«ستبدأ الحرب بضربات جوية وهجمات صاروخية روسية تستهدف مستودعات الذخيرة والقوات المُرابطة بالخنادق، ربما تجعل هذه الضربات الجيش الأوكراني عاجزًا عن تنسيق الدفاع وإمداد جبهات المواجهة، ليصبح على قادة الخطوط الأمامية مواصلة القتال بمفردهم. ربما يصمدون قليلًا، لكن بدون إمدادات واحتياطات عسكرية، لا شك أنهم سيسقطون في نهاية الأمر»*الجنرال كيريلو بودانوف، رئيس جهاز المخابرات العسكرية في أوكرانيا.
في حديثه مع صحيفة «نيويورك تايمز» أكد الجنرال كيريلو بودانوف، رئيس جهاز المخابرات العسكرية الأوكرانية، أنه لا توجد موارد عسكرية كافية لدى بلاده لصد هجوم واسع النطاق من جانب القوات الروسية، وذلك في حال غياب الدعم الأمريكي والأوروبي، ويأتي ذلك في ظل تصدر الأزمة الأوكرانية للمشهد العالمي، بعدما حشدت ورسيا ما يقرب من 100 ألف جندي عبر الحدود الشرقية والشمالية والجنوبية لأوكرانيا، ويبدو أن هناك المزيد من القوات الروسية في طريقها إلى الجبهة.
الجيش الروسي
ووفقًا، لـمايكل كوفمان، أحد كبار الباحثين في مركز الأبحاث الأمني CNA، فإن الانتشار العسكري الروسي الحالي هو الأكبر منذ حرب القرم 2014، ولا يرى كوفمان هذا الحشد العسكري مجرد تحرك لتهديد أوكرانيا، وإلا لاستخدمت روسيا قوة عسكرية أصغر بكثير، بل يبدو أن روسيا، حسب تقديره، ترغب في فرض أجندة مصالحها السياسية على الغرب في هذه المنقطة، معتبرًا أن خفض التصعيد من جانب روسيا، دون تحقيق مكاسب حقيقية، سيكون خسارة كبيرة لها، لذلك، فهل أصبح سيناريو الحرب بين روسيا وأوكرانيا أقرب من أي وقت مضى.
ماذا يحدث على حدود أوكرانيا؟
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، حشدت روسيا حاليًا ما يُقدَّر بنحو 100 ألف جندي روسي بالقرب من الحدود الأوكرانية، وهي المرة الثانية خلال هذا العام الذي تقوم فيه موسكو بحشد عسكري قرب حدود جارتها، إذ حشدت روسيا قوات كبيرة على الحدود في أبريل (نيسان) برّرته بأنها كانت تُجري مناورات وتدريبات عسكرية.
بداية الأزمة كانت قبل سبع سنوات، وتحديدًا في الفترة بين فبراير (شباط) ومارس (آذار) 2014، وذلك عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم إلى سيادتها، بعد أن كانت جزءًا من الأراضي الأوكرانية منذ عام 1954، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ التوترات بين البلدين.
ففي أعقاب ضم القرم، اندلعت حرب بالوكالة في منطقة دونباس بأوكرانيا بين المليشيات الانفصالية المدعومة من روسيا والحكومة الأوكرانية، ورغم توقيع اتفاق سلام بين الطرفين في عام 2015، فإن القتال والمناوشات استمرا إلى الآن، بدعم روسي، وهو قتال خلّف وراءه 14 ألف قتيل.
ووفقًا لبعض التقارير الغربية، فإن أغلبية الشعب الأوكراني تدعم حكومة بلادها في مواجهة روسيا، ويؤيدون الدعم الغربي لأوكرانيا، وكذلك يدعمون فكرة الانضمام إلى حلف الناتو، ولكن في المقابل فإن هناك أوكرانيين مؤيدين لروسيا في بعض الأجزاء الشرقية من البلاد خصوصًا السكان الذين لديهم جذور روسية ويتحدثون بالروسية.
وترتبط التحركات العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا حاليًا برغبة موسكو في ضمانات بأن كييف لن تتخطى «الخطوط الحمراء»، والمتمثلة في انضمامها إلى حلف الناتو، أو تواجد قوات دائمة أو بنية تحتية عسكرية خاصة بالحلف في كييف، بجانب ضرورة إيقاف التدريبات العسكرية الأوكرانية بالقرب من الحدود الروسية.
ويرى بعض الخبراء أن القوات الروسية المتمركزة حاليًا على الحدود الأوكرانية تفتقر إلى وحدات الدعم اللازمة لبداية الحرب (وربما الغزو)، لذلك فهناك تصور أن الحرب إذا صارت واقعًا، ربما تبدأ في يناير (كانون الثاني) أو فبراير (شباط) من العام الجديد (2022)، وذلك في ظل أجواء الطقس البارد المناسب للقوات الروسية، مثلما حدث في حرب القرم عام 2014، لكن إذا اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرار الحرب فما السيناريوهات المحتملة لها؟
أربعة سيناريوهات للحرب
تمتلك القوات المسلحة الروسية 900 ألف جندي عامل مقارنةً بـ 209 آلاف فرد لأوكرانيا، أي هناك أربعة جنود روس مقابل كل جندي أوكراني، وتمتلك روسيا ميزة إضافية تكمن في أن لديها بالفعل وكلاء يقاتلون في الحرب الانفصالية في شرق أوكرانيا، مما يمنحها خيار التواصل معهم وتوسيع المنطقة الواقعة بالفعل تحت سيطرتهم، وإذا ما قرّرت روسيا غزو أوكرانيا، فيمكنها شن هجوم من الشمال (من روسيا وحليفتها بيلاروسيا) أو من الشرق أو من الجنوب (عبر شبه جزيرة القرم، أو من خلال هجوم بحري على مدينتي أوديسا وماريوبول).
الجيش الأوكراني
على الجانب الآخر، صارت أوكرانيا أقوى عسكريًا بشكل ملحوظ ممّا كانت عليه في 2014، عندما خسرت شبه جزيرة القرم لصالح روسيا، بفضل الدعم التسليحي والاستخباري الأمريكي، لكنها ستظل تواجه خصمًا ساحقًا، خاصةً على مستوى القتال البري، في ظل ضخامة أعداد دبابات القتال الروسي وكفاءتها، وتصوّر الخبراء أربعة سيناريوهات لأشكال الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، في حال اتخاذ بوتين لمثل هذه الخطوة:
- السيناريو الأول: هو احتلال كامل أوكرانيا، ويبدو أنه سيناريو غير مُرجّح، لأنه سيكون محفوفًا بالمخاطر على كافة المستويات، ومكلفًا للغاية بالنسبة لموسكو، وتظل احتمالات هزيمة روسيا قائمة، بالنظر إلى أن رد الفعل الغربي على عملية الغزو الشامل سيكون شرسًا.
- السيناريو الثاني: هو استيلاء روسيا على كل الساحل الأوكراني من دونيتسك إلى مولدوفا بما في ذلك أوديسا، وإذا نجحت روسيا في ذلك ستتحوّل أوكرانيا إلى دولة غير ساحلية، وستفقد ما يصل إلى نصف أراضيها، وسيكون بوتين هو المسيطر على أراضي معظم المتحدثين بالروسية في أوكرانيا، لكن روسيا ستضطر أيضًا إلى احتلال المنطقة الناطقة بالأوكرانية بشكل أساسي بين أوديسا وشبه جزيرة القرم، والتي قد يكون من الصعب جدًا التمسك بها عسكريًا، كما أن الرد الغربي سيكون قاسيًا أيضًا، ويعتبر هذا الخيار غير محتمل بالنسبة لروسيا، إلا إذا حققّت نجاحًا عسكريًا أوليًا قويًا وتراجع الغرب عن دعم أوكرانيا في الوقت نفسه.
- السيناريو الثالث: هو الاستيلاء على الساحل من دونيتسك إلى القرم على طول بحر آزوف، عبر ماريوبول، وتتحدث هذه المنطقة اللغة الروسية، كما أن الاستيلاء عليها يعني ربط شبه جزيرة القرم برًا ببقية روسيا، وسيكون القتال عنيفًا، لكن من غير المرجح أن يُرسل الغرب قوة عسكرية لدعم الجيش الأوكراني مباشرةً، لأن النشاط حينئذ لن يكون بالقرب من حدود الناتو، لذلك ربما يُركّز الناتو في هذه الحالة على فرض عقوبات أكبر على روسيا، وإرسال شحنات أسلحة كبيرة إلى كييف.
- السيناريو الرابع: هو ضم منطقة دونباس، التي تسيطر عليها الميليشيات الانفصالية المعارضة للحكومة الأوكرانية، والمدعومة روسيًا. وهو ضم لن يُكلّف روسيا نشر أي قوات إضافية، لأن روسيا تمتلك قوات عسكرية هناك بالفعل، وسيكون هذا الخيار هو الأقل خطورة والأكثر جاذبية بالنسبة لبوتين، إذا ما قرر استخدام القوة.
أوكرانيا خارج مظلة الحماية الغربية.. ماذا سيفعل الحلفاء؟
في خضم حالة التهديدات المتبادلة بين روسيا والغرب، كيف سيكون الرد الأمريكي والأوروبي حال اندلعت الحرب بالفعل، وغزت روسيا أوكرانيا؟ وقد صرّح الرئيس الأمريكي جو بايدن، في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2021، بأن الولايات المتحدة لن تنشر قوات على الأرض حتى لو غزت روسيا أوكرانيا، لأن الأخيرة ليست عضوًا في الناتو.
وأضاف بايدن: «فكرة أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة من جانب واحد لمواجهة غزو روسيا لأوكرانيا ليست مطروحة في الوقت الحالي. لدينا التزام أخلاقي والتزام قانوني تجاه حلفائنا في الناتو بموجب المادة 5، إنه التزام مقدس، هذا الالتزام لا يمتد إلى أوكرانيا».
وتنص المادة الخامسة من ميثاق الناتو، على مبدأ «الدفاع الجماعي» الذي يقوم عليه التحالف، بحيث إن الهجوم على عضو واحد في الحلف هو هجوم على الجميع، وقد جرى استخدام هذا المبدأ مرة واحدة في تاريخ الحلف، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، لكن إذا كانت الولايات المتحدة، وبالتبعية دول أوروبا الغربية، لن تنشر قواتها العسكرية دفاعًا عن أوكرانيا، فماذا ستفعل كييف؟
ستواجه موسكو قوة عسكرية أوكرانية مُعززة تسليحيًا وتدريبيًا عن طريق حلف الناتو، بحيث إذا فشلت أوكرانيا في صد الهجوم، فستحاول إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر، التي قد تُضعف القوات الروسية على المدى البعيد، فمنذ عام 2014، قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 2.5 مليار دولار، بما في ذلك رادارات مضادة للمدفعية، والمساعدة في مجال التقاط الصور بالأقمار الصناعية وتحليلها. كذلك زوّدتها بأسلحة هجومية فتّاكة، مثل زوارق الدوريات المسلحة «مارك-6» وصواريخ «جافلين» المتطورة المضادة للدبابات.
تدريبات للجيش الأوكراني مع قوات حلف الناتو
وقد يركّز الغرب في بدايات الحرب على تزويد أوكرانيا بالأسلحة الدفاعية، التي يمكن للقوات المسلحة الأوكرانية استيعابها بسرعة، ويمكنها أن تحرم موسكو من شن حملة عسكرية كثيفة واسعة النطاق لاحتلال أوكرانيا بسرعة، ويمكن أن تشمل المساعدة الدفاعية المئات من قاذفات الصواريخ المضادة للدبابات والمضادة للطائرات وآلاف الصواريخ مثل «جافلين» و«تاو»، ويمكن تعزيز الدفاعات الساحلية بشكل كبير من خلال نشر صواريخ «هاربون» المضادة للسفن، وكذلك يمكن لأنظمة «Stinger» المضادة للطائرات أن تُمكِّن القوات الأوكرانية من إلحاق خسائر فادحة بأي هجمات جوية بطائرات الهليكوبتر أو الدرونز.
وإذا غزت روسيا أوكرانيا، فمن المحتمل أن تستخدم أدوات ضخمة للحرب الإلكترونية وصواريخ «PGM» بعيدة المدى، والهدف من ذلك هو خلق «الصدمة والرعب»، مما يتسبب في انهيار دفاعات أوكرانيا أو إرادتها للقتال، وكان هذا هو التفكير السوفييتي في وقت مبكر من حرب أفغانستان.
ولكن المعضلة الرئيسية التي قد تواجه الروس، هي مدى استعدادهم لخوض حرب استنزاف طويلة الأجل، لأن الخبراء يرون أنه في حال التسليم بأن أوكرانيا ستسقط أمام الغزو الروسي، فإن ذلك سيكون خلال مدى زمني طويل نسبيًّا، ربما لن تتحمله روسيا عسكريًا أو اقتصاديًا، أو حتى سياسيًا، خاصةً وأن الجيش الأوكراني صار أقوى مما كان عليه قبل سبع سنوات.
ماذا عن العقوبات الاقتصادية على موسكو؟
يخضع قطاعا المال والطاقة الروسيان لعقوبات أمريكية حاليًّا، إذ إن العديد من الشركات الحكومية الروسية العاملة في تلك المجالات محرومة من الوصول إلى أسواق المال العالمية، هذا إلى جانب القيود المفروضة على روسيا والتي تحرمها من الحصول على تقنيات استخراج النفط المتطورة، وكان لهذه العقوبات تأثير تراكمي بمرور الوقت، مما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي الروسي وتقييد عمل شركاته، لكنها لم تعق العمليات التجارية اليومية.
لذا في حال نشوب الحرب، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها النظر في توسيع دائرة الشركات الخاضعة للعقوبات الحالية، أو فرض قيود أكثر صرامة، مثل عقوبات الحظر الكامل، والتي تشمل تجميد الأصول وحظر جميع المعاملات، ومنها:
- استهداف شركة «غازبروم»، إذ إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يستهدفوا هذه الشركة حتى الآن، نظرًا لاعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الذي توفره تلك الشركة، وبالتالي فإن عقوبات الحظر لن تكون عملية، لذلك من المرجح أن يجري فرض قيود على عمليات تمويل رأس مال الشركة، مما يراكم المخاطر على الحكومة الروسية، في ظل قلة خياراتها إذا ما أرادت شحن الغاز بعيدًا عن أوروبا.
- تمتلك البنوك المملوكة للدولة في روسيا الغالبية العظمى من حصة السوق المحلية، ولم يتعرض أي منها لعقوبات الحظر، لذلك ربما تعمل الحكومات الغربية على حظر التعامل مع بعض هذه البنوك، مثل «VTB وGazprombank»، وهو الأمر الذي ربما يؤثر في قدرة روسيا على تمويل الحرب.
- هناك شركات طاقة روسية أخرى ربما تمثل أهدافًا هامة للعقوبات الغربية، مثل: شركة «سورجوتنيفتجاس»، وهي رابع أكبر مُنتِج للنفط في روسيا، ولديها هيكل ملكية غامض يشير إلى قربها من الكرملين، وشركة «نوفاتيك»، المملوكة جزئيًا لرجل الأعمال والملياردير الروسي جينادي تيمشينكو، حليف بوتين وصديقه المُقرّب.
- قطاع التعدين والمعادن في روسيا لم يُمسّ إلى حد كبير، ويمكن أن يكون هدفًا واضحًا للعقوبات، بالنظر إلى أن النخبة الاقتصادية المحيطة ببوتين هي من تُسيطر عليه مثل: رومان أبراموفيتش، وسيرجي إيفانوف جونيور.
- يمكن للغرب كذلك فرض عقوبات على شركات الشحن الكبرى مثل «Sovcomflot»، وأكبر شركة شحن مملوكة للدولة في روسيا، وهي لاعب رئيسي في قطاع الطاقة في البلاد، ويمكن للعقوبات المفروضة عليها أن تعرقل صادرات الطاقة الروسية وتزيد الضغط على القطاع الأكثر ارتباطًا بثروة بوتين ونفوذه.
بجانب ما سبق، قد تفكر ألمانيا، تحت حكم مستشارها الجديد، أولاف شولتز، في وقف خط غاز «نورد ستريم 2»، خط الأنابيب الذي سيجلب الغاز الروسي إلى أوروبا، ضمن حزمة العقوبات المفروضة على موسكو إذا ما غزت أوكرانيا. خاصة وأن المستشار الجديد كان من بين ما عارضوا هذا المشروع منذ فترة طويلة.