في البداية، علينا الإشارة إلى أن مدار هذا التقرير هو المستقبل القريب الذي قد يمتد من الشهور القليلة القادمة وحتى سنوات قليلة فقط، وليس المقصود مستقبل الدولار بشكل مطلق؛ فهذا موضوع آخر تمامًا.
فخلال المستقبل القريب القادم، من المهم للعالم كله متابعة قيمة الدولار الحالية، ورحلة صعوده التي قد تكون في بدايتها أو نهايتها؛ تبعًا لمستقبل العالم الاقتصادي؛ لا مستقبل الدولار والاقتصاد الأمريكي وحدهما.
ويرجع ذلك إلى أن العملات ورغم كونها تباع وتشترى وكأنها سلع اليوم؛ فإنها مميزة عن السلع وغيرها من المنتجات، لأن هذه العملات هي ما نستخدمه لقياس قيمة المنتجات الأخرى، ولذلك فنحن نستخدم العملات المختلفة لقياس قيمة عملة ما على شكل أزواج -مثلًا- كأن نقول إن قيمة الدولار بالنسبة لليورو هو 1 يورو لكل دولار.
وهذا يعني أن لقصة صعود أو هبوط أي عملة أكثر من وجه؛ فيكفي ارتفاع قيمة اليورو مع بقاء الدولار ثابتا – على فرض أنهما العملتان الوحيدتان في العالم- ليعني ذلك عمليًّا انخفاض قيمة الدولار، وبسبب تعقد العالم وتشابكه؛ فإننا لا نقيس قيمة عملة ما بمقارنتها بعملة واحدة فقط، خصوصًا في حالة الدولار بوصفه أهم عملة في العالم، بل نعمد عادة لقياس قيمتها أمام مجموعة من العملات الأخرى.
خلال الأيام الماضية ارتفعت قيمة الدولار أمام اليورو لتصبح متساوية للمرة الأولى منذ 20 عامًا، وذلك بعد أن خسر اليورو 12% من قيمته أمام الدولار منذ بداية العام، ثم عاد اليورو لتحقيق بعض المكاسب في الأيام القليلة الماضية للعودة نحو قيمة 0.98 يورو للدولار الواحد، ومع أن هذه القيمة ما زالت منخفضة جدًّا مقارنة بقيمة اليورو سابقًا؛ فإن الإشكال الأكبر هو إلى أين نتجه لاحقًا؟ خصوصًا إذا ما اتجهنا نحو صعود أكبر للدولار.
إلى أين تتجه قيمة الدولار؟
في تقرير سابق أوضحنا أسباب انخفاض اليورو مقابل الدولار؛ وأوضحنا عوامل انخفاض قيمة اليورو، وعوامل ارتفاع قيمة الدولار، بما في ذلك الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة الأمريكية خلال العام الحالي، وارتفاع سعر الفائدة الأوروبية مرة واحدة فقط خلال الفترة نفسها، وبنسبة 0.5% فقط، مع العلم أنها كانت في الأصل أقل من سعر فائدة الدولار عند بداية العام.
فهناك مخاوف من ركود أوروبي، وهذه المخاوف تتعاظم اليوم بسبب انقطاعات الغاز الروسية، وإظهار الاقتصاد الأوروبي علامات ركود أخرى أيضًا، مع نسب تضخم كبيرة؛ وهذا هو الجانب الأوروبي من القصة، وهو الأقل أهمية لنا في هذا المقام، أما الجانب الأمريكي فهو قدرة الفيدرالي الأمريكي الأكبر على رفع أسعار الفائدة عدة مرات وبنسب أكبر من الأوروبيين، مع بعدها عن تأثيرات الحرب الأوكرانية.
طبقًا للنظرية الاقتصادية فإن أسعار الفائدة هي العامل الأهم في المدى القصير في تحديد سعر الصرف، ويعني رفعها دفع قيمة العملة للارتفاع، ولكن حصول الركود يعني ضربة للعملة أيضًا، وحتى الآن لا ركود في الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة، لكن أوروبا أكثر عرضة للتأثر بنتائج الحرب الأوكرانية الاقتصادية من أمريكا، والاتحاد الأوروبي أقل استعدادًا لرفع سعر فائدته من الولايات المتحدة، والنتيجة المنطقية حتى الآن أن يستمر ارتفاع الدولار، وألا يكون لليورو الدعم الاقتصادي نفسه، من أجل رفع قيمته في المقابل.
ولنضف إلى كل ذلك ما قرره الفيدرالي الأمريكي، يوم أمس الأربعاء 28 يوليو (تموز) 2022، من رفع لسعر الفائدة الأمريكية بنسبة 0.75% مرة أخرى، لتصبح النسبة الإجمالية 2.5% وهي نسبة ضخمة جدًّا لم تحصل منذ عقود، لكن الفيدرالي الأمريكي ذهب إلى أبعد من ذلك؛ بإرسال إشارات مفادها أنه مستعد لرفع سعر الفائدة بنسبة أكبر في المستقبل القريب؛ إذا ما استدعى الظرف الاقتصادي ذلك.
وبالتركيز على الدولار الأمريكي عن طريق النظر في «مؤشر الدولار الأمريكي USD Index»، والذي يقيس قيمة الدولار الأمريكي عن طريق استخدام مجموعة من العملات الرئيسية الأخرى؛ والتي هي في الوقت نفسه، عملات بلدان تعد شريكًا تجاريًّا مهمًّا للولايات المتحدة الأمريكية، وتضم اليورو، والين الياباني، والجنيه الإسترليني، والدولار الكندي، والكرونة السويدية والفرنك السويسري.
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المؤشر لم يُحدَّث منذ وقت طويل؛ ومن ثم فهو غير دقيق 100% في التعبير عن قيمة الدولار الأمريكي، إلا أنه يبقى ضروريًّا – وبلا بديل – لقياس قيمة الدولار الأمريكي، وطبقًا لهذا المؤشر فإن الدولار الأمريكي ارتفعت قيمته بنسبة 9% منذ ستة شهور، وهي نفسها الشهور التي بدأ فيها الفيدرالي الأمريكي رفع سعر فائدته، واندلعت فيها الحرب الأوكرانية أيضًا.
ولكن علينا أيضًا أن نعي أن هذا المؤشر يضم فقط عملات رئيسية عملاقة في العالم، تتبع دولًا ذات اقتصاديات متقدمة فقط، وعملاتها بالعادة مستقرة القيمة، ولذلك فإن نسبة 9% ليست نسبة بسيطة بالمطلق، وما زال علينا أن ننتظر ما سيحصل بعد رفع الفيدرالي الأمريكي لسعر فائدته آخر مرة خلال يوليو 2022.
لا شيء مؤكد وكل الاحتمالات مطروحة
في الوضع الطبيعي؛ وعلى فرض أن الاقتصاد الأمريكي لن يدخل في الركود فإن من المؤكد أن الدولار الأمريكي سيستمر بالارتفاع، وتلعب التوقعات دورًا مهمًّا في هذا الصدد، فالمستثمرون مهتمون، لا بما تفعله البنوك المركزية فقط؛ لكن بما يُتوقع أن تفعله في المستقبل؛ فإذا كان رفع سعر الفائدة يعني عادة ارتفاع سعر العملة، وكان متوقعًا أن يرتفع سعر الفائدة في بلد ما فمن المتوقع أيضًا أن ترتفع سعر عملته، وهذا يعني أن على المستثمرين الاستثمار في عملة هذا البلد بشكل مسبق، لتحصيل الربح الممكن من هذا الارتفاع قبل حصوله.
والفيدرالي الأمريكي ليس الوحيد الذي من المتوقع أن يرفع سعر فائدته؛ فالبنوك المركزية لكندا، والفلبين، وسنغافورة، ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وغيرهم من البنوك المركزية، تعتزم هي الأخرى، رفع سعر فائدتها بشكل مشابه لارتفاعات الفيدرالي المركزي، ومعهم الدول التي تثبت عملاتها للدولار الأمريكي طبعًا؛ والذين لا خيار لهم إلا رفع أسعار فائدتهم بالنسبة نفسها، أو بنسبة مقاربة للحفاظ على نظام سعر الصرف الثابت.
وهذا يعني أن عملات هذه البلدان سيكون لها الدعم نفسه من جهة أسعار الفائدة كما للدولار الأمريكي، بينما من غير المتوقع أن يرفع البنك المركزي للاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الياباني أسعار فائدتهما بالطريقة نفسها؛ بل إن المركزي الياباني لم يرفع سعر فائدته أصلًا، ولم يبدأ المركزي الأوروبي رفع سعر فائدته إلا مؤخرًا وبنسبة قليلة جدًّا مقارنة بالفيدرالي الأمريكي، والأمر نفسه ينطبق على المركزي البريطاني ولكن بدرجة أقل.
هذه الاختلافات بين البنوك المركزية في العالم تعقد المشهد؛ فقيمة الدولار تتحدد مقابل سلة من العملات لا عملة واحدة فقط، ومن المرجح أن ترتفع قيمته أمام الدول التي لم ترفع سعر فائدتها، وأن يبقى ثابتًا نسبيًّا أمام عملات الدول الأخرى التي ستجاري الفيدرالي في أسعار الفائدة.
وهذا ليس المتغير الوحيد؛ فكل هذا على افتراض عدم حصول الركود؛ أما إذا حصل الركود فإن الفيدرالي الأمريكي سيضطر إلى وقف رفع أسعار فائدته، ومن ثم سيخسر الدولار جزءًا مما يدفعه للارتفاع، وبناء على حجم هذا الركود المحتمل فإن الفيدرالي قد يضطر إلى عكس عملياته والبدء بخفض سعر الفائدة حتى!
تعمل سعر الفائدة باتجاهين متناقضين بناء على المشكلة التي يحاول البنك المركزي حلها في بلد ما، فإذا رأى المركزي أن النشاط الاقتصادي منخفض جدًّا (ركود)، وأراد تشجيع الاستثمار والاستهلاك ودفع الطلب للارتفاع فإنه يخفض سعر الفائدة، والعكس صحيح في حالة التضخم لخفض النشاط الاقتصادي والطلب العام.
كما أنه وفي حال دخول الاقتصاد في الركود فإن ذلك سيؤثر في العملة أيضًا بلا شك، وسيخسر الدولار جزءًا من قوته؛ ولكن هل هذا يعني أن أمريكا فقط التي ستدخل في الركود؟ بالغالب لا، وسيعتمد أثر الركود في العملات المختلفة على المخاطر النسبية في كل منها وتفاوت حجم هذه المخاطر بين بلد وآخر.
وتخبرنا بعض أهم المؤشرات التي تستخدم للتنبؤ بالمستقبل اليوم أن الركود إذا كان سيحصل فإنه قادم نهاية العام الحالي، وحتى ذلك الوقت فقد ترتفع أسعار الفائدة مرة أو مرتين عدا عن ارتفاعها الأخير يوم أمس، وهو ما يعني مساحة أكبر للدولار لارتفاع قيمته؛ خصوصًا أمام عملات الدول التي لن تجاري الفيدرالي في أسعار الفائدة.
أما بعد حصول الركود -في حال حدوثه- فكل شيء سيكون مفتوحًا أمام احتمالات مختلفة؛ فلا يمكننا أن نعرف حجم هذا الركود أو مدته أو طريقة تعامل الحكومات والبنوك المركزية المختلفة معه، وقد يتسبب حصول الركود ببدء رحلة عكسية للدولار، ولكن ليس بالضرورة؛ يعتمد ذلك على ما سيحصل في الدول الأخرى أيضًا.
لماذا من المهم للعالم متابعة قيمة الدولار؟
بالنسبة للاتحاد الأوروبي؛ فإن رؤية الدولار يصل إلى قيمة متعادلة مع اليورو لأول مرة منذ 20 عامًا كان إحراجًا للبنك المركزي الأوروبي، وحتى بالنسبة لليابان التي كانت عملتها الأسوأ أداءً هذا العام بين عملات الدول المتقدمة في العالم.
لكن الأهم من ذلك هو تحليل الصادرات والواردات سواء في الدول المتقدمة أو النامية، فانخفاض اليورو -مثلًا- يعني أن صادراتها ستصبح أرخص، ورغم أن ذلك يعني تنافسية أكبر للمنتجات الأوروبية إلا أن صادرات الدول الأوروبية لا ينقصها التنافسية، بعكس الحالة الصينية مثلًا، فهي تعتمد على جودة منتجاتها أكثر من انخفاض سعرها.
أما بالنسبة للمستوردات بالدولار؛ أو بأي عملة ارتفع سعرها مقابل اليورو، سواء كانت الروبل الروسي الذي ارتفع كثيرًا بعد انخفاضه الكبير في بداية الأزمة، أو بالدولار الذي هو أهم عملة في التجارة العالمية وكثير من الدول تستخدمه في تعاملاتها حتى مع غير الولايات المتحدة، فإن هذه المستوردات سيرتفع ثمنها تلقائيًّا على المستوردين في أوروبا.
لكن هذا الأمر في الدول المتقدمة مثل الاتحاد الأوروبي ليس مشكلة كبيرة جدًّا، وستتحسن في حالة تحقق السيناريو الثاني؛ ألا وهو عودة الدولار للانخفاض، لكنها تظل مشكلة ضخمة ومضاعفة بالنسبة للكثير من الدول النامية، لا من ناحية التجارة فحسب، بل أيضًا من ناحية الديون.
ففي مثالي تركيا ومصر؛ تكاد عملتا البلدين أن تصل إلى أدنى مستوياتهما في التاريخ؛ فالجنيه المصري يقارب على الوصول إلى 19 جنيها للدولار الواحد، والليرة التركية تقارب على الوصول إلى 18 ليرة للدولار الواحد.
وكلا البلدين يعاني من ميزان تجاري سالب؛ بمعنى أن مستورداتهما أعلى من صادراتهما، وهو ما يعني أن انخفاض قيمة العملة سيعني ارتفاع الأسعار محليًّا، عدا عن استنزاف الاحتياطات النقدية بشكل قد يودي بالبلدين إلى حافة أزمة مالية ونقدية محققة، والتضخم فيهما مرتفع أصلًا؛ فهو في مصر أكثر بقليل من 13%، وهي نسبة مرتفعة بالفعل لكنها غير مقاربة حتى للنسبة في تركيا والتي قاربت على 80%؛ ما يعني أن الأسعار قاربت على التضاعف خلال 12 شهرًا فقط!
والمشكلة بالنسبة لتركيا مضاعفة؛ فهي تقبض ثمن نسبة ضخمة من صادراتها باليورو، ولكنها تصدر الكثير منها بالدولار، وتركيا ستخسر الكثير بسبب انخفاض قيمة اليورو أمام الدولار بسبب ذلك؛ دون أن تنخفض صادراتها أو ترتفع مستورداتها، ولكن فقط بفعل تغير سعر صرف العملتين بارتفاع الدولار وانخفاض اليورو.
ولكن هذه ليست نهاية القصة، فكل من تركيا ومصر تعتمدان – أو اعتمدتا في السنوات السابقة على الأقل- على نموذج اقتصادي مبني على رفع أسعار الفائدة، بحيث تكون أسعار الفائدة الحقيقية – سعر الفائدة/التضخم- مرتفعة جدًّا مقارنة بالعالم، ما يعني جذب الاستثمارات الخارجية للبلاد، والتي تساهم كثيرًا في دفع النمو الاقتصادي محليًّا.
لكن هذين البلدين لا يستطيعان مجاراة ارتفاع سعر الفائدة في أمريكا؛ فكلما رفعتا سعر فائدتيهما عنى ذلك ارتفاع تكلفة الديون المحلية، لأن ديون الحكومة المحلية مرتبطة بسعر فائدة البنك المركزي في كل منهما، وهو يعني أن القروض المحلية ستصبح أعلى تكلفة مع كل ارتفاع.
أما بالنسبة للديون الخارجية؛ فهي سترتفع بصرف النظر عن قرار أي منهما بخصوص الفائدة، فارتفاع أسعار الفائدة عالميًّا يعني ارتفاع تكلفة ديون هذين البلدين من الخارج، سواء كانت ديونًا قائمة – في كثير من الأحيان- أو ديونًا يريد البلدان اقتراضهما في المستقبل.
والأثر الأخير على هذين البلدين وغالبية الدول النامية هو أيضًا متعلق بالديون، وخاصة الديون المقومة بالدولار الأمريكي؛ ما يعني أن عملية سدادها ستكون بالدولار أيضًا، وبما أن قيمة الدولار ترتفع الآن وقد تستمر في ذلك لاحقًا فإن ذلك يعني أن تكلفة الديون ستكون أعلى أيضًا بسبب ذلك.
وهو أمر تشترك فيه غالبية الدول النامية؛ فالدولار هو العملة الأكثر استخدامًا في التعاملات المالية العالمية، ومن الطبيعي أن يكون النسبة الأكبر من ديون كثير من الدول النامية، والدول الوحيدة التي لن تتأثر بذلك هي الدول المصدرة للنفط والغاز؛ فارتفاع الدولار لا يعنيها كثيرًا، وارتفاع أسعار النفط يعوض أي مشكلة أخرى، واقتصاداتها تثبت سعر عملتها للدولار أصلًا، ولكن حالة هذه الدول هي الاستثناء من الدول النامية بالطبع.