يرتبط سباق الفضاء في الأذهان بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ إذ لا تستثمر الدول المليارات عادةً في مثل هذه المساعي إلا بهدف فرض السيطرة وتوسعة النفوذ، ومع تقدم الصين في ذلك المسعى بخطوات ثابتة بإطلاقها أول محطة فضاء دائمة منتصف العام 2021، وبرنامجها الطموح لإرسال مركبات فضاء إلى الكواكب المجاورة، بالإضافة إلى برنامجها لاستكشاف القمر، كل ذلك علاوة على التوتر السياسي الحادث بينها وبين الولايات المتحدة مع إعلان الأولى رغبتها في «استرجاع» تايوان، يصبح الأمر معقدًا للغاية بين القوتين العظميين في الفضاء كما هو على الأرض، ويجعلنا نتساءل: هل يقود ذلك سباق الفضاء هذا إلى خيرٍ للبشرية في النهاية؟

حسب الفيزيائي الأمريكي الكبير ميتشيو كاكو في مناظرةٍ له تحت عنوان: «سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والصين خير للبشرية»، فإن الإجابة هي «لا» قطعية؛ إذ يرى د.كاكو أن الفيزياء وعلوم الفضاء كما يمكن استخدامها في الخير، فإنه من الممكن أيضًا استخدامها في الحروب المدمرة بين القوى العظمى، وأن سباق الفضاء يمكنه أن يتحول بسرعة مذهلة، ودون أن ينتبه أحد، إلى سباق تسلح.

سباق فضاء أم سباق تسلح؟

يجادل د.كاكو بأن سباق فضاء بين الولايات المتحدة والصين مثل الذي كان بين الأولى والاتحاد السوفيتي أواخر القرن الماضي لا مفر من أن يتحول إلى سباق تسلح، ما سيقود في النهاية إلى مواجهة نووية، ويكمل د.كاكو حديثه خلال المناظرة، بأن الولايات المتحدة والصين وروسيا يعملون على تطوير نظام جديد من الصواريخ تفوق سرعته سرعة الصوت بعشرين مرة، وذلك تحت مظلة استكشاف الفضاء الخارجي ودفع الحضارة إلى مستويات غير مسبوقة.

لكن هذه الصواريخ أيضًا يمكنها أن تحمل رؤوسًا نووية قادرة على تدمير العالم في دقائق، وهذه مخاطرة لا يستطيع العالم خوضها دون إقرار معاهدات ملزمة تحد من أي تهور يمكنه أن يقود إلى ما لا تحمد عقباه، وفي ظل التوترات السياسية بين القوى العظمى الرئيسة، تصبح الحاجة إلى تلك المعاهدات ملحة أكثر من أي وقتٍ مضى.

إذ تزداد أهمية السباق الفضائي الآن، بعد اشتعال الأمور في 15 سبتمبر (أيلول) من 2021، حين أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا إنشاء تحالف أمني بين الدول الثلاثة، ورغم عدم التصريح بذكر الصين في الإعلان، فإن معظم المحللين والخبراء يجمعون على أن هدفه هو تقليص نفوذ الصين في شرق آسيا وطموحاتها في الفضاء الخارجي.

Embed from Getty Images

كانت بداية شرارة هذا التحالف عام 2016، حين أبرمت أستراليا صفقة مع فرنسا تتحصل بموجبها على أسطول من الغواصات التي تعمل بالديزل، في الوقت ذاته الذي رفضت فيه صفقة أنجلو-أمريكية بتزويدها بغواصات تعمل بالطاقة النووية. 

لم يحفظ الأستراليون كلمتهم مع الفرنسيين، وفي مارس (آذار) من عام 2021، بدأ رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، محادثات مع القيادة الأمريكية تبحث إمكانية إلغاء صفقة أستراليا مع فرنسا وإبرام الصفقة الأنجلو-أمريكية بدلًا منها، وهو ما رحب به الرئيس الأمريكي جو بايدن كثيرًا، ما أدى إلى تطور المحادثات لتأخذ شكل تحالف عسكري بين البلدان الثلاثة تحت مسمى «AUKUS»، وفي الإعلان الرسمي عن التحالف، تحدث الرئيس جو بايدن عن الرؤية التي يتبناها، وهي السعي إلى محيط هندي وهادئ حر ومفتوح، وهو ما يشير صراحةً إلى الوجود الصيني بتلك المنطقة.

أثار ذلك التحالف غضب الصينيين وثورتهم؛ ما أدى إلى تصريح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية، جاو ليجيان، بأن تلك الخطوة «تقوض السلام والاستقرار بالمنطقة، وستؤدي إلى بدء سباق تسلح يهدد من سريان اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية»، واتهمت سفارة الصين بالولايات المتحدة كلًّا من الدولة المضيفة وبريطانيا وأستراليا بامتلاكهم ما دعتها «عقلية الحرب الباردة».

جدير بالذكر أن هذه الغواصات النووية البحرية الأسترالية ستمكن التحالف من توسعة سيطرته الأمنية حتى المياه التايوانية؛ ما سيكون مفيدًا للغاية في حال حدوث أي هجوم صيني على البلاد.

أول محطة فضاء دائمة.. كيف تهرول الصين في السباق؟

في منتصف يونيو (حزيران) من 2021، أطلقت الصين سفينة فضائية مأهولة بثلاثة رواد إلى الجزء المنتهي من محطة الفضاء الصينية الدائمة تيانجونج (القصر السماوي) والذي يبلغ طوله 17 مترًا، كانت هذه الرحلة هي الثالثة من ضمن 11 رحلة متوقعًا لها أن تطلقها الصين خلال عامي 2021 و2022 حتى اكتمال بناء المحطة، والتي بدأ تجميعها في الفضاء في شهر أبريل (نيسان) 2021.

Embed from Getty Images

ينظر الصينيون إلى المحطة بوصفها إنجازًا وطنيًّا وعالميًّا سيسرع من وتيرة استكشاف الفضاء وتطوير التكنولوجيا اللازمة لذلك، كما سيساهم في الاستغلال السلمي لموارد الفضاء عن طريق التعاون الدولي، أما الولايات المتحدة، فترى أن المحطة «نذير شؤم بالغ».

في تقييم نشرته وكالات استخباراتية أمريكية في شهر أبريل 2021، صُورت المحطة بوصفها خطوة إضافية تتخذها الصين في مجهوداتها لتجاوز القدرات الفضائية الأمريكية، وكسب الهيبة الاقتصادية والعسكرية التي تمتعت بها الولايات المتحدة لعقود بسبب برامج الفضاء الخاصة بها، وفي مقال رأي نشرته صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تحت عنوان: «ينبغي للأمريكيين أن يقلقوا بشأن الصين أكثر من روسيا»، وصف الكاتب جيمس هومان المحطة الصينية تيانجونج بأنها مرحلة أخرى في «سباق الفضاء الجديد»، الأمر الذي يسبب تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، على حد تعبيره.

يعتقد بعض المتابعين أن الصينيين قد اختاروا وقت بناء محطتهم الفضائية الجديدة بدقة؛ إذ يبنون محطتهم الفضائية الجديدة في وقتٍ تعاني فيه محطة الفضاء الدولية (ISS) من مشكلات خطيرة تهدد استمراريتها، بسبب تسرب الهواء الذي أتعب علماء ناسا في تحديد مكانه بدقة أواخر عام 2020، ما يضع الصين على بعد خطوة من أن تكون صاحبة محطة الفضاء الوحيدة في مدار الأرض.

وحدة الفضاء.. الولايات المتحدة تسعى لامتلاك الفضاء عسكريًّا

تعد وحدة الفضاء العسكرية الأمريكية الأولى من نوعها في العالم، جرى تدشينها عام 2019 على يد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، وحسب الموقع الرسمي للوحدة، فإن هدف الوحدة هو تنظيم وتدريب وتجهيز أعضائها لحماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الفضاء؛ ليس ذلك فحسب، وإنما يشير الموقع بشكلٍ صريحٍ إلى أن الفضاء قد أصبح مسألة أمن قومي للولايات المتحدة بسبب التهديد الآخذ في النشوء من منافسين قريبين في الفضاء، ما يستدعي السعي وراء حفظ التفوق الأمريكي هناك.

Embed from Getty Images

بجمع الرؤية التي تتبناها وحدة الفضاء الأمريكية مع تصريحات مسؤولين كبار على رأسها، يتضح ما يقصد بـ«المنافسين القريبين»؛ إذ إنه في تصريح له لوكالة «فوكس نيوز» حذر رئيس الوحدة الجنرال دايفيد تومبسون من أن الصين تسعى لزيادة قدراتها في الفضاء، وأنه يمكنها أن تتعدى قدرات الولايات المتحدة الأمريكية قريبًا.

يكمل الجنرال تومبسون بقوله: «لا أعتقد أن صعود الصين لتتبوأ القيادة في الفضاء بنهاية العقد الحالي أمر مستبعد تمامًا، في النهاية هم يخطون خطوات مذهلة في ذلك المسعى» في الوقت الحالي، تطلق الصين ضعف الأقمار الصناعية التي تطلقها الولايات المتحدة في الفضاء، وهو ما يصفه الجنرال تومبسون بالتهديد الهائل.

القانون يعقد الأمر.. هل يمكن أن يكون هناك تعاون بين القوتين في الفضاء؟

لا يمكن الحديث عن إمكانية التعاون بين الصين والولايات المتحدة في الفضاء دون ذكر «تعديل وولف»، وهو تعديل على قانون صدر في الكونجرس الأمريكي عام 2011 يجرم على وكالة الفضاء الأمريكية «NASA» أن تستخدم أي تمويل فيدرالي لتتعاون تعاونًا مباشرًا مع الحكومة الصينية، وذلك بوصف الصين قوة معادية للولايات المتحدة في الفضاء يمكنها أن تشترك بأعمال سرقة للموارد والأفكار الأمريكية بذلك الصدد.

يجادل المدافعون عن التعديل بأنه يحمي الحكومة الأمريكية من أعمال الصين التجسسية في المستقبل، ويجادل معارضوه بأن مراجعة ذلك التعديل يمكنها أن تزيد من فرص زيادة الثقة بين القوتين العظميين، ما يمهد الطريق أمام نموذج جديد من الاستكشاف لا يعتمد على فرض القوة بل على تكاملها.

ويرى الصحافي العلمي المهتم بشئون الفضاء، ليونارد دايفيد، أننا سنشهد خليطًا بين التعاون والتنافس بين القوتين في المستقبل، وليس هذا بشيء سيئ على الإطلاق؛ أما مدير وكالة الفضاء الأمريكية الجديد، بيل نيلسون، فإن لديه وجهة نظر متشائمة إلى حدٍّ ما؛ إذ يرى أن ما يدعى ببرنامج الفضاء الصيني هو في الحقيقة «برنامج تسلح»، ما يجبر الولايات المتحدة على التفوق في سباق الفضاء بينها وبين الصين.

روسيا على الخط.. كيف تستفيد الصين من الدعم الروسي؟

في تقرير لها تحت عنوان: «روسيا التي كانت قوة عظمى في الفضاء سابقًا، تتجه للصين لإطلاق مهماتها»، تتطرق صحيفة «نيويورك تايمز» إلى التعاون المشترك بين روسيا والصين في الفضاء، وكيف أنهما تشكلان كتلة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، تضمن لهما قدرتهما على المنافسة وتحقيق أهدافهما المشتركة.

Embed from Getty Images

عام 2024، ستطلق روسيا والصين مهمة إلى نيزك باستخدام روبوتات ذكية لاستكشاف خصائصه وتحليلها، كما ستطلقان سلسلة من المهمات إلى القمر بغرض بناء قاعدة بحثية دائمة على قطبه الجنوبي بحلول عام 2030، وأول هذه المهمات قد أُطلق بالفعل في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، بغرض تحديد أماكن الجليد الذي يمكن استخدامه فيما بعد لتوفير المياه اللازمة لبعثات قادمة.

لا ينتهي الأمر لروسيا عند بدء التعاون مع الصين، لكنه يمتد أيضًا إلى إنهاء تعاونها مع الولايات المتحدة؛ إذ تسعى روسيا إلى الانسحاب من وكالة الفضاء الدولية «ISS» بمجرد انتهاء تعاقدها مع الولايات المتحدة وحلفائها عام 2024، وقد أعلنت روسيا أسبابها لتلك النية؛ إذ صرح مدير وكالة الفضاء الروسية، ديمتري راجوزين، بأن قرار الانسحاب لا مفر منه إذا لم ترفع الولايات المتحدة عقوباتها عن روسيا، والتي أضرت ببرنامجها الفضائي ضررًا بالغًا.

ما الذي يعنيه خسارة سباق الفضاء لكلٍّ من أمريكا والصين؟

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن خسارة سباق الفضاء بينها وبين الصين تعني خسارتها موقعها بوصفها قوة عظمى في العالم؛ إذ بسيطرتها على الفضاء، ستتمكن الصين من تحييد القوة الجيوسياسية للولايات المتحدة، وستستطيع التحكم بالبيانات والمعلومات في جميع أنحاء العالم.

في تقرير لها تحت عنوان «الولايات المتحدة تخسر سباق الفضاء الثاني ضد الصين»، تقدم صحيفة «فورين بوليسي» تصورًا لما يمكن أن يحدث بخسارة الولايات المتحدة سباق الفضاء كالتالي: تخيل معنا إذا وضع مزارع في كينيا أو طالب في بوليفيا في موضع الاختيار بين دفع تكلفة خدمات الإنترنت من قمر صناعي تابع إلى الولايات المتحدة وحلفائها، أو استخدام تلك الخدمات مجانًا هدية من الشعب الصيني؟ حينها، لن يهتم أولئك المستخدمون كثيرًا إذا كانت الأخبار التي يتلقونها عبر تلك الخدمة مزيفة أو بعيدة عن الواقع الفعلي، ولن يهتموا أيضًا، إذا لم تأتهم أخبار عن أقلية الإيغور أو التبت الذين تضعهم الصين في معسكرات الاعتقال.

دولي

منذ سنة واحدة
«فورين بوليسي»: كيف حجزت روسيا مقعدها بين الكبار في تسليح الفضاء مستقبلًا؟

أما بالنسبة للصين، فيعني ذلك وأد مشروعها الطموح بوصفها قوة عظمى بالكلية؛ إذ لن تسمح الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد ذلك للصين بأن تخطو أية خطوة خارج الإطار المحدد لها، وستتشكل تحالفات جديدة في العالم لذلك الغرض بالذات، كما هو حادث الآن في تحالف «AUKUS» بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

كل ذلك يضعنا في موضع شك بالغ تجاه سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والصين، ويجعلنا ننظر إليه وأيدينا على قلوبنا خوفًا من تطورات متسارعة قد تجلب ما لا تحمد عقباه إلى عالمنا.

المصادر

تحميل المزيد