نشر الصحافي إنيجو ألكسندر مقالًا على موقع «ميدل إيست آي» قال إنه قبل 85 عامًا تقريبًا، كان مصير العاصمة الإسبانية مدريد على المحك حين بدأت القوات القومية المتمردة هجومها على المدينة والمدافعين الجمهوريين عنها.
كان قوام القوة العسكرية الرئيسية للهجوم (الذي بدأ في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني واستمر حتى سقوط المدينة في مارس (آذار) عام 1939) الجنود المغاربة الذين خدموا تحت قيادة الزعيم الوطني وبعد ذلك الدكتاتور الجنرال فرانسيسكو فرانكو في جيشه الأفريقي.
وأوضح ألكسندر أن الوجود العربي في الحرب الأهلية الإسبانية حقيقة معترف بها على نطاق واسع في كتب التاريخ. لكن الدور الذي لعبه العرب في القضية الجمهورية لم يحظ بالقدر نفسه من الاهتمام.
لقد طال حصار مدريد، وهي مواجهة استمرت 28 شهرًا للسيطرة على المدينة في أعقاب هجوم نوفمبر 1936، جزئيًّا بسبب الدعم الذي تلقاه الجمهوريون من الألوية الدولية. كانت هذه وحدات عسكرية مكونة من متطوعين أجانب من جميع أنحاء العالم معظمهم من الأوروبيين، وصلوا بالآلاف للدفاع عن الحكومة الإسبانية.
وبحلول 9 نوفمبر، كان اللواء الدولي الحادي عشر، الذي يبلغ قوامه 1900 رجل، وصل جبهة مدريد. ويرجح أنه كان من بينهم عدد من المتطوعين العرب.
العرب يدافعون عن الجمهورية
يشير ألكسندر إلى أنَّه بسبب التوثيق المحدود وغياب البحث التاريخي فلا يُعرف الكثير عن العرب الذين حملوا السلاح للدفاع عن إسبانيا وحمايتها من براثن الفاشية. ونتيجة لذلك، تظل العديد من أسماء المتطوعين العرب غير معروفة.
كما أن تحديد عددهم الدقيق هو مهمة شاقة أيضًا، حيث يزعم بعض المؤرخين أن ما يصل إلى ألف عربي انضموا إلى الألوية الدولية. ومع ذلك، فإن المؤرخ الكتالوني أندرو كاستلس، أجرى بحثًا مكثفًا ووجد 716 حالة مسجلة.
جاء التفاوت في الأرقام نتيجة عدم انتظام حفظ السجلات بين القوات الجمهورية، وسوء الترجمات، والارتباك بسبب الجنسية الاستعمارية.
سُجِّل العديد من العرب الذين تطوعوا بصفتهم مواطنين فرنسيين، حيث كانت العديد من دول شمال أفريقيا لا تزال تحت الحكم الاستعماري عندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية. بالإضافة إلى ذلك، هناك أخطاء إملائية في كتابة الأسماء العربية، ومن ثم قد تُسَّجل عدة مرات.
الكتيبة العربية للجيش الإسباني أثناء الاحتفال بالذكرى العاشرة لنهاية الحرب الأهلية في مدريد عام 1949
يكشف ألكسندر أن ما يقرب من نصف العرب الذين تطوعوا في إسبانيا كانوا جزائريين، مع انضمام 493 إلى القوات الجمهورية، ونجا 332 منهم.
وتقول المخرجة المصرية أمل رمسيس، التي أخرجت فيلم «لقد جئت من بعيد»، وهو فيلم وثائقي عن الوجود العربي في الحرب الأهلية الإسبانية: «كانت هناك حركة فوضوية قوية في الجزائر في ذلك الوقت، مما دفع الكثيرين للانضمام، ولكن من الناحية العملية كان من الأسهل عليهم الوصول إلى إسبانيا لأنه كانت هناك قوارب مباشرة من وهران إلى أليكانتي».
ووفقًا لأرقام المؤرخ كاستلس وأرشيف الدولة الروسي للتاريخ الاجتماعي والسياسي، حمل 211 مغربيًّا، و11 سوريًّا، وأربعة فلسطينيين، وثلاثة مصريين، وعراقيين، ولبناني السلاح أيضًا ضمن الألوية الدولية.
وقد تتفاوت الدوافع وراء المشاركة العربية في الحرب الأهلية الإسبانية، على الرغم من أن رمسيس تعتقد أنهم كانوا مدفوعين بفكرة تحررهم في المستقبل. وتقول: «لم ينضم المتطوعون العرب تضامنًا مع إسبانيا فحسب، ولكن أيضًا للدفاع عن مستقبلهم. بالنسبة لهم، كان انتصار الجمهوريين في إسبانيا سيعني إنهاء استعمار العالم العربي على المدى الطويل، وسيكون بداية لتحريرهم».
فلسطينيون على خطوط الجبهات
كشف ألكسندر عن شخصية أبرز العرب الذين شاركوا في الحرب الأهلية، وهو الصحافي الفلسطيني الشيوعي نجاتي صدقي، الذي ظن أن سقوط الفاشية الأوروبية سيتيح مزيدًا من تقرير المصير، والاستقلال بين الشعوب العربية.
وكتب صدقي في مذكراته التي عنونها بـ«شيوعي فلسطيني في الكتائب الإسبانية الدولية»: «لا عذر يمنع العرب من التطوع. أولسنا نطالب أيضًا بالحرية والديمقراطية؟». وأضاف: «ألن يتمكن المغرب العربي من تحقيق حريته الوطنية إذا هُزم الجنرالات الفاشيون؟».
يتذكر صدقي تقديم نفسه لمليشيات الحكومة المحلية الإسبانية بالقول: «أنا متطوع عربي، لقد جئت للدفاع عن حرية العرب على الجبهة في مدريد. لقد جئت للدفاع عن دمشق في جوادالاخارا، والقدس في قرطبة، وبغداد في توليدو، والقاهرة في الأندلس، وتطوان في برغش».
لم يلتحق صدقي رسميًّا بالألوية الدولية، ولكن بدلًا من ذلك أرسلته الأممية الشيوعية (كومنترن) إلى إسبانيا في مهمة دعائية لزعزعة استقرار القوات القومية. حط الرحال هناك أغسطس (آب) 1936 متنكرًا في هوية مغربي تحت الاسم المستعار مصطفى بن جالا، وكلف بمهمة القيام بدعاية تهدف إلى تشجيع القوات المغربية التي تقاتل في الجانب القومي على الفرار.
يضيف ألكسندر أنه في سياق هذا الهدف كتب صدقي في صحيفة «Mundo Obrero» الشيوعية، وشكل جمعية مناهضة الفاشية الإسبانية المغربية، ونظم البث الإذاعي باللغة العربية، ونشر الكتيبات، وزار الخنادق على طول الخطوط الأمامية لحث المغاربة على الجانب الآخر للانضمام إلى صفوف الجمهوريين.
ورد بأنه قال عبر مكبرات الصوت: «أنصتوا إلي يا إخوتي، أنا عربي مثلكم. أناشدكم التخلي عن هؤلاء الجنرالات الذين يعاملونكم معاملة جائرة. انضموا إلينا، سنرحب بكم كما ينبغي، سندفع لكل واحد منكم راتبه اليومي وكل من لا يريد القتال سيعود إلى بلده».
ولكن فشلت معظم محاولاته في الغالب. فقد ترك قلة من المغاربة صفوف فرانكو. لقد أخطأ ببث رسائله باللغة العربية الفصحى، التي لم يتكلمها أو يقرأها العديد من المغاربة الذين يخدمون تحت قيادة فرانكو.
العنصرية في صفوف الجمهوريين
إن المثل العليا التي زعم الجانب الجمهوري الدفاع عنها والتي جذبت العديد من العرب إلى القضية لم توضع دائمًا موضع التنفيذ. فقد عومل الكثير من العرب، الذين قاتلوا مع الجمهوريين، بالعداء وعانوا من العنصرية على أيدي رفقائهم الإسبان في السلاح.
كان عدم الثقة تجاه العرب أمرًا شائعًا في المجتمع الإسباني ذلك الوقت، مدفوعًا بالانقسامات التاريخية، والتحيز العنصري، والصور النمطية السلبية، وانعكس ذلك في الصحافة الجمهورية.
يقول الصحافي والمؤرخ مارك المودوبار: «كانت العنصرية متأصلة في وسائل الإعلام الجمهورية، فقد أدت إلى تفاقم التحيز التاريخي المتأصل في المجتمع الإسباني. كانت الصورة التي صوروها للمغاربة والعرب مهينة وغير إنسانية تمامًا».
على سبيل المثال، في أحد الرسوم الكاريكاتورية بعنوان «الحضارة المسيحية»، الذي نشرته صحيفة «فراجوا سوشيال» الجمهورية، يصور جنديًّا مسلمًا وهو يهاجم امرأة وطفلًا، يظهر الهلال والنجم بوضوح على خوذته ذات الطراز الشرقي.
لقد تحدث صدقي عن عدم الثقة هذا على نطاق واسع عندما يصف أول لقاء له مع المليشيات الجمهورية عند وصوله إلى برشلونة، حيث يتذكر أنه رُحِّب به بريبة.
سأله أحد الإسبان: «هل أنت عربي حقًّا؟ مغربي؟» فقيل له: «هذا مستحيل، المغاربة يقاتلون مع الفاشيين، ويهاجمون مدننا ويقتلوننا، وينهبوننا ويغتصبون نساءنا».
كان السبب الكامن وراء هذا الموقف هو عدم القدرة على فهم العرب الذين واجهوهم بصفتهم أفرادًا لديهم دوافعهم الأخلاقية الخاصة، كما قال المؤرخ المودوبار لموقع «ميدل إيست آي»: «كل شيء كان غارقًا في العنصرية. كانوا لا يعدونهم كائنات سياسية لهم توجهاتهم وأجندتهم السياسية».
وقد عزز الوجود المكثف للجنود المغاربة في قوات فرانكو الصور النمطية السلبية القائمة عن العرب وزاد من سوئها.
كما قوبلت مقترحات صدقي المؤيدة للعرب بمقاومة من الحزب الشيوعي الإسباني، ولا سيما من الشيوعية الإسبانية دولوريس إيباروري، المعروفة بأغنيتها الشهيرة «No pasaran! أو لن يمروا!» شعار صدر خلال معركة مدريد وأحد رموز الحزب في ذلك الوقت. كما تسبب إنشاء جمعية مناهضة الفاشية الإسبانية المغربية التي قادها صدقي في حدوث توتر بين الحزب.
ورفضت بشدة خططه لحرمان قوات فرانكو من علف المدافع من خلال التحريض على ثورة مناهضة للاستعمار في الريف المغربي. يُزعم أن دولوريس أنهت أي حديث عن تحالف مع «جحافل المغاربة، المتوحشين، السكارى الذين يغتصبون نساءنا وبناتنا».
وعلى إثر إحباطه من العداء بين الجمهوريين، غادر صدقي إسبانيا في ديسمبر (كانون الأول) 1936. ويتذكر قائلًا: «كان هناك انعدام تام للثقة تجاه أي مغربي. فوجئنا أكثر من مرة عندما علمنا بمقتل سجناء مغاربة على يد الجمهوريين. فأيقنت حينها أن مهمتي تفشل».
المغاربة الذي قاتلوا ضمن صفوف فرانكو
يقول ألكسندر إن عدد العرب الذين قاتلوا ضمن صفوف الجمهوريين كان أقل بكثير من العرب في جيش فرانكو الأفريقي، الذي اعتمد عليه الدكتاتور بشدة طوال الصراع. تألف جيش أفريقيا من نحو 60 ألف جندي مغربي، قُتل منهم ما بين 18 إلى 20 ألفًا.
كان جيش أفريقيا من مخلفات حرب الريف في عشرينيات القرن الماضي، وقد تألف من مجندين محليين من جميع أنحاء شمال المغرب. اقتنع الكثيرون بالانضمام إلى القضية القومية بحجة كونه واجبًا دينيًّا، لأن الجمهوريين مناهضون للدين، وكذلك من أجل المكافآت المالية للقتال.
يقول المؤرخ سيباستيان بلفور، أستاذ الدراسات الإسبانية المعاصرة في كلية لندن للاقتصاد: «كانت هناك محاولات لتعبئة المجندين على الجانب القومي من خلال الحديث عن كفاحهم المشترك ضد الإلحاد. كانت في الأساس فرصة للفقراء لكسب بعض المال لأسرهم».
مقاتلات جمهوريات خلال الحرب الأهلية الإسبانية
على الرغم من كونهم عنصرًا رئيسيًّا في قوات فرانكو، يوضح بلفور أنهم «أُرسلوا أساسًا وقودًا للمدافع في المعركة». ويستدرك ألكسندر أنه مع ذلك فقد أولى القوميون احترامًا واهتمامًا خاصين لاحتياجاتهم الدينية، وجلبوا الأئمة معهم وسمحوا للصلاة اليومية.
وفي نهاية الحرب، عين فرانكو الحرس المغربي (Guardia Mora) مرافقين شخصيين له في احتفالات النصر. كانوا يمتطون الجياد ويرتدون عباءات بيضاء وحمراء، وقد تجولوا بسياراتهم الرولز رويس خلال المسيرات الرسمية حتى جرى حله في عام 1956.
لكن امتنان فرانكو للمغاربة الذين قاتلوا من أجله كان محدودًا. فأولئك الذين خدموا أُبعِدوا على الفور عند انتهاء الحرب، وأعيدوا إلى المغرب في كثير من الأحيان مع معاش تقاعدي بخس.
يقول المؤرخ بلفور: «كانت هناك درجة معينة من عدم الاهتمام بمصير قدامى المحاربين في الحرب الأهلية من قبل السلطات القومية الجديدة. بصرف النظر عن المعاشات التقاعدية، لا أعتقد أنه كان هناك الكثير من الاهتمام للحالة التي عاشوا فيها عند عودتهم إلى المغرب».
ويختتم ألكسندر مقاله بأنَّه في حديثه في الفيلم الوثائقي «المنسي»، يلخص مغربي قاتل من أجل الوطنيين تجربته: «كان فرانكو نذلًا جاحدًا، بعد فوزه في الحرب نسي أمرنا. لم نعد مفيدين له».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».