافة الأمريكية الحالية، وجد الباحثان أن العناصر الاجتماعية والمؤسسات التعليمية والتربوية، بما في ذلك منظومة الأسر، يشجعون على الشعور بالاستحقاق لدى الأجيال الجديدة من الأطفال في وقتٍ يشعر فيه أغلب الآباء بخصوصية أبنائهم.
وهو الأمر الذي يجري تعزيزه في البعض من خلال النظم التعليمية، حتى تفاقم الشعور بالخصوصية، والتميز، وغزا منصات التواصل الاجتماعي، وجرى الترويج له على مواقع الإنترنت، فبعد أن ظهرت النرجسية خافتة وخجولة في منتصف القرن العشرين، أصبح «الشعور بالاستحقاق» اليوم ظاهرة شائعة في حياتنا المعاصرة، وسمة من سمات العصر.
(أستاذة علم النفس ديان لانجبرج – عن عصر الاستحقاق)
يمكنك الاستدلال على استشراء «وباء عصر الاستحقاق» من مشاعر العداء التي تتزايد ضد العمالة الأجنبية في بعض الدول الغربية؛ فعلى الرغم من مساهمة اللاجئين في الاقتصاد الوطني لتلك البلدان التي هاجروا إليها، فإن وجودهم يثير غضب الجماعات النرجسية؛ إذ يشعرون بالتهديد لوجود جماعة أخرى مختلفة عنهم يجري تمكينها، وهو ما يجعلهم يخشون من أن يؤدي هذا التمكين للأقلية إلى تهديد المكانة المتميزة للأغلبية، وبالتالي يتحولون إلى العدائية من أجل تقويض مكانة المجموعات الأخرى؛ الأمر الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى العنف والعدوان على المهاجرين.
ويؤمن النرجسيون الجمعيون بـ«نظريات المؤامرة»؛ ففي بولندا على سبيل المثال يعتقد أغلب النرجسيين أن حادثة تحطم الطائرة التي راح ضحيتها الرئيس البولندي عام 2010، كانت مؤامرة وعملًا إرهابيًا من جانب الروس.
Embed from Getty Images
في الوقتِ ذاته رأى أغلب النرجسيين الجمعيين في البرتغال أن ألمانيا تمثل تهديدًا لدولتهم وأنهم سيستمتعون بالانتقام منها، بعدما شعروا بالإهانة من العبارات التي وجهت إليهم، وتشير إلى أن ألمانيا أكثر أهمية من البرتغال في الاتحاد الأوروبي؛ الأمر ذاته تكرر في المسوح التي أجريت على الطلاب الأمريكان الذين صنفوا ضمن نطاق النرجسية الجمعية، بعدما صرحوا أنهم يفضلون التدخلات العسكرية عن الحلول السلمية.
هذا الأمر الذي جعل الباحثين يخشون مما قد تفعله النرجسية بالمجتمعات، من تغذية الشعور بالعداء بين البلدان، خاصةً مع الميل الذي يظهره النرجسيون الجمعيون نحو الانتقام والعنف عند شعورهم بالإهانة، وعن ذلك تشير أستاذة علم النفس ديان لانجبرج، إلى أن هذا الوعي النرجسي الجمعي هو نفسه الذي رأى في شخص مثل هتلر منقذًا للشعب الألماني من السقوط في الهاوية بعد الحربِ العالمية الأولى، فكان حكمه هو الهاوية بحدِ ذاتها، لذا علينا بحسب الباحثين مكافحة «وباء عصر الاستحقاق»، وفهم النرجسية الجمعية بشكلٍ أفضل، حتى نتمكن من مواجهتها ومقاومة تأثيراتها بعيدة المدى.