بينما تنفتح مصر دبلوماسيًا على روسيا والصين، لا زالت تحافظ على علاقاتها المحورية مع الولايات المتحدة ودول الخليج العربي.

نشرت مجلة «فورين بوليسي» تقريرًا تتناول فيه الدور الصيني في دعم مصر اقتصاديًا، والتقارب المصري معها، ومع روسيا؛ مشبهة ما تفعله مصر الآن بما كانت تفعله إبان الحرب الباردة، من لعب على حبال القوى العالمية دون إغضاب أيّ من تلك القوى.

في بدايته يقول التقرير إن الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر – الذي كان أحد الفاعلين في الحرب الباردة – لم يكن يمانع مناطحة الدول القوية؛ ففي عام 1955، وبعد أن ملّ من المماطلة الأمريكية في صفقات السلاح، صدم عبد الناصر دول الغرب بالتقرب من الاتحاد السوفيتي، وشراء المعدات العسكرية عن طريق تشيكوسلوفاكيا، وأثار مخاوف تلك الدول من سباق التسلح في الشرق الأوسط.

بعد ستة عقود من تلك الخطوة، لا زالت القاهرة تبحث عن أفضل صفقة سياسية ممكنة، فبينما تنفتح دبلوماسيًا على روسيا والصين، لا زالت تحافظ على علاقاتها المحورية مع الولايات المتحدة ودول الخليج العربي.

هل تحل روسيا محل الولايات المتحدة؟

تخلت القاهرة عن حلفائها القدماء في سعيها لتدعيم العلاقات مع المؤسسة العسكرية الروسية

كما كانت في عهد عبد الناصر، لا تزال القيادة المصرية محبطة من الولايات المتحدة. بدأ برود العلاقة بينهما أثناء عهد أوباما، الذي رفض دعوة السيسي لزيارة واشنطن بسبب اتهامات بانتهاكات ضد حقوق الإنسان. زار السيسي بعدها البيت الأبيض عندما جاء ترامب، لكن سياسة الإدارة الأمريكية تجاه مصر لا تزال غير واضحة على المدى البعيد.

يضيف التقرير أن الكونجرس اشتكى من تراجع ملحوظ في العائد الذي تناله الولايات المتحدة من القاهرة في مقابل المليارات التي وفرتها أمريكا على مر العقود الماضية، ومَنع 100 مليون دولار من الدعم العسكري عنها في أغسطس (آب) من العام الماضي، بدعوى صدور قانون جديد يقيّد عمل المنظمات غير الحكومية.

لقاء الرئيس المصري مع الرئيس الروسي أثناء قمة البريكس العام الماضي. المصدر: الكرملين

فتحت هذه التوترات أبوابًا جديدة لروسيا والصين. ردت موسكو على التوتر بين السيسي وأوباما، وأثارت الدهشة – بحسب تعبير المجلة – بعقد اتفاقات للتعاون وصفقات أسلحة ضخمة مع القاهرة. أما المال الصيني، فكان يصب في الاقتصاد المصري بشكل مطّرد، وبجلبة أقل من الروس، منبئًا بتطور جاد في اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» التي عقدتها البلدان في 2014.

زادت قوة العلاقات المصرية الروسية في الجانب العسكري تحت حكم السيسي، وهو المشير السابق الذي قاد انقلابًا ضد محمد مرسي – أول رئيس مصري ينتخب ديمقراطيًا – في يوليو (تموز) عام 2013. بدأت الدولتان في عقد مناورات بحرية وعسكرية مشتركة في يونيو (حزيران) عام 2015. كما انتشرت تقارير صحفية في نهاية 2017 عن مفاوضات حول اتفاقية تسمح لكل دولة باستخدام القواعد العسكرية للأخرى.

شكّل السيسي أيضًا مصدرًا للدعم العربي لمغامرات بوتين في سياسته الخارجية في الشرق الأوسط؛ فمنحت القاهرة غطاءً دبلوماسيًا للدعم الروسي للديكتاتور السوري المحاصر بشار الأسد، كما تزعم تقارير أنها كانت قاعدة للقوات الروسية التي دعمت القائد العسكري خليفة حفتر – المعادي للإسلاميين – في ليبيا.

وفي أوقات أخرى تخلت القاهرة عن حلفائها القدماء في سعيها لتدعيم العلاقات مع المؤسسة العسكرية الروسية. أغضبت مصر السعودية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2016، عندما صوتت لصالح مسودة قرار حول سوريا في مجلس الأمن، كانت روسيا قد أعدتها وعارضتها السعودية. وفي شهر مايو (أيار) الماضي، أشاد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بمصر لرفضها طلبًا أمريكيًا بإرسال جنود إلى سوريا.

كانت مكافأة مصر سلسلة من صفقات السلاح الروسي، والتي أصبحت محورية في علاقة القاهرة تجاه موسكو، بحسب مردخاي كزيزا، العالم السياسي الإسرائيلي في الكلية الأكاديمية بعسقلان. في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تتمنع عن توفير الدعم العسكري، كان الكرملين يتقدم لملء الفراغ، فوقعت روسيا صفقة أسلحة بقيمة 3.5 مليار دولار مع مصر في 2014، وباعت لها معدات عسكرية بقيمة مليار دولار في العام الماضي فقط.

اشتدت أيضًا الروابط الاقتصادية بين البلدين؛ إذ اتفقتا على إنشاء منطقة صناعية روسية في منطقة قناة السويس، توفر فيها روسيا استثمارات ضخمة في مقابل شروط ميسرة. كما وافقت روسيا على تمويلها وإشرافها على إنشاء محطة للطاقة النووية بقيمة 21 مليار دولار بالقرب من مدينة العلمين. لا زال المشروع في بداياته، لكن الحكومة المصرية تتوقع أن تبدأ المنشأة في العمل في 2026.

لكن، وعلى الرغم من هذه الخطط، تعوق مشاكل روسيا الاقتصادية قدرتها على تكوين نفوذ اقتصادي قوي في مصر. يقول تيموثي قلدس، الباحث في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: إن كل المحاولات لعقاب الولايات المتحدة بالتقرب من بوتين قد فشلت، ويضيف لـ«فورين بوليسي»: «لقد بالغ المصريون في تقديرهم لحجم الإزعاج الذي قد يسببونه، فالأمريكيون يعلمون أن روسيا لا يمكن لها أن تحل مكانهم أو مكان الخليج؛ ﻷنها فعليًا مفلسة».

الصين التي لا تفلس.. حليف مصر الاقتصادي

الصين، وهي بلد بعيد كل البعد عن الإفلاس، تتفوق بشكل كبير على روسيا في أهميتها الاقتصادية بالنسبة إلى مصر

صارت بكين أكبر شريك اقتصادي لمصر منذ 2012؛ إذ شكّلت 13% من قيمة واردات مصر خلال العام الماضي فقط، وهو ضعف ما تمثله الواردات من ألمانيا، والتي تأتي في المركز الذي يلي الصين. استفادت حكومة السيسي من موقع مصر الاستراتيجي بشكل رئيس لتدعم التقارب مع الصين. يقول جون شن، الباحث في العلاقات الصينية – الشرق أوسطية في جامعة كولومبيا: إن «قناة السويس هي ما تجعل مصر استثنائية بالنسبة للصين».

يوضح التقرير أن قناة السويس تقع في قلب طريق الحرير البحري، وهو أحد أعمدة مبادرة «حزام واحد.. طريق واحد» التي يسعى الرئيس الصيني شي جين بينج لأن تشمل الجميع. بدأت المبادرة في البداية لتكون مشروعًا يصل أوروبا وآسيا، قبل أن تتوسع لتصبح مصطلحًا شاملًا لمجمل سياسة الصين الخارجية، لكن الفكرة الأصلية لطريق الحرير البحري كانت تتركز على طرق الشحن بين أوروبا والصين. بحسب ما قاله مسؤول مصري لوكالة الأخبار الصينية الرسمية، فإن الصين هي أكبر مستثمر حاليًا في منطقة قناة السويس، وتعمل المجموعة الصينية «تيدا» على تطوير منطقة اقتصادية خاصة هناك.

الرئيس المصري ووفد بلاده في زيارة للصين – سبتمبر 2016

يعود التقرير إلى جون شن، والذي يقول إن مصر حاولت إثبات نفعها السياسي للصين بطرق أخرى. في مايو 2017، طلبت حكومة شي عودة طلابها الإيغور، وهم أبناء الأقلية المسلمة في منطقة شنيانج، في أقصى غربي الصين. لبّت حكومة السيسي الطلب بحماس، وجمعت المئات من طلاب الإيغور الذين كانوا يدرسون في جامعة الأزهر لترحيلهم. بشكل شبه أكيد، أرسل هؤلاء الطلاب فور رجوعهم إلى المعسكرات الصينية الضخمة التي تحتجز فيها الإيغور.

في المقابل بدأت الصين في ضخ العملات الأجنبية في الاقتصاد المصري المتهاوي. في 2016 كانت الأرقام الرسمية المصرية تضع الصين في المرتبة 23 بين الدول ذات الاستثمار المباشر في مصر منذ 1970، إلا أن هذا تغير كثيرًا، وأصبحت أموال الصين تمول قطاعًا عريضًا من المشاريع الكبرى التي تقوم بها الدولة المصرية.

أكبر هذه المشاريع هي العاصمة الإدارية الجديدة، وهي خطة حكومة السيسي الطموحة لنقل المركز السياسي للبلاد إلى شرق القاهرة. قابل هذا المشروع الإنشائي الضخم فتورًا من المستثمرين الأجانب بعد الإعلان عنه في 2015، لكن الصين وعدت بتمويله، ووافقت البنوك الصينية على إقراض مصر الجزء الأكبر من 3 مليارات دولار هي تكلفة المنطقة التجارية المركزية في العاصمة، بينما تستعد شركة «تشاينا فورتشن لاند ديفلوبمنت» لاستثمار 20 مليار أخرى في المدينة نفسها. كما استثمرت الصين خارج العاصمة الإدارية الجديدة في مشاريع متنوعة للدولة المصرية، بما في ذلك تشييد مشروع القطار المكهرب في القاهرة، وتحديث صناعة النسيج.

وعلى الرغم من النفوذ الاقتصادي، لا تتوقع المجلة أن تصبح الصين قوى مسيطرة في مصر على المدى القريب؛ إذ لا تزال الولايات المتحدة تحظى بتأثير قوي على صناع القرار المصريين الهامين. تدين مصر بفضل كبير لداعميها الخليجيين، وتحديدًا السعودية والإمارات، وتشير التقديرات إلى أن الأموال السعودية وصلت إلى 25 مليار في الفترة ما بين 2014 و2017، في شكل مساعدات واستثمارات. فعندما اشترت مصر الأسلحة الروسية، اعتمدت على التمويل السعودي والإماراتي لفعل ذلك.

هل يدوم صمت الحلفاء القدامى؟

تشير عملية التقارب الأخيرة مع روسيا والصين إلى أن النظام الحالي في مصر قد ورث – على الأقل – بعض ذكاء عبد الناصر

في الوقت الحالي تبقي حكومة السيسي على علاقتها مع الولايات المتحدة بالتزامها بمحاربة الإرهاب. وفي يوليو (تموز) الماضي، رفعت الولايات المتحدة الحظر المفروض على 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية، برغم الانتقادات الحقوقية المستمرة، وقال مصدر في الخارجية الأمريكية لـ«رويترز»: «إن الحفاظ على العلاقات الأمنية المتبادلة ساعد في إلغاء هذا الإجراء».

لكن حلفاء القاهرة القدامى قد لا يصمتوا على العلاقات الصينية المصرية إن انتقلت إلى ما هو أبعد من طبيعتها الحالية ذات الاتجاه الاقتصادي. أعلنت مصر في 2016 عن لقاء مع مسؤولين صينيين لدعم التعاون العسكري بين البلدين، ولم ينتج أي تقدم ملحوظ في تلك المحادثات حتى الآن. إن تغير هذا فربما تواجه القاهرة تدخلًا دبلوماسيًا، بحسب تيومثي قلدس، ولن يكون من الولايات المتحدة فقط، بل من اليابان، وهي مصدر آخر مهم من مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر. يضيف قلدس: «إذا أصبحت الصين أكثر عدائية في شرق آسيا، وأكثر طموحًا في مصر، فلربما تضطر اليابان وقتها لاستخدام نفوذها للتأثير على مصر».

تقول المجلة إن الزعماء المصريين مؤهلون بدرجة كبيرة للقيام بمثل هذه المناورات الدبلوماسية، وموازنة مصالح حلفائهم -التي عادة ما تكون متضاربة – للحصول على أقصى فائدة، فمثلما فعل عبد الناصر عندما تلاعب بالقوتين الكبيرتين أثناء الحرب الباردة، يصف السيسي الهدف العام من سياسته الخارجية بأنه «تدعيم علاقة القاهرة بالقوى العالمية في ظل الحفاظ على استقلالية عملية صنع القرار في مصر».

تشير عملية التقارب الأخيرة مع روسيا والصين إلى أن النظام الحالي في مصر قد ورث – على الأقل – بعض ذكاء عبد الناصر في استيعابه للقدر المناسب؛ مما يمكن لمصر فعله مع القوى الكبرى إقليمية كانت، أو عالمية. يختم التقرير بما يقوله قلدس: «لطالما فعل المصريون الأمر نفسه، ولم يصبهم ضرر».

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد