قبل انطلاق الهجوم الروسي على أوكرانيا، أشار الرئيس فيلاديمير بوتين إلى الروابط المتينة بين هاتين الدولتين خلال خطابه التاريخي بالقول: «أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا، فضائنا المعنوي، هؤلاء ليسوا رفاقنا وزملاءنا وأصدقاءنا فحسب، بل هم أيضًا أقاربنا، تربطنا معهم صلة الدم وروابط عائلية».
وبطبيعة الحال، كان بوتين يعوِّل على الأذرع الروسية داخل أوكرانيا، إذ تملك روسيا لوبي قويًّا داخل أوكرانيا موروثًا عن العهد السوفيتي، سواء في ميدان الاقتصاد أو الإعلام وحتى الأحزاب السياسية، ولعلَّ الشخصية المحورية التي تجسِّد اللوبي الروسي داخل أوكرانيا، هو صديق بوتين الحميم، وعرَّاب ابنته، رجل الأعمال الأوكراني فيكتور ميدفيدشوك، والذي يشير بعض المحلِّلين إلى أن وضعه تحت الإقامة الجبرية، كان أحد المحرِّكات التي أدَّت إلى التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، والذي انتهى بغزوها.
رجل بوتين.. أو «الشخصية الأكثر تأثيرًا في السياسة الأوكرانية»
فلاديمير ميدفيدشوك هو سياسي ورجل أعمال وعضو البرلمان الأوكراني، وأحد أكثر المقرَّبين من الرئيس الروسي بوتين، يمتلك ترسانة إعلامية مكوَّنة من عدَّة قنوات إعلامية توصف بولائها لروسيا، هذا بالإضافة إلى شبكة من الاستثمارات في أوكرانيا وروسيا في ميدان المحروقات، وقد قدَّرت مجلة «فوربس» ثروته في سنة 2021 بـ620 مليون دولار.
فلاديمير ميدفيدشوك
وترجع العلاقة بين بوتين وميدفيدشوك إلى بدايات رئاسة بوتين الذي استلم الحكم سنة 2000، إذ كان ميدفيدشوك حينها يشغل منصب مدير مكتب الرئيس الأوكراني ليونيد كوتشما، آنذاك كانت روسيا وأوكرانيا تعيشان شهر عسل سياسي، وكانت أوكرانيا تتمتع بالغاز الروسي الرخيص وبالقروض الميسَّرة لدعم اقتصادها، ولم تكن مسألة الانضمام إلى الأحلاف الغربية مطروحة على الساحة بعد.
بعد ذلك توطَّدت العلاقة بين الرجلين إثر احتجاجات ساحة «ميدان» عام 2014 ثم سقوط النظام الأوكراني إثر مغادرة الرئيس يانوكوفيتش البلاد، وصعود نظام جديد موالٍ للغرب، حينها ظهرت حاجة روسيا إلى أذرع في المشهد السياسي المستجد، وقد أدَّى ميدفيدشوك هذه المهمة على أكمل وجه من خلال حزبه الذي أضحى أوَّل قوة معارضة داخل البرلمان، بالإضافة إلى قنواته التلفزيونية الناقدة للحكومة وذات الخطِّ التحريري الداعم لروسيا.
يصف بعض المحلِّلين ميدفيدشوك بأنَّه «الشخصية الأكثر تأثيرًا في الساحة السياسية الأوكرانية» بفضل شبكاته الإعلامية وعلاقاته السياسية، كما يُدير أعمالًا مشتركة مع بوتين، ويُمضي معه العطل الصيفية، ويظهر معه في العديد من المناسبات الرياضية، ولا يُنكر ميدفيدشوك علاقته المتينة مع ساكن قصر الكرملين، بل يُقرُّ بأنَّه استغلَّ هذه العلاقة التي تمتدُّ إلى 20 سنة، في نشاطه السياسي في أوكرانيا وترجمته إلى شعبية انتخابية لدى الأوكرانيين الموالين لروسيا.
ومع انطلاق الهجوم الروسي على الجارة الغربية أوكرانيا، قد يتساءل الكثير من المتابعين لمجريات الحرب: لماذا اختار بوتين اجتياح أوكرانيا عسكريًّا بدل اختراقها سياسيًّا عن طريق دعم الأحزاب الموالية لروسيا؟ خصوصًا وأن النظام السياسي الأوكراني قاده من قبل رئيس موالٍ لروسيا منذ سنة 2010، هو الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى غاية إسقاطه عبر احتجاجات «الميدان» في سنة 2014، خاصة وأن النظام الروسي المتَّهم بالتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة 2016، أو انتخابات خروج بريطانيا (البريكست) من الاتحاد الأوروبي، ليس من الغريب أن تكون أوكرانيا هي الأخرى حلبة لتدخُّلاته في الساحة السياسية.
تمثِّل المصالح الروسية في السياسة الأوكرانية، منظَّمة «الخيار الأوكراني» التي أسَّسها صديق بوتين، فيكتور ميدفيدشوك، بالإضافة إلى الكتلة البرلمانية المعارضة «من أجل الحياة» التي تمثِّل ثاني أكبر كتلة داخل البرلمان الأوكراني بـ44 عضوًا، وتتبَّنى هذه الكتلة السياسية التي تملك ملايين المؤيِّدين في الساحة الأوكرانية، مواقف سياسية موالية لروسيا، إذ ترفض بصورة قاطعة انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، كما يدعو الحزب إلى «حياد أوكرانيا في الفضاء السياسي والعسكري وعدم الانخراط في الأحلاف العسكرية»، في إشارة إلى «حلف الناتو» الذي سعى الرئيس الحالي زيلينسكي إلى انضمام بلاده إليه.
ويدعو الحزب أيضًا إلى إحياء التاريخ الحربي السوفيتي بوصفه تاريخًا مشتركًا لجميع الشعوب السوفيتية؛ إذ يحتفل الحزب، مثلًا، بقدامى المحاربين السوفيت في الثامن من مايو (أيار) كل عام، بوصفه يوم انتصار الاتحاد السوفيتي على النازية سنة 1945. إذن، يعود السؤال مجدَّدًا للظهور؛ لماذا لم تستخدم روسيا هذا التأثير السياسي الذي تمتلكه في الداخل الأوكراني لمراكمة النفوذ والسلطة عبر أذرعها الأوكرانية في ميادين السياسة والاقتصاد والإعلام، واتَّجهت إلى الحلِّ العسكري؟
بمباركة أمريكية.. أوكرانيا تبدأ حملة قطع الأذرع الروسية في البلاد
منذ تنصيب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية في مطلع سنة 2021، بدأت الحكومة الأوكرانية حملة ممنهجة لقطع النفوذ الروسي في البلاد، وقد كان فيكتور ميدفيدشوك وشبكته هما المستهدفين الرئيسيين لهذه الحملة التي انطلقت بمباركة أمريكية رسميَّة.
بدأت الحملة من خلال منع قنواته الفضائية «نيوز وان» و«112 أوكرانيا» و«زيك نيوز» من البث بتُهمة تلقِّي التمويل من روسيا، كما اتَّهمتهم الناطقة باسم الرئاسة الأوكرانية بأنَّهم «أصبحوا أدوات حرب ضد أوكرانيا، لذلك جرى حجبهم حفاظًا على الأمن القومي»، وأعلنت السفارة الأمريكية في كييف دعمها لهذه الخطوة.
بعدها جاء الدور على إمبراطورية ميدفيدشوك الاقتصادية، فجمدت السلطات الأوكرانية مجموعة من أصوله، أهمها خط الغاز الذي يوصل بترول روسيا إلى أوروبا، والذي يمتلكه ميدفيدشوك، وهو ما يهدف أيضًا إلى قطع التمويل عن كتلة «من أجل أوكرانيا» البرلمانية المُعارضة والموالية لروسيا داخل البرلمان.
ردَّ الكرملين جاء في يوميْن فقط بعد هذه العقوبات الاقتصادية ضد رجلها في أوكرانيا، ففي 21 فبراير (شباط) 2021 نقلت روسيا 3 آلاف عنصر شبه عسكري إلى الحدود مع أوكرانيا؛ لتكون هذه أوَّل خطوة روسية في سلسلة التصعيد العسكري الذي شهدته الحدود مع أوكرانيا خلال السنة الماضية، والذي انتهى بالهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022.
ميدفيدشوك رفقة بوتين في موسكو
بعد التضييق الاقتصادي انتقلت الحكومة الأوكرانية إلى السرعة القصوى من خلال توجيه اتهامات لميدفيدشوك بالخيانة العظمى، وجرى وضعه تحت الإقامة الجبرية في مايو (أيار) 2021 ويواجه أحكامًا تصل إلى 15 سنة سجنًا، كما اتهمته الولايات المتَّحدة بالتخطيط لانقلاب عسكري بمساعدة الجيش الأوكراني.
وقد نالت خطوة الرئيس الأوكراني زيلينسكي بالتضييق على النفوذ الروسي، تحديدًا شبكة ميدفيدشوك، داخل بلاده احتفاءً كبيرًا من طرف المواطنين ذوي الميول الغربية والقوميين اليمينيين المعادين لروسيا، هذا بالإضافة إلى الدول الغربية التي رحَّبت بالخطوة، إلا أنها حسب البعض كانت استفزازًا صريحًا للجارة روسيا، خصوصًا وأن الكثيرين كانوا ينظرون إلى ميدفيدشوك بوصفه وسيطًا غير رسمي بين كييف وموسكو، بحكم علاقته الشخصية اللصيقة بالرئيس بوتين، إذ سبق وأن استغلَّ هذه الوساطة سابقًا في ترتيب صفقات تبادل أسرى بين أوكرانيا والانفصاليين المدعومين من روسيا شرق البلاد. أما بوتين فقد وصف الهجوم على رجُله في أوكرانيا بأنَّه «إقصاء للساحة السياسية» وأنَّ القرار من شأنه أن يحوِّل أوكرانيا إلى «نقيضة ومعادية لروسيا».
ولا شكَّ أن توقيت الحملة ضد ميدفيدشوك قد لعبت دورًا مهمًّا في إثارة غضب الكرملين واتخاذه قرار تصعيد الموقف ضد كييف، فمع نهاية سنة 2020 كانت شعبية الرئيس زيلينسكي قد ضُربت في مقتل بسبب الارتفاع الصاروخي لحالات الإصابة بفيروس كورونا، وهو ما استغلَّه حزب المعارضة ووسائل إعلامها المملوكة لرجُل بوتين من أجل زيادة الضغط تجاه زيلينسكي والتأثير في شعبيته، بل إن بعض عمليات استطلاع الرأي قد وضعت حزب ميديفيدشوك في المقدِّمة، متجاوزًا زيلينسكي وممهِّدًا الطريق أمام حزب ميدفيدشوك للوصول إلى السلطة، وتعديل كفَّة النظام الأوكراني من الموالاة للغرب إلى معسكر روسيا مجدَّدًا.
لكنَّ كل ذلك انهار مع انطلاق حملة حكومة زيلينسكي التي قضت على نفوذ ميدفيدشوك ووضعته في الإقامة الجبرية منذ مايو 2021، ومن ثم انكسرت أهم أذرع روسيا داخل الساحة السياسية والإعلامية الأوكرانية، وانعدمت حظوظ وصول حكومة جديدة موالية لروسيا إلى السلطة من داخل العملية السياسية نفسها.
وترجِّح مصادر رسمية أمريكية في تصريحها لمجلَّة «نيوزويك» الأمريكية، في حال نجاح الهجوم العسكري في السيطرة على العاصمة كييف وإسقاط حكومتها، بأن بوتين قد ينصِّب صديقه المقرَّب فيكتور ميدفيدشوك على رأس النظام الجديد، فما الذي تحمله الأيام القادمة؟