ما بدأ تحت شعار «ما أملكه فهو لك»، أصبح الآن يرفع شعار «ما تملكه فهو لي». تحت هذا العنوان، يشرح لنا «طوم سلي» مثالب الاقتصاد التشاركي، وما آل إليه في الأعوام الأخيرة، في كتابه What's Yours Is Mine: Against The Sharing Economy.

السحر المحمول.. الرفيق الأوفى.. المهرب الأسمى من الواقع إلى الواقع.. كثيرٌ ما قاله العظماء عن الكتاب، لكنّني أقتبس هنا ما قاله «ويليام ستايرون»: «الكتاب العظيم يجب أن يترك لك الكثير من الخبرات، ويُشعرك بالإرهاق الخفيف مع نهايته. فأنت تعيش عدّة حيواتٍ أثناء القراءة».

ولأننا في حاجة إلى أن نرى العالم بعيون أخرى، تُقدّم لكم «مكتبة ساسة» كل سبت لمحة عن كتاب جديد أو ورقة بحثية جديدة، وحياة جديدة نختبرها سويًا، من تلك التي لم تُترجم بعد إلى المكتبة العربية.

الاقتصاد التشاركي. ربّما ليس المصطلح مألوفًا بالنسبة للكثيرين، لكنّه صار جزءًا من حياتهم، اعتادوه وألفوا وجوده. بضغطةِ زر، يطلب المستخدم سيارة عن طريق تطبيق «أوبر» Uber لتوصله في المساء، ومن أي مكان إلى أي مكانٍ يرغب فيه. وفي بلد يعاني من سوء تنظيم خدمات النقل والمواصلات العامة والخاصة، فرضت «أوبر» Uber نفسها مخلّصًا ومنقذًا للكثير من المستهلكين الراغبين في خدمة أفضل.

لكن فكرة الاقتصاد التشاركي، والتي قامت على الكثير من المبادئ المجتمعية المشجّعة على أهمية مشاركة الموارد والخدمات، انحرفت كثيرًا عن مسارها. وما بدأ تحت شعار «ما املكه فهو لك»، أصبح الآن يرفع شعار «ما تملكه فهو لي». تحت هذا العنوان، يشرح لنا «طوم سلي» مثالب الاقتصاد التشاركي، وما آل إليه في الأعوام الأخيرة، في كتابه What’s Yours Is Mine: Against The Sharing Economy.

لكن ما هو الاقتصاد التشاركي؟

للمصطلح عدّة معانٍ، لكن الأقرب إلى التطبيق العملي يعرّف الاقتصاد التشاركي، باختصار، بأنّه نظامٌ أو نموذج اقتصادي يقوم على مشاركة الممتلكات والأصول البشرية والمادية. أبرز مثالين هما «أوبر» Uber، تطبيق يتوسّط بين ملّاك السيارات والباحثين عن توصيلة؛ و «إيربنب» Airbnb الذي يصل بطريقة مماثلة أصحاب العقّارات المستعدّين لتوفير غرفة في المنزل – أو المنزل بأكمله – بالسيّاح الراغبين في إقامة قصيرة ربّما لا تتجاوز بضعة أيام.شركاتٌ أخرى دخلت عالم الاقتصاد التشاركي وحققت نجاحًا، مثل «تاسك رابيت»  TaskRabbit للمهام البسيطة، و«هوم جوي» HomeJoy لأغراض التنظيف المنزلي.

يقول «طوم» في مقابلة مع موقع «ذا ريجيستر» The Register البريطاني: إنه يستخدم مصطلح الاقتصاد «التشاركي» على مضض. يعترف «طوم» بمبادئ المُشاركة والتعاملات غير التجارية التي ربما قامت عليها هذه الأفكار في البداية، في محاولة لكسر احتكار الشركات العملاقة للسلع والخدمات، لكن هذه الأفكار ضلّت طريقها مع تضخّم حجم هذه الشركات، وسعيها إلى احتكار السوق في مواجهة خدمات النقل والمواصلات أو الإسكان التقليدية.

وما الضّير في المشاركة؟

لا ضير؛ إن كانت مشاركة حقيقية، لكن الواقع يفنّد ذلك. فالشركة، مع أن قيمتها السوقية المتوقّعة قد تتجاوز مليارات الدولارات، إلا أنّها فعليًا ليس لديها الكثير من الممتلكات الثابتة. شركة Uber لا تُعامل سائقيها باعتبارهم موظّفين، وإنما متعاقدين مستقلّين، وهو ما يعفيها من منحهم الكثير من الحقوق التي يقرّها القانون لموظفي الشركات، ومن ضمنها المعاشات والإجازات المدفوعة، والتأمينات الصحّية وغيرها. موظّفو Uber، التي تصرّ على أنّهم ليسوا موظّفيها، لا يتمتعون بأي حقوقٍ أو حماية تقريبًا.

ومع هذا، تطلب الشركة منهم الكثير من الالتزامات، طبقًا للمحامية الأمريكية «شانون ليس ريوردان»، التي تترافع حاليًا أمام إحدى المحاكم الأمريكية في قضية متعلّقة بحقوق الموظفين في هذه الشركات. تشترط Uber على السائقين قبول 90% من التكليفات، وأن يبقى تقييمهم أعلى من نقطةٍ معينة، مع الاحتفاظ بحقها في «تعطيل» من تشاء من السائقين.

هكذا تتمتّع Uber بالعديد من الموظفين بدوامٍ جزئي، وتتحصل على 20% من أجرة التوصيل (قد ترتفع على 30%)، دون الحاجة إلى الوفاء، إلا بأقل القليل من الالتزامات، بالمقارنة مع شركات سيارات الأجرة التقليدية. شركة أخرى هي «هاندي» Handy، والتي رفع اثنان من عاملي النظافة السابقين بها دعوى قضائية في 2014، تتهمها بعدم الوفاء بالحد الأدنى للأجور، بالإضافة إلى انتهاكات أخرى ضد العمال، في الوقت نفسه الذي تفرض الكثير من المتطلبات عليهم، ومن ضمنها إصدار تعليمات لهم بكيفية استعمال دورة المياه.

تهجير للسكّان المحليين

أمّا Airbnb، فتأدية الخدمة لا تحتاج إلى موظفين، لكن ارتفاع سعر إيجار الوحدات السكنية من خلال التطبيق، بالمقارنة مع ما يدفعه المستأجرون الدائمون، أدى إلى طرد العديد من ملّاك الوحدات السكنية للمستأجرين؛ بسبب مخالفة تافهة أو لأي سببٍ مصطنع، وإتاحتها بالكامل للاستئجار على التطبيق. وهو ما يبتعد بالتطبيق عن هدف «مشاركة» الوحدات السكنية، بل تذهب أغلب الأرباح إلى كبار ملّاك العقارات، وليس الساعين إلى زيادة دخلهم وتوفية احتياجاتهم المادية، كما تباهت الشركة مرارًا. يكتشف «طوم» أنّ أغلى وحدات Airbnb السكنية في روما هي ملكٌ لأحد رواد الأعمال التقنية الأمريكيين، والذي ابتاعها إلى جانب عدة وحداتٍ أخرى من أرباح بيع شركته الأخيرة.

تكرر هذا النمط في مدن مثل سان فرانسيسكو وأمستردام. برشلونة الإسبانية تعاني من وفودٍ سياحية تبلغ أضعاف السكان المحليين، وما يترتب عليه هذا من ارتفاع مستوى المعيشة في المنطقة، وعدم قدرة الطبقات المجتمعية الأدنى على تحمل تكلفة العيش فيها، ومن ثم يضطرون إلى مغادرتها.

«ليست مسئوليتنا»

سواءً كنت ستركب مع أحد سائقي Uber، أو تستأجر غرفة أو وحدة سكنية عن طريق Airbnb، أو تطلب شخصًا لينظّف منزلك من HomeJoy، فإن الأمر لا يخلو من مخاطرة. يمكن أن تقع الكثير من الحوادث، أو الاعتداءات. وفي حالة حدوثها، لا قدر الله، لابد من تحديد الجهات أو الأشخاص المسئولين، لمحاسبتهم.

هنا نجد أن شركات الاقتصاد التشاركي لا تبعد نفسها عن تملّك الوحدات أو توظيف العمّال وفقط، وإنما تُنكر مسئوليتها كذلك عن كافة الحوادث التي يمكن أن تقع حال استخدامك للتطبيق، ملقية باللوم الكامل على السائقين، أو ملّاك الوحدات، بل أحيانًا على المستخدمين أنفسهم، كما صرّح متحدّث رسمي باسم شركة Uber، إذ ألقى ببعض اللوم على «سوء الحظّ»، وطالب المستخدمين بالتحقق من مطابقة البيانات الموجودة على التطبيق الخاص بأرقام لوحة السيارة وسائقها.

وقد يدفع البعض بأن نظام التقييمات يُغني عن الإدارة الفاعلة النشطة للموظّفين أو الممتلكات، طالما أن التقييمات السيئة ستنهال على أصحاب الخدمات السيئة، ومن ثم سيتم تنقية النظام منهم تلقائيًا مع الوقت، لكن العديد من الدراسات رجّحت أن المستخدمين لا يميلون إلى إعطاء تقييمات أقل من 4 نجوم، حتى في حالة عدم رضاهم الكامل عن الخدمة، لذا تجد تقييمات سائقي Uber تتراوح بين 4 و 5 دائمًا.

«لكن الإحصاءات تقول إن Uber رائعة!»

لأنّها إحصاءات Uber. الشركات الخاصة يحق لها عدم الكشف عن أي معلوماتٍ متعلقة بعملها، لكن Uber تتفضل بين الحين والآخر بكشف بعض الإحصائيات. في 2014 ادّعت Uber أن سائقيها في نيويورك يتقاضون 90 ألف دولار في العام الواحد. وهو الزعم الذي تتبعه صحفيون أمريكيون مثل «أليسون جريسوولد»؛ ليكتشفوا ما يُسمّى بالإصدار الاختياري للبيانات.

وفقًا لـ«طوم»، لم يكن الأمر كذبًا صريحًا. هم فقط انتقوا مدينة نيويورك، التي يجني السائقون فيها مالًا أكثر بكثير من باقي المدن. وانتقوا متوسط ربح شريحة معينة من السائقين؛ هؤلاء الذين يعملوا «لأكثر» من 14 ساعة أسبوعيًا (وأكثر قد تكون أكثر بكثير من 14 ساعة). أيضًا فإن الدخل الذي أعلنت عنه Uber هو الدخل الإجمالي، وليس صافي الدخل. يعني هذا أنّ نفقات السائقين، ومن ضمنها التأمين والصيانة والوقود على مدار العام، غير محسوبة.

ألاعيب رأسمالية

أيضًا فإن الشركات التي خرجت في البداية لتصبح بديلًا «يوتوبيًا» عن الشركات العملاقة، أصبحت مع الوقت شركات عملاقة هي نفسها تتصرّف وتفكّر كالشركات العملاقة. تمارس شركتي Uber وAirbnb لعبة مألوفة مارستها شركات أخرى من قبل: ما زالت الشركتان ملكية خاصة، أي لم يتم طرح أسهمهما في البورصة بعد. يوفّر هذا للشركتين الكثير من المرونة، ويحميهما من متاعب الرقابة المالية والإدارية من قِبل حملة الأسهم. ولحين الطرح العام، تُصارع الشركتان لتأمين أكبر حصة سوقية ممكنة، ربّما بلا اكتراث للأرباح في الوقت الحالي.

في سبيل هذا، سعت الشركتان إلى التهرّب من دفع الضرائب في البداية، لكن صراعاتٍ عدة أدّت في النهاية إلى إجبارهما على دفعها. بعدها لجأت شركة Uber إلى تفادي دفع الضرائب عن أرباحها خارج الولايات المتحدة، باستخدام عدّة شركات فرعية وملاذات ضريبة، ومن ضمنها Uber BV في هولندا. في المقابل، يدفع مستخدم خدمة التاكسي التقليدي، وسائق التاكسي، والشركة التي يعمل لديها الكثير والكثير من الضرائب، ولا يختلف هذا بخصوص الفنادق في حالة Airbnb.

يُضعف هذا الأعمال التقليدية كثيرًا في مواجهة شركات الاقتصاد التشاركي، كما إنه لا يمدّ الاقتصاد المحلي بالضرائب اللازمة لصيانة المرافق العامة المحلية التي تستهلكها هذه الشركات. تمامًا مثل Amazon قبل أعوام، التي تفادت دفع الضرائب لفترة طويلة، وأثارت سخط أصحاب المتاجر التقليدية. لهذا يشبهها «طوم» بطفيلٍ يتغذى على الاقتصادات المحلية ويُضعف نموّها.

شركات الاقتصاد التشاركي جاءت لتبقى. تدفع بنموذجها باعتباره المستقبل الذي جاء ليزيح شركات التاكسي «الشريرة»، كما نعتها مدير Uber التنفيذي «ترافيس كالانيك». وتكرّس كل مواردها، وتحشد خلفها السياسيين وشركات الضغط السياسي على المستويين المحلي والدولي من أجل خوض معركتها مع السلطات الديمقراطية المنتخبة  في سان فرانسيسكو ونيويورك وبرشلونة وأمستردام، وتهيئة المناخ المحلي لاستقبال شركات «المستقبل»، بغضّ النظر عن التوابع الاقتصادية والاجتماعية.

في المقابل، هناك محاولات لحشد الجهود من أجل مواجهة لا تنظيمية هذه الشركات، والعمل على تقنينها لحماية المستهلكين والعاملين والمجتمع؛ تحالفات مثل «شارك أفضل» Share Better، التي نشأت في نيويورك وسان فرانسيسكو لمناهضة تأثير Airbnb الضار على الاقتصاد المحلي. سائقو Uber في سياتل نجحوا في الضغط لإنشاء نقابة خاصة بهم تحمي حقوقهم.

لا يبدو «طوم» معاديًا لفكرة الاقتصاد التشاركي من جذورها، وإنما يطالب بمزيد من التنظيم الذي يحفظ حقوق العمال، ويراعي الاحتياجات والمتطلبات المختلفة للأسواق المحلية. في صورتها الحالية، تبدو هذه الشركات أقرب إلى عمالقة تستغل ممتلكات وجهود البشر؛ من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح، وتفادي أكبر قدر ممكن من المسئولية تجاه المجتمع. وبالتأكيد، لم يكن هذا هو الهدف الأصلي لروّاد الاقتصاد التشاركي والمؤمنين به.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد