في بعض الأحيان، يتكيف الرأسماليون مع النظام الديمقراطي الانتخابي، ولكنهم لم يقبلوا، على مر التاريخ، أي نتيجة انتخابات يمكن أن تُهدد الملكية الرأسمالية.
نشرت مجلة «جاكوبين» اليسارية الأمريكية مقالًا لديلان رايلي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، تناول فيه طبيعة العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية، مسلطًا الضوء على الكيفية التي تتوافق بها الرأسمالية مع الأنظمة الديمقراطية القائمة على الانتخابات، مؤكدًا على أن الرأسماليين كانوا وما زالوا الممول الرئيس لأي نظام استبدادي على مر العصور.
الرأسمالية.. الممول الأساسي للاستبداد
في مستهل مقاله يُشير الكاتب إلى أن الإجماع السياسي في الوقت الراهن يُصر بشدة على التقارب بين الرأسمالية والديمقراطية. إذ يرى منظرو السوق الحر أن أي قيود جوهرية تُفرض على حرية رأس المال في فعل ما يحلو له لابد أن تقود المجتمعات إلى «طريق العبودية»، وهو المصطلح الذي أطلقه الفيلسوف والاقتصادي النمساوي فريدريك فون هايك. ولم يزل الليبراليون والديمقراطيون الاجتماعيون، الذين يؤمنون بإمكانية وضرورة تنظيم الأسواق، يُسلِّمون بأن أي نظام قائم على الملكية الخاصة للموارد الاقتصادية ضروري من أجل الحفاظ على الحرية.
ومع ذلك فإن مجرد إلقاء نظرة خاطفة على السجلات التاريخية – كما يقول الكاتب – يمكنها أن تُظهر كيف كان الرأسماليون من الداعمين الرئيسيين لبعض الأنظمة الاستبدادية الأكثر شهرة في التاريخ، بداية من ألمانيا النازية في عهد هتلر (الرايخ الثالث)، مرورًا بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ووصولًا إلى المجالس العسكرية في أمريكا اللاتينية.
وحتى لو عَرّفنا مصطلح «الديمقراطية» بأبسط معانيه، بوصفه مجموعة من الإجراءات تضمن تناوب الإدارات الحاكمة عبر الأساليب السلمية الرسمية، فمن الواضح أنه لا توجد علاقة ضرورية بين الرأسمالية وبين مثل هذا الإطار السياسي. صحيحٌ أن بإمكانهما التعايش، ولكن تعايشهما ليس حتميًا على كل حال.
ويُوضح الكاتب أنه بينما تطل قوى الاستبداد ذات التوجه اليميني برأسها من جديد، وحتى في ظل أكثر الديمقراطيات الرأسمالية رسوخًا، يظل من الضروري تقييم علاقة الرأسماليين بالديمقراطية تقييمًا واقعيًا. إن الطبقات الرأسمالية ليست معادية للديمقراطية بصورة لا يمكن اختزالها، ولا هي داعمة للديمقراطية على الدوام. بل تنبع مصالحهم السياسية مثل مصالح الطبقات الأخرى من موقعهم الهيكلي الخاص داخل العلاقات الطبقية، ومن الظروف الملموسة للصراع الطبقي.
عيوب الديمقراطية الرأسمالية
ويُشدد الكاتب على ضرورة البدء بتحديد المصالح الطبقية الخاصة بالرأسماليين تحديدًا واضحًا. ونظرًا لأن الرأسماليين – بوصفهم مجموعة يشكلون طبقة متمايزة – فمن الضروري مقاومة استخدام وصف «الأغنياء» الذي يبدو قريب الشبه، ولكنه في واقع الأمر غير دقيق تمامًا.
فالرأسماليون ليسوا «الأغنياء» ولا يُمثلون «1٪» من الأغنياء، وليسوا «نخبة الشركات». لكنهم عبارة عن مجموعة من العملاء الذين يشغلون موقعًا هيكليًا مميزًا في العلاقات التنافسية لاستخراج الفائض. وكثير من سمات السياسة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تنشأ من السلوك السياسي المميز لهذه المجموعة.
ويمضي الكاتب قائلًا: إن كل الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية الكبرى بعيدة تمامًا عن أن تكون نماذج مثالية لــ«النخبوية التنافسية» أو «الديمقراطية الرسمية». إذ تحتوي جميع هذه الأنظمة على عيوب كبيرة – مثل نظام المجمعات الانتخابية، وأنظمة الاقتراع القائمة على أساس الفوز لمن يحصد أصواتًا أكثر، ومكافآت الأغلبية الساحقة – التي تخلق فجوة بين التمثيل والتوزيع الحقيقي للآراء السياسية في المجتمع. لكن الملاحظات التالية لا زالت تنطبق على نظام التمثيل الأكثر تنظيمًا.
كيف يحكم الرأسماليون؟
يُجيب الكاتب على هذا السؤال قائلًا: يختلف الرأسماليون عن كافة الطبقات الحاكمة السابقة بسبب طريقتهم النموذجية في استخراج الفائض من المنتجين المباشرين. إذ يستولي الرأسماليون على المحصول الذي ينتجه العمال بحكم ادعائهم المدعوم قانونًا بملكية الوسائل الرئيسة للإنتاج في المجتمع.
وفي المقابل لا يستخرج الرأسماليون الفائض من المنتجين عادةً من خلال الاستخدام المباشر للوسائل السياسية (مثل التهديد، أو الممارسة الفعلية للعنف، أو من خلال الاعتماد على سلطات الدولة لإجبار المنتجين رسميًا لإنتاج الفائض). لكن الرأسماليين بدلًا عن ذلك يستخرجون فائض المنتج في عملية الإنتاج بعد التبادل الحر الرسمي للنقود مقابل قدرة العامل على العمل.
وبالتالي فإن العلاقة الطبقية المركزية التي تحدد أي مجتمع رأسمالي هي مجرد علاقة اقتصادية وليست علاقة سياسية صريحة؛ لأن الوضع الاجتماعي للرأسماليين يعتمد على الإبقاء على هذه العلاقة الاقتصادية، وهم يتمتعون بعلاقة خاصة مع السلطة السياسية (أو الدولة) بوجه عام. والنتيجة الأكثر أهمية لموقع الرأسماليين على خارطة الاستغلال هي: أن مصالحهم الطبقية الأساسية لا يلزمها السيطرة على الحكومة سيطرة مباشرة.
ويرى الكاتب أن هذا يُؤدي إلى نتيجتين سياسيتين مهمتين: أولًا وقبل كل شيء، أن الاستغلال الرأسمالي يتوافق مع تداول الإدارات الحاكمة للسلطة في الدولة، وثانيًا ليس من الضروري أن يكون هؤلاء الذين يشكلون هذه الإدارات الحاكمة هم أنفسهم رأسماليين. في واقع الأمر، فإن تصرفات غير الرأسماليين كمديرين سياسيين للرأسمالية تكون في أغلب الأحيان أفضل بكثير من الرأسماليين أنفسهم، كما تشير عدة من نظريات الدولة الرأسمالية.
وبعبارة أخرى يتوافق النظام الاقتصادي الرأسمالي مع النظام الديمقراطي الانتخابي أو الديمقراطية الرسمية – بحسب الكاتب – وبطبيعة الحال فإن الرأسمالية متوافقة أيضًا مع أنظمة الحكم السياسية الأخرى بخلاف الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، كما يتضح في عدد من النماذج التي يتواجد فيها الاستبداد السياسي جنبًا إلى جنب مع الاقتصاد الرأسمالي. لكن الرأسمالية تتميز حقًا بأنها متوافقة مع الديمقراطية الانتخابية الرسمية.
صحيحٌ أن أي طبقة اجتماعية أخرى في التاريخ تستولى على الفائض لم تسمح بوجود نظام سياسي يمنح جزءًا كبير من المنتجين المباشرين، على أقل تقدير حقهم في الاقتراع. لكن تسامح الرأسماليين مع مثل هذا النظام في كثير من الحالات نابع من تحقيقه لمصالحهم الطبقية الخاصة جدًا.
مصالح السياسية للرأسماليين
ويُضيف الكاتب قائلًا: بغض النظر عن هذا التوافق العام، توجد علاقة خاصة جدًا بين مصالح الطبقة الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، وينشأ هذا الارتباط من نوع معين من العلاقات «داخل الطبقة»، تعد سمة من سمات الرأسمالية. ونظرًا لأن الرأسماليين يستولون على فائض المنتج من خلال ملكيتهم الفردية والخاصة لوسائل الإنتاج الرئيسة، فينبغي عليهم الحصول على هذا الفائض من خلال بيع المنتجات في السوق. ويترتب على ذلك أن بعض الرأسمالين يتنافسون مع غيرهم من الرأسماليين على الحصة السوقية. وعلاوة على ذلك يسعى الرأسماليون إلى الدخول إلى خطوط إنتاج جديدة تدور حولها منافسة.
ويُنوه الكاتب إلى أن هاتين العمليتين – المنافسة داخل فروع الإنتاج، والدخول إلى خطوط إنتاج جديدة – تعني أن المصالح الاقتصادية الخاصة بالرأسماليين تتسم بقدر هائل من التباين، على عكس غيرها من الطبقات المهيمنة في التاريخ، على الرغم من أن لديهم مصلحة طبقية مشتركة أيضًا.
فعلى سبيل المثال تختلف مصالح شركات النفط ومنتجي الخلايا الكهروضوئية ومصنعي الطواحين الهوائية عن بعضها البعض، لكن اندلاع حرب شاملة يخوضها هؤلاء الرأسماليون المختلفون ضد بعضهم البعض، على غرار الحروب التي تحدث عنها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، تمنحهم جميعًا مصلحة مشتركة في الحفاظ على نظام قانوني عادل، ويتطلب الإبقاء على مثل هذا النظام تداول الإدارات الحاكمة المختلفة للسلطة داخل الدولة وخارجها.
ويخلُص الكاتب إلى أن الرأسماليين ببساطة ليسوا متسامحين مع النظام الديمقراطي الانتخابي فحسب، بل إن لديهم أيضًا مصلحة حقيقية في وجود النظام الديمقراطي الانتخابي.
حدود تسامح الرأسمالية مع الديمقراطية
إن تسامح الرأسماليين مع النظام الديمقراطي الانتخابي له حدان محددان بدقة: أحدهما مستمد من الصراع الطبقي، والآخر مستمد من الظروف الهيكلية للاقتصادات الرأسمالية، كما يقول الكاتب.
ولنستعرض المجموعة الأولى من الحدود: خلال فترات النمو الاقتصادي، ربما يقبل الرأسماليون ظهور منظمات الطبقة العاملة التي تضغط من أجل إعادة توزيع الفائض الاجتماعي على الأجور. ومع ذلك فإن توجههم مشروط تمامًا. ولم تظهر النماذج النادرة للرأسماليين الذين يتسامحون مع الحركات العمالية الجماهيرية المنظمة والأحزاب السياسية، إلا عندما خففت هذه الأحزاب من هدف تجاوز الملكية الخاصة من خلال الاستيلاء على سلطة الدولة، أو تخلت عنه تمامًا.
ويُوضح الكاتب أنه لا يوجد حتى على المدى القريب نماذج تاريخية لطبقات رأسمالية تتسامح مع الأحزاب الجماهيرية المعتمدة على الطبقة العاملة، والتي تسعى إلى إلغاء روابط الملكية الرأسمالية من خلال الاستيلاء على سلطة الدولة. وحتى في الحالات التي تواجدت فيها أحزاب من الطبقة العاملة الجماهيرية داخل النظام الرأسمالي، كان ينبغي عليهم دومًا التخلي عن أهدافهم الاشتراكية أو التخفيف من حدتها. وهذا ما كان عليه الأمر بالنسبة للديمقراطية الاجتماعية الإسكندنافية، كما ينطبق هذا أيضًا على الشيوعية الإيطالية.
وهذا الأمر له تأثير مصيري على الاشتراكيين؛ فعندما تكون حركة الطبقة العاملة، التي تناضل من أجل إرساء مبادئ الاشتراكية، على وشك تحقيق النصر في إحدى الدول، فسرعان ما يتخلى الرأسماليون عن أي التزام باق بالديمقراطية ويلجأون إلى إجراءات فرض الطوارئ.
ونتيجة لذلك لن يحدث أي انتقال للسلطة إلى الاشتراكية من دون قمع العدو الرأسمالي الطبقي. ولا يمكن أن يحدث هذا في إطار النظام الديمقراطي الانتخابي. بمعنى آخر لا يمكن أن تكون إقامة النظام الاشتراكي الديمقراطي في حد ذاته ديمقراطية بالمعنى الحرفي للانتخابات، لكنه في الوقت نفسه يجب أن يكون أكثر ديمقراطية إلى حد كبير بالمعنى التشاركي.
الظروف الهيكلية للاقتصاد الرأسمالي
سلَّط الكاتب الضوء على الحد الثاني لتسامح الرأسماليين مع النظام الديمقراطي الانتخابي والمستمد من الظروف الهيكلية للاقتصاد الرأسمالي، قائلًا: يمكن للرأسماليين كما أشرتُ آنفًا أن يتسامحوا مع حشد العمال في مقابل الحصول على امتيازات مادية في ظل بيئة توفر النمو الاقتصادي. وفي ظل هذه الظروف يُمكن للرأسماليين أن يتقاسموا مع الطبقة العاملة التي خففت من حدة مطالبها السياسية، مكاسب الكعكة الآخذة في الزيادة.
ومع ذلك فعندما يتباطأ النمو الاقتصادي، تُصبح محصلة المنافسة على تلك الكعكة بين الرأسماليين والعمال على نحو متزايد صفرية. وفي الوقت نفسه يُصبح الصراع أيضًا أكثر حدة بين الرأسماليين أنفسهم. وفي مثل هذه البيئة تظهر إستراتيجيات «الرابح يأخذ كل شيء»، ويُصبح الرأسماليون أكثر عزوفًا عن تقاسم المكاسب الزهيدة من الازدهار الاقتصادي.
والأكثر من ذلك عندما يتباطأ النمو، يبدأ الرأسماليون في التحوُّل من إستراتيجية الاستثمار في وسائل الإنتاج إلى إستراتيجية استخدام الوسائل السياسية لزيادة حصتهم من الفائض. ويمكن أن تتخذ هذه الإستراتيجية البديلة عدة أشكال مختلفة، بداية من نشر قوات الشرطة لإخراج السكان من منازلهم لأنهم لم يدفعوا الإيجارات المستحقة عليهم، ومرورًا باستخدام التشريع لجعل مصالح رأس المال الاقتصادي قبل مصالح المدينين، أو ضمان تفوق الرقابة الاحتكارية على حقوق الملكية الفكرية.
ويلفت الكاتب إلى أن كل هذه التطورات – الاقتراب أكثر فأكثر من المحصلة الصفرية لنسب التوزيع بين الطبقات، وداخل الطبقة الرأسمالية نفسها – تُخلِّف آثارًا بالغة الضرر على الآلية الليبرالية الديمقراطية، التي تتطلب «التسامح» والاستعداد لقبول شرعية ما تسفر عنه الانتخابات على أي حال.
ماذا يعني الأمر برمته؟
يُؤكد الكاتب على أن الرأسماليين على مر التاريخ هم الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي تستولي على الفائض، وتتسامح مع النظام الديمقراطي الانتخابي القائم على حصول نسبة كبيرة من الطبقة المعرضة للاستغلال على حق الاقتراع الواسع. وبسبب موقعهم المميز في استخراج الفائض، يمكن للرأسماليين أن يتسامحوا مع الإدارات الحاكمة المتعاقبة، ومع وجود غير الرأسماليين على رأس الدولة. لكن تسامحهم مع النظام الديمقراطي الانتخابي يظل محدودًا ومشروطًا على نحوٍ صارم.
وفي ختام مقاله، يشير الكاتب إلى عدم وجود حالات تاريخية لرأسماليين تسامحوا مع نتيجة الانتخابات التي قد تهدد الملكية الرأسمالية. بالإضافة إلى ذلك، وفي ظل تزايد ركود الاقتصاد العالمي وانخفاض معدلات الاستثمار في المصانع والمعدات في شتى المجالات، بدأ صراع محصلته صفرية يطل برأسه، سواء بين الرأسماليين بعضهم البعض، أو بين الرأسماليين والمنتجين.
وأيًا كان ما يمكن أن ينطوي عليه تعرض الاشتراكية الديمقراطية الناهضة والرأسمالية لأزمة، فإن ذلك لا يُبشِّر بخير بالنسبة لمستقبل النخبوية التنافسية. أما إمكانية أن يُسفر ذلك عن إقامة نظام اشتراكي ديمقراطي يتجاوز الرأسمالية، فهي مسألة مختلفة تمامًا.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».