نظرًا إلى أن الاستسلام غير المشروط كان يتعارض تعارضًا مباشرًا مع المبادئ اليابانية، فما الذي كان سيحدث لو رفضت القيادة العليا لليابان في الأربعينيات من القرن الماضي الاستسلام لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟ هذا ما يُسلِّط عليه الضوء مارك جريمسلي، أستاذ التاريخ الأمريكي في جامعة أوهايو ستيت الأمريكية، موضحًا حجم النتائج المترتبة على ذلك في مقاله المنشور في موقع «هيستوري نت» الذي يهتم بالكتابة عن التاريخ.
في بداية مقاله، يشير الكاتب إلى أنه بحلول صيف عام 1945، كانت اليابان قد خسرت الحرب وفقًا لكل المعايير المنطقية، إذ تمكنت القوات الأمريكية من تدمير الأسطول البحري الياباني، واخترقت دفاعات جزيرتها وضيقت على اقتصادها، وألقت بالقنابل الحارقة على مدنها. ومع ذلك، تعاملت الحكومة اليابانية مع مسألة الاستسلام بذعرٍ شديد، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن أيَّ خطوة نحو إعلان الاستسلام كان من المحتمل أن تؤدي إلى حدوث انقلابٍ عسكري في البلاد.
وبالفعل، حدثت محاولة الانقلاب على القيادة العليا لليابان، وعلى الرغم من أن الأمريكيين لا يعرفون عنها إلا قليلًا، فقد كان معظم اليابانيين على دراية بالحادثة بفضل الفيلم الذي أُنتِج في عام 1967 بعنوان «أطول يوم في اليابان»، «Japan’s Longest Day»، والذي يُبث عادةً بالتزامن مع ذكرى استسلام اليابان.
يتحدث مضمون الفيلم عن جهود زمرة شباب من ضباط الجيش لإقناع عدد من القادة الرئيسين للجيش بإطاحة الحكومة اليابانية ومواصلة الحرب. وكانت شخصية الفيلم المحورية هو الجنرال كوريشيكا أنامي، وزير الجيش الياباني، الذي تعاطف مع ضباط هيئة الأركان لكنه منع وقوع الانقلاب في نهاية المطاف. لكن ماذا لو قرر أنامي الانضمام إلى الانقلاب بدلًا من عرقلته؟
استسلام الإمبراطور هيروهيتو و«القرار المقدس»
يوضح الكاتب أن أنامي عارض بشدة، فكرة الرضوخ لمطلب الحلفاء باستسلامٍ غير مشروط، حتى بعد الأحداث المدمرة التي وقعت في أوائل أغسطس (آب) 1945، مثل القصف الذري على مدينة هيروشيما في يوم 6 أغسطس، ومشاركة الاتحاد السوفيتي في حرب المحيط الهادئ في 8 أغسطس، والقصف الذري على مدينة ناجازاكي في 9 أغسطس.
وفضَّل أنامي ومعه عضوان آخران في المجلس الأعلى للحرب الياباني مواصلة القتال، ليس على أمل الفوز في الحرب، ولكن لإلحاق الأضرار بالعدو للدرجة التي تكفي لتحقيق استسلام تفاوضي من شأنه أن يحافظ على السيادة الوطنية اليابانية، وكرامة الإمبراطورية. بينما فضَّل النصف الآخر من المجلس الأعلى للحرب الياباني، وهم وزير الخارجية ووزير البحرية ورئيس الوزراء كانتارو سوزوكي، الاستسلام.
توقيع اليابان على اتفاق الاستسلام
وفي نهاية المطاف، وفيما أصبح يُعرف باسم «القرار المقدس»، ألقى الإمبراطور هيروهيتو بأهميته المعنوية دعمًا لهؤلاء الذين فضَّلوا الاستسلام. وفي 10 أغسطس، أعلنت الحكومة اليابانية قبولها مطلب الحلفاء بالاستسلام غير المشروط، مع «الاتفاق» على أن هذا الاستسلام «لا يتضمن أي طلب يُخِل بصلاحيات جلالة الملك بصفته حاكمًا ذا سيادة». وبعد يوم واحد فقط، جاء رد الحلفاء على شرط الحكومة اليابانية بأنه منذ لحظة إعلان الاستسلام «ستخضع سلطة الإمبراطور والحكومة اليابانية لحكم القائد الأعلى للحلفاء»، وهو التعبير الذي كان في أحسن تفسيراته غامضًا بشأن الحفاظ على السيادة الوطنية اليابانية.
الانقلاب على «الانهزاميين»
يلفت الكاتب إلى أنه على الرغم من أن الحكومة اليابانية حاولت إبقاء المفاوضات مع الحلفاء طيَّ الكتمان، فإنه سرعان ما اكتشفها ستة من الضباط الذين يتقلدون مناصب مهمة داخل المكتب العسكري لوزارة الجيش الياباني. ووضعوا خطةً لعزل الحكومة القائمة وقتئذ ونقل السلطة الحقيقية مباشرةً إلى قبضة الجيش، تحت قيادة وزير الجيش الجنرال أنامي. ولم ينظر الضباط إلى أنفسهم بوصفهم خائنين للإمبراطور، بل عدوا الإمبراطور مخدوعًا ومضلَّلًا من «الانهزاميين» الموجودين في المناصب العليا، واعتقدوا أن واجبهم الأعلى يتمثل في ضمان تحقيق السيادة الوطنية اليابانية.
واعتمدت خطة الضباط على تعاون فرقة الحرس الإمبراطوري، التي كانت تحمي القصر، تحت قيادة الجنرال تاكيشي موري وجيش المنطقة الشرقية، الذي كان يُسيطر على العاصمة اليابانية طوكيو وضواحيها، تحت قيادة الجنرال شيزويتشي تاناكا. وكان حصول المنقلبين على الدعم أمرًا حاسمًا بالغَ الأهمية في معركتهم. وكانت فرصتهم ستتحسن أيضًا إلى حد كبير إذا تمكنوا حينئذ من الحصول على دعم أنامي ورئيس أركان الجيش يوشيجيرو أوميزو.
ويضيف الكاتب أنَّ المخططين للانقلاب اتصلوا بأنامي في يوم 12 أغسطس، والذي تمكن من تأخير تنفيذ الخطة لمدة 24 ساعة حاسمة. وخلال ذلك الوقت، حذَّر موري وتاناكا (قائدا الفريقين) بهدوءٍ من إمكانية حدوث تمرد، وقررت حكومة سوزوكي، التي انضم إليها الإمبراطور، الاستسلام دون مزيدٍ من المفاوضات.
بيد أن موقف أنامي تجاه المخططين للانقلاب كان متعاطفًا جدًّا لدرجة أن معظمهم اعتقدوا أنه قد يقف إلى جانبهم، وجعلوا خطتهم قيد التنفيذ. وفي يوم 15 أغسطس، تواصل المتآمرون مع الجنرال تاكيشي موري، وعندما وجدوه عنيدًا في موقفه ورافضًا الخطة، أطلقوا عليه النيران وأصدروا أوامر مزيفة عليها توقيعه.
وأحاطت عناصر من فرقة الحرس الإمبراطوري بالقصر وعزلوا الإمبراطور هيروهيتو، وبعد ذلك، دخل الجنود مكاتب وكالة رعاية القصر الإمبراطوري وعبثوا بها دون جدوى بحثًا عن الوثائق المسجِّلة للمرسوم الإمبراطوري بالاستسلام. وفي الوقت نفسه، علم الجنرال شيزويتشي تاناكا بأفعالهم وتوجَّه إلى القصر بسرعة، وقضى على المؤامرة في مهدها من خلال فضح الأوامر المزعوم إصدارها من موري مؤكدًا أنها مزيفة، ومن ثمَّ قتل المخططون للانقلاب أنفسهم.
لكن.. ماذا لو انضم قائد الجيش إلى المتآمرين؟
يُرجح الكاتب أن النتيجة ربما كانت ستختلف لو منح الجنرال أنامي دعمه الكامل للمخططين للانقلاب. وفي ذلك السيناريو، كان سينضم أنامي إلى المؤامرة في 12 أغسطس ويذهب في الحال إلى أوميزو، رئيس أركان الجيش، وربما كان من المحتمل أن يقاوم أوميزو الفكرة في بداية الأمر، ولكن بسبب يقينه بأن الخطة ستنجح بدعم أنامي، قد يوافق على الاشتراك فيها.
وكان من المقرر أن يبدأ الانقلاب في منتصف ليل 13- 14 أغسطس. ويعارض كلٌّ من موري وتاناكا مخطط المؤامرة، كما هو معروف تاريخيًّا، ويتعرض كلاهما للاغتيال. وتقبل فرقة الحرس الإمبراطوري الأوامر المزيفة لموري على أنها أصلية، خاصة وأن كلًّا من أنامي وأوميزو يؤيدانها، وتعزل القصر، ومن ثمَّ يعلن جيش المنطقة الشرقية الأحكام العرفية.
ويتابع الكاتب متصورًا نجاح ذلك السيناريو، موضحًا أنه بعد ذلك، يضع المتآمرون الأعضاء الأساسيين المؤيدين لفكرة الاستسلام في «الحبس الاحتياطي»، مما يحول دون قدرة مجلس الوزراء على مناقشة رد الحلفاء على عرض الاستسلام الأولي. ويعزلون الإمبراطور هيروهيتو داخل قصره ولا يحظى بأي فرصة للتأثير في سير الأحداث، ولا يمتلك أي سلطة دستورية للتصرف بأي حال، باستثناء المصادقة على قرار على مستوى مجلس الوزراء، والمرسوم الإمبراطوري سيكون بلا فائدة على أي حال. بل إن هيروهيتو، في ظل تجمع حكومة عسكرية حول أنامي، ربما يتقبل هذا التطور الجديد على مضض. وإذا حدث ذلك، كانت الحكومة العسكرية ستعلنها للحلفاء واضحة أن اليابان ستستمر في المقاومة.
الإمبراطور هيروهيتو
الأوضاع كانت ستسير نحو الأسوأ
يواصل الكاتب تصوُّر سيناريو نجاح الانقلاب قائلًا إن أنامي ومعه آخرون كانوا سيفترضون أن المقاومة المستمرة ستجعل المفاوضات المستقبلية ملائمة أكثر لليابانيين. لكن ما كانت تخشاه الحكومة اليابانية أصبح بعد الانقلاب حقيقة: إذ لم يعد الحلفاء مستعدين للتفاوض. ومن الصعب فهم الكيفية التي يُمكن للحكومة العسكرية الجديدة، بمجرد توليها السلطة، أن تتراجع عن قرارها بمواصلة الحرب، بغض النظر عن مدى سلبية سلسلة الأحداث اللاحقة.
ومن خلال تنحية الإمبراطور جانبًا لصالح الولاء التام للسيادة الوطنية اليابانية، كرَّس المتآمرون سابقة يمكن لأي مجموعة من المتعصبين استغلالها فيما بعد. وبموجب المنطق الذي استند إليه الانقلاب الأساسي، كان من الممكن أن يتعرَّض أي شخص داخل الحكومة، يتفوَّه بكلمة عن الاستسلام، للاعتقال أو الاغتيال على أيدي هؤلاء الذين يرغبون في استمرار القتال. ومع عدم وجود قدرة سياسية على إنهاء الحرب، كان من الممكن أن تستمرَّ الحرب حتى تُدمِّر تمامًا القدرة العسكرية اليابانية على الاستمرار في المقاومة، مما يؤدي إلى مقتل ملايين آخرين نتيجةً لذلك.
«لغز» جريمة أنامي
يستدرك الكاتب قائلًا: ومع ذلك، لم يحدث أيٌّ من هذا، لأن أنامي قدَّم الولاء للإمبراطور على أي شيء آخر، إلا أن تصرفاته في الفترة بين 12 و15 أغسطس، سواء مماطلته مع الضباط الشباب المتحمسين، ورفضه التنديد بهم صراحةً أو ضمان إلقاء القبض عليهم، يشير إلى صراعٍ داخليٍّ حاد.
Embed from Getty Imagesكوريشيكا أنامي، وزير حرب الجيش الياباني
وفي يوم 15 أغسطس 1945، وهو اليوم نفسه الذي أذاع فيه الإمبراطور هيروهيتو خبر استسلام اليابان، رفض أنامي محاولة أخيرة قام بها صهره للانضمام إلى المؤامرة. وجثا أنامي على ركبتيه، وأقدم على الانتحار على طريقة السيبوكو، من خلال بَقْر بطنه ونزع أحشائه وغرز سكين في رقبته في محاولة فاشلة لقطع الشريان السباتي. وساعده صهره على إنهاء حياته، ثم وضع على جثمانه قصيدتين وداعيَّتَين كتبهما أنامي، كانت إحداهما تقول: «إيمانًا راسخًا بأن أرضنا المقدسة لن تفنى أبدًا، فأنا، بموتي، أعتذر بكل تواضع واحترام للإمبراطور عن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها».
وحتى يومنا هذا، لا أحد يعرف الجريمة التي أشار إليها أنامي، ربما كان يقصد ميله الذي كان يغريه للانضمام إلى المتآمرين وتحدي إمبراطوره، وفق ما يختم به الكاتب مقاله.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».