«دخلت تونس مرحلة جديدة».
هكذا استقبل الرئيس التونسي، قيس سعيد، عامه الثاني، بعد الانقلاب الدستوري الذي قام به في 25 يوليو (تموز) 2021، والذي بموجبه أمم السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، في صورة صلاحيات مطلقة أعطاها لنفسه.
جاء هذا التصريح في أعقاب الانتهاء من الاستفتاء على الدستور التونسي، والذي جرى تصميمه ليتناسب مع رؤى قيس سعيد لهياكل السلطة، ويمنحها شرعية دستورية، وليصنع قطيعةً مع الإرث السياسي لديمقراطية ما بعد الثورة.
ففي مساء الثلاثاء 26 يوليو 2022 جرى إقرار الدستور التونسي الجديد بنسبة موافقة بلغت 94.6% من الأصوات الصحيحة، وبنسبة مشاركة بلغت 30.5% ممن يمتلكون حق التصويت، فيما اتهمت المعارضة قيس سعيد بتزوير الاستفتاء.
وقال رئيس جبهة الإنقاذ الوطني، أحمد نجيب الشابي: إن الأرقام «مُبالغ فيها، ولا تتناسب مع ما رآه المراقبون على الأرض»، وأكّد أن الهيئة الانتخابية «غير نزيهة وأرقامها مزورة»، وتزامن تصريح الشابي مع ما أشارت إليه وزارة الخارجية الأمريكية من «مخاوف من أنَّ الدستور الجديد يتضمن ضوابط وتوازنات ضعيفة، يمكن أن تُعرِّض حقوق الإنسان والحريات الأساسية للخطر».
وفي السياق نفسه ذهبت آراء العديد من الخبراء إلى أن الدستور الجديد لا ينسف فقط مبادئ دستور 2014، ولكنه لا يضع أي قيود على سلطة رئيس الجمهورية، فلا توجد وسيلة لعزله في البرلمان، أو من طرف أية مؤسسة أخرى، وعلاوةً على ذلك فإن الرئيس هو الذي يختار رئيس الوزراء، والوزراء أنفسهم، ويمكنه إقالتهم وحده، ويمكنه أيضًا حل البرلمان، كما يُقوِّض الدستور الجديد استقلال القضاء، وهو حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي.
وفي ظل هذه التطورات، التي تُرسِّخ بشكل أكبر لوضع قيس سعيد السلطوي، وتُهدد بحرمان تونس من كل المكتسبات الديموقراطية التي حققّتها بعد الثورة، يظهر تساؤل منطقي: لماذا نجح قيس سعيد إلى الآن في انقلابه الدستوري؟ ومنْ يملك القدرة على الوقوف أمامه ليُعيد البلاد إلى مسار التحول الديمقراطي المسلوب؟
«لا معارضة قوية في الأفق»
كانت هذه هي الخلاصة التي توصّلت إليها خديجة محسن فينان، أستاذة العلوم السياسية بجامعة السوربون، في ورقتها المنشورة على موقع مجلة «أوريان 21» في فبراير (شباط) 2022؛ إذ رأت أن الرئيس التونسي قيس سعيد ليس فاعلًا مستقلًا، بل هو نتاج لظروف وعلاقات قوة ومنطق يتجاوزه، فقد اعتمد على الأخطاء التي ارتكبت في إدارة الانتقال السياسي، ونما مشروعه السياسي في المساحات التي تركتها الأحزاب السياسية شاغرة، ونتيجة للتسويات والتواطؤ، فقدت هذه الأحزاب هويتها، ولو جزئيًا.
متظاهرون ضد استفتاء 25 يوليو على الدستور
والاستنتاج الأوّلي للعديد من الخبراء هو أن المعارضة التونسية باتت منقسمة، وتضم أحزابًا بلا قاسم مشترك، بينما فقد الحزب الأكبر (حزب النهضة) شعبيته وزخمه السياسي؛ فالشارع التونسي يلقي عليه باللائمة فيما وصلت إليه البلاد من أزمات سياسية واقتصادية.
وعلى ذلك نجد أن فزّاعة الإسلاميين مازالت تحكم وتُلجِّم تحركات الشارع التونسي، الذي يرى أن بديل قيس سعيد حال سقوطه سيكون الإسلاميين مُجددًا، في حين أن واحدة من أسباب دعم الشارع لقرارات الرئيس التونسي الانقلابية في يوليو 2021 هو أنها عاقبت الإسلاميين على فشلهم في إدارة المرحلة الانتقالية.
حتى وإن اختلفت التقديرات حول حجم معارضة الإسلاميين في الشارع التونسي، فإن الانقسام حول تقييم تجربتهم السياسية يمنع من تحقيق اتفاق ضروري للتحرك بهدف إسقاط قيس سعيد، ورغم اختلاف قياسات الرأي العام حول شعبية الرئيس، ودرجة تأييد مساره السياسي، فإنها لا تشير في أدنى مستوياتها إلى اتفاق الجماهير حول ضرورة التحرك ضده، هذا إن اعتمدنا على استطلاع الرأي أجرته مؤسسة «Insights TN»، والتي أكدت أن نسبة تأييد قرارات الرئيس قد انخفضت من 49.8% في أغسطس (آب) 2021، إلى 23.2% في فبراير 2022.
ويشير أحد التحليلات المنشورة على موقع صحيفة «لوموند» الفرنسية، إلى أن المعارضة السياسية التونسية باتت مفككة، وغير قادة على التأثير بفاعلية في المشهد السياسي، وصارت مقتصرة على مجموعتين فقط؛ إحداها يقودها أستاذ القانون الدستوري، جوهر بن مبارك، وهو حراك «مواطنون ضد الانقلاب»، الذي يدعمه حزب النهضة الإسلامي، وفي أبريل (نيسان) 2022 انضمت إلى الحراك خمسة أحزاب معارضة (ما بين ليبرالية واشتراكية)، لتشكل معًا «جبهة الإنقاذ الوطني» بمبادرة من السياسي أحمد نجيب الشابي، ولكن لا يبدو أن الجبهة تحظى بالتأييد الشعبي الكافي.
أمّا حركة المعارضة الثانية، فتقودها عبير موسي، النائبة في البرلمان، ورئيسة حزب «الدستور الحر»، وهي أحد ألد أعداء الإسلاميين في تونس، وكانت أحد مؤيدي قرارات قيس سعيد في بداية الأمر، إلا أنها سرعان ما تحوّلت إلى الضفة الأخرى، واتجهت إلى المعارضة، حينما شعرت بأن الرئيس التونسي لا يهدف إلى إقصاء الإسلاميين فقط من المشهد، ولكن يهدف إلى تصفية المعارضة تمامًا.
أمّا الاتحاد التونسي للشغل، أحد أهم معاقل القوة للحركة الجماهيرية التونسية، فما زال موقفه من قيس سعيد ضبابيا، ولم يصل إلى مرحلة العداء الصريح، أو الرغبة في إسقاطه، ورغم الخلافات التي تضخمت مؤخرًا بين الرئيس والاتحاد، والتي دفعت الأخير إلى الدعوة إلى إضراب عام في منتصف يونيو (حزيران) 2022، إلا أن موقف التجمع من الدستور الجديد يشير إلى أنه لا يُعوَّل عليه في أي تحركات جادة ضد الرئيس.
إذ أعلن الاتحاد التونسي للشغل ترك حرية الاختيار لأعضائه والنقابيين في المشاركة والتصويت في الاستفتاء على الدستور، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن مشروع الدستور تضمن فصولًا ضامنة للحريات، وأخرى تهدد الديمقراطية.
مؤسسات أمنية متحالفة وقضاء مُفكك
مهّدت حالة الاستقطاب والجمود الذي حلّ بالحياة السياسية التونسية عام 2021، الطريق أمام صعود قيس سعيد، ومع توليه زمام مبادرة تأميم كافة السلطات، لم يكن أمامه سوى تحديات محدودة ليمضي في مخططه السلطوي، والذي يتضمن تفكيك مواضع القوة في النظام السياسي التونسي، تمهيدًا لهدم النظام وإعادة تأسيسه.
متظاهرون ضد الاستفتاء على الدستور
وكانت خطوته الأولى هي التأكد من الحصول على دعم الجيش والشرطة، قبل المضي قدمًا في قرارات يوليو 2021؛ إذ اعتمد سيعد بالأساس على قوات الشرطة في فرض حالة الطوارئ، وخلال 24 ساعة من إعلان قرارات يوليو (تموز)، اقتحمت قوات الشرطة مكتب قناة الجزيرة في البلاد، على خليفة تغطية تطورات الوضع هناك، وأفادت وسائل إعلام تونسية – حينئذ – بأن سعيد كلّف رئيس حرسه الرئاسي، خالد اليحياوي، بمسئوليات وزير الداخلية.
وكذلك بدا أن الجيش التونسي – الذي طالما جرى إبعاده عن الحياة السياسية – داعم فعلي للرئيس، وذلك حينما منع رئيس البرلمان السابق، راشد الغنوشي، من الوصول إلى مجلس نواب الشعب مساء 26 يوليو 2021، وهو ما تزامن مع إقالة وزير الدفاع التونسي حينئذ، ابراهيم البرتاجي، والذي جرى تفسيره بمحاولة تأمين ولاء الجيش.
وعلى جانب آخر ربما كان من المفترض أن تكون السلطة القضائية التونسية جدار المقاومة الرئيس في مواجهة انقلاب سعيد الدستوري، ولكنها وصلت إلى هذه الفترة وهي تعاني من مشكلات أضعفتها، كان أبرزها غياب «المحكمة الدستورية العليا»، وهي أحد أهم أركان أية عملية تحول ديمقراطي منضبط.
وكان من المفترض تأسيسها بموجب دستور 2014، إلا أن المشهد السياسي المتصدع في تونس منع الأحزاب من التوصل إلى اتفاق بشأن طريقة تشكيلها وأعضاءها، وكانت المحكمة هي الهيئة الوحيدة التي في مقدورها الفصل في قرارات يوليو 2021، بل إنهاء الصلاحيات الاستثنائية التي منحها الرئيس لنفسه.
ليس هذا فحسب، ولكن مع وصول سعيد إلى الحكم، كان هناك أكثر من 500 قانون بحاجة إلى تحديث لتلبية المتطلبات الدستورية الجديدة، بما في ذلك قانون العقوبات، وقد استغل قيس سعيد تلك الحالة التي كان عليها القضاء، وحاول إضعافه أكثر، بحيث يُقوِّض أية فرصة مستقبلية في أن يصبح ندًا له.
فقام في يونيو 2022 بإقالة 57 قاضيًا، مبررًا ذلك بحجة «تطهير النظام القضائي في البلاد من الفساد»، بينما تشير بعض التقارير إلى أن هؤلاء القضاء، الذين جرى عزلهم، قد أثاروا غضب قيس سعيد من خلال معارضتهم العلنية لإجراءاته السابقة، والبعض الآخر رفض إصدار أحكام بالإدانة، في حق المعارضين الذين قدّمهم الرئيس للمحاكمة.
تدهور الاقتصاد وضغوط الخارج
واحدة من العوامل التي ساعدت قيس سعيد في انقلابه الدستوري، هي تدهور الوضع الاقتصادي التونسي، والذي تحمّل مسئوليته حتى يوليو 2021، بشكل مباشر البرلمان والحكومة؛ إذ كانت سلطات قيس سعيد حتى ذلك الوقت، ووفقًا للدستور، «محدودة» لذلك شدّد سعيد في خطاباته الأولى بعد يوليو 2021 أنه يحاول «إنقاذ الاقتصاد الفاشل»، وهو ما جلب له دعمًا جماهيريًا لا بأس به.
الرئيس التونسي قيس سعيد
وكانت المؤشرات الاقتصادية بالفعل قد تراجعت بحدة، فبعد أن كان معدل البطالة في عام 2010 حوالي 13%، وصل في عام 2021 إلى ما يقرب من 18%، وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب – في الفترة ذاتها – من 29.5% إلى 41.7%.
وقد أعلنت وزارة المالية التونسية أن الدين العام المستحق على البلاد ارتفع إلى حوالي 35.6 مليار دولار، ليُشكِّل حتى نهاية 2021، ما نسبته 81.47% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بزيادة 12% مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2020.
وإلى الآن لا يبدو أن قيس سعيد قد نجح في تحقيق أي تقدم في الملف الاقتصادي، إذ إن جُل تركيزه انصب على الدستور الجديد، وضبط قواعد المرحلة الجديدة من حكمه، ولكن استمرار الوضع الحالي قد يُهدد بتراجع حاد أكثر في شعبيته، وربما تدفع أوضاع المعيشة المتدهورة الجماهير إلى الخروج للشوارع.
وليس أمام سعيد حل في هذا الوضع سوا الاقتراض الدولي، والذي أعلنت الحكومة نيتها تجاهه بالفعل، ولكن الأوضاع السياسية غير المستقرة تحُول دون الوصول إلى اتفاق مع المقرضين الدوليين، والذين يحثون الرئيس على إعادة البلاد إلى حكم دستوري أكثر شمولًا، حتى يمكن للبلاد أن تحصل على القروض المطلوبة.
ولا يبدو أن قيس سعيد مكترث بتلك الدعوات، خاصةً أنها تأتي على استيحاء، دون ضغط دولي حقيقي، فواشنطن تجنبت وصف قرارات يوليو 2021 بأنه انقلاب، والعديد من الدول الغربية كانت سلبية، وربما غير مكترثة، بخطط سعيد الشمولية.
لذلك من المتوقع بعد أن يفرغ الرئيس التونسي من تهيئة الساحة السياسية والدستورية لنمط الحكم الذي صممّه بنفسه ولنفسه، ويتأكد من استقرار حكمه، سيكثف مفاوضاته مع الجهات الدولية لإتمام عملية الاقتراض، وحينئذ لن يمانع من تقديم تنازلات تُرضي الغرب، وتسمح بإتمام الصفقة.