«وسيذكر الفلاح ما قدمتُ؛ فالبسطاء لا يتنكرون.. سيقدرون وينهضون أمام عادية السنين.. يا ليت قومي يعلمون.. فلأترك التاريخ يقضِ» جمل واضحة من نص شعري أُلقي على لسان شخصية الزعيم التاريخي، أحمد عرابي، في مسرحية «عرابي زعيم الفلاحين»، للكاتب الشهير عبد الرحمن الشرقاوي، وكأن الشخصية تدرك ما سيحدث بعد عقود طويلة من رحيل الرجل من خلاف على جدوى ما قدمه.
لكن على الرغم من الجدل التاريخي حول عرابي، وهل هو زعيم ثوري أم متمرد فاشل، فإن هناك حقيقة واضحة وهي: أن الرجل لم ينتصر في معركته الأساسية، وبالتالي لم يكتب التاريخ كما يريد، وإنما دوَّنه من عاصروا أسطورته ومن هزموه، وهذا مدخل في غاية الأهمية لأنه يضع الروايات التاريخية عن هذه الفترة في سياقها، ويزيل الكثير من الالتباس حول هذه الشخصية التاريخية.
ببساطة.. ماذا فعل عرابي؟
في 15 يناير (كانون الثاني) عام 1881م، برز نجم عرابي حينما قدَّم، رفقة عبد العال حلمي وعلي فهمي، عريضة للحكومة لعزل وزير الحربية عثمان رفقي، لكن رئيس الوزراء، رياض باشا في هذا الوقت، رد باعتقال الثلاثة.
بيد أن الجيش انتفض ضد الحكومة، فاضطر الخديوي توفيق إلى عزل وزير الحربية، وارتفع شأن عرابي بوصفه زعيمًا وطنيًّا يمكنه قيادة الشعب لتحقيق طلباته في الحرية والعدالة والتحرر من النفوذ الأجنبي الذي كان متزايدًا في مصر إبان تلك الفترة.
وفي التاسع من سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، اندلعت الثورة العرابية التي لم تقتصر على الجيش، وإنما شهدت مشاركة مدنية كبيرة، احتجاجًا على سوء الأحوال الاقتصادية، والتدخل الأجنبي في شؤون مصر، ومعاملة رياض باشا القاسية للمصريين.
تمثلت مطالب الثورة العرابية الرئيسية في عزل وزارة رياض باشا، وزيادة عدد قوات الجيش إلى 18 ألف جندي، وتأسيس مجلس شورى نواب «برلمان» على النسق الأوروبي. ونزل الخديوي توفيق على رغبة المحتجين، وعيَّن حكومة جديدة بقيادة محمد شريف باشا، الذي عمل على وضع دستور جديد للبلاد.
لكن تدخل إنجلترا وفرنسا وإرسالهما مذكرة مشتركة لدعم الخديوي في مواجهة المحتجين في السابع من يناير 1881م، أخل بميزان القوى، ودفع محمد شريف للاستقالة.
إلا أن الحركة الاحتجاجية استطاعت تعديل الكفة مجددًا، وتشكلت وزارة برئاسة محمود سامي البارودي، شغل فيها عرابي منصب وزير الحربية، ومررت دستورًا جديدًا للبلاد، وبدأت التفكير في فرض التعليم الإلزامي، وإدخال العديد من الإصلاحات.
لم ترغب إنجلترا في أن تسير الأمور بهذا الشكل، وأرادت التدخل لدعم حليفها الخديوي، فانتهزت قيام عرابي بتحصين قلاع الإسكندرية، وبادر الأميرال سيمور قائد الأسطول البريطاني بإرسال إنذار إلى الحكومة المصرية يطلب فيه تسليم بعض قلاع المدينة خلال 24 ساعة.
لكن الحكومة المصرية رفضت هذا الإنذار، فما كان من الأسطول البريطاني إلا أن وجه قنابله إلى الإسكندرية، ولم تستطع قلاع المدينة الصمود طويلًا ونزلت القوات البريطانية إلى البر، ولجأ الخديوي توفيق وأسرته إلى قصر التين، حيث استقبله قائد القوات البريطانية.
وفي حماية القوات البريطانية، أصدر الخديوي توفيق أمرًا بعزل عرابي، إلا أن الشعب رفض القرار وتمسك به، وتحصن الرجل بالجيش في كفر الدوار، وصد هجمات الجيش البريطاني لمدة خمسة أسابيع.
حينها، لجأ الجيش الإنجليزي لاختراق البلاد من قناة السويس، وبعد خداع من فرديناند ديليسبس، تمكن الإنجليز من دخول البلاد وهزيمة الجيش المصري في التل الكبير في الثالث عشر من سبتمبر، ما مثل نهاية الثورة العرابية، ثم حكم على عرابي بالنفي خارج البلاد.
«متمرد فاشل»؟
رغم ثقل الهزيمة، وفداحة الثمن الذي دفعه عرابي ونفيه خارج البلاد، وبالتحديد إلى جزيرة سيلان، فإن عددًا من رموز المجتمع المصري في فترة الاحتلال الإنجليزي وفترات لاحقة، اتهموه بـ«التسبب في الاحتلال»، وبأنه قاد «حراكًا فاشلًا». بل إن الزعيم الوطني مصطفى كامل شن حملة شديدة القسوة على عرابي، ووصل الأمر إلى اتهامه إياه بـ«الجهل».
كتب كامل في جريدة «اللواء» عام 1901م: «ما عار الاحتلال، وعار الجهالة والتأخر والفقر بشيء يُذكر، إذا قورن بالعار الذى يحمله عرابي، ويقرأه الناس على وجهه أينما سار وحيثما حل، وأي عار أكبر وأشهر من عار رجل تهور جبانًا واندفع جاهلًا، وساق أمته إلى مهواة الموت الأدبي والاستعباد الثقيل، ثم فر هاربًا من ميادين القتال، وتوسل إلى عدوه المحارب أن يعفو عنه، وأبت عليه نفسه أن يموت في منفاه، وألا يرجع إلى وطن هو مرجع شقائه».
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فهجا الرجل عقب عودته من منفاه عجوزًا في 1901م وكتب «صَغار في الذهاب وفي الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابي». الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل قال أحمد لطفي السيد، المفكر الليبرالي ووزير المعارف، إن عرابي «قام بثورة لا داعي لها».
وفي العصر الحديث، وصل الكاتب المصري يوسف زيدان إلى نفي مشهد وقوف عرابي التاريخي في وجه الخديوي توفيق، وحديثه عن المساواة والعدالة بلغة قوية تناقلها المصريون حتى اليوم، وكتب زيدان أن عرابي لم يقف أمام الخديوي ولم يره، متهمًا إياه بـ«التسبب في دخول البريطانيين مصر وبقاء الاحتلال 70 عامًا، لأنه كان متسرعًا وكأنه يريد أن يحكم».
وشعبيًّا، تعرض الرجل للكثير من الإساءات والاتهامات بالتسبب في الاحتلال، ويروي الكاتب الصحفي الراحل صلاح عيسى في كتابه «الثورة العرابية» مشهدًا يعكس تلك الإساءات؛ إذ كتب «قبل أن يموت عرابى بشهور كان خارجًا من مسجد الحسين عقب صلاة العشاء في إحدى ليالي رمضان، فإذا بشاب يبصق في وجهه صائحًا: «يا خائن»، ومسح الرجل الجليل وجهه، وأغلق باب منزله على وجهه شهورًا طويلة».
وتابع: «يوم مات، لم يجد أهله في بيته نفقات جنازته وتجهيزه، فكتموا نبأ الوفاة إلى اليوم التالي، حيث كان مقررًا أن تُصرف المعاشات قبل موعدها لمناسبة حلول عيد الأضحى، وخرجت إحدى الصحف تكتب في مكان متواضع: «علمنا أن المدعو أحمد عرابي، صاحب الفتنة المشهورة باسمه، قد تُوفي أمس».
«ثوري تعرض لخيانة»؟
على نقيض الآراء السابقة، كان عدد من رموز المجتمع المصري في فترة الاحتلال الإنجليزي يرون عرابي بطريقة مختلفة، بوصفه «ثوريًّا تعرض لخيانة». الشيخ محمد الغزالي على سبيل المثال، وصفه بأنه «رجل معروف بالإيمان والتقوى»، وقال: إن «الرجال الذين عاونوه كانوا من أهل الذكاء والاستقامة، من مدرسة جمال الدين الأفغاني، وفيهم محمد عبده بلسانه وقلمه ورأيه».
كما عبر الغزالي عن اعتزازه بأن عرابي «كان أزهريًّا يستمد ثقافته العامة وحكمه على الأمور من تعليمه الديني، وأراد وضع حد لفوضى الحكم الفردي والمفاسد التي تنتشر تحت ستاره الداكن»، ولفت إلى أنه استطاع أن يقود ثورة في مصر «هي من ناحية الوزن التاريخي لثورات المبادئ؛ تشبه الثورة الفرنسية».
وأبرز المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي الخيانة التي تعرض لها عرابي، فقال: «إن المرشدين الحقيقيين للجيش الإنجليزي، خلال هجومه على مصر وسيره في الصحراء، كانوا لفيفًا من أتباع حزب الخديوي».
لكن الرجل نفسه قال في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي»: إن عرابي كان «ذكاؤه محدودًا وكان على جانب كبير من الغرور والاعتداد بالنفس، وكان يعوِّل كثيرًا على أقوال المنجمين والعرافين»، وتابع أنه «لم يكن على الاستعداد السياسي لقيادة الثورة والسير بها إلى النجاح»، وبالتالي فإنه رغم إقراره بالخيانة التي تعرض لها الرجل، كان يميل لوصفه بـ«المتمرد الفاشل».
وقال الشاعر محمد صبري الملقب بـ«مؤرخ الثورة العرابية» الذي كتب مجموعة من المقالات في صحيفة السياسة في عشرينيات القرن الماضي تستند إلى أوراق تخص عرابي: إن الأخير كان يصر على تشكيل مجلس نواب، ووقف التدخلات الأجنبية في البلاد، ويطالب بوقف التعصب الأعمى رغم قومية حركته.
أما صلاح عيسى، فكتب في كتابه «إن الذي ترك «عرابي» يعاني ذل الحاجة، والبصق على وجهه لم يكن مصر، وإنما جزء من أمة الخيانة، جزء من مصر المحتلة، مصر التي سادت الخبائث فيها وجه الحياة، واستأسدت فيها كلاب الطريق، أما معذبو الأرض الذين عاشوا الملحمة العرابية بكل أبعادها، فقد صانوا عهد الحب حتى النهاية».
فيما كتب الكاتب الصحفي عبد الله السناوي في مقال بجريدة «الشروق» المصرية تحت عنوان «أزمة التراكم في مصر»: «إذا أردنا أن نواجه أنفسنا بالحقائق فإن تجريف التراكم مرة بعد أخرى هو جذر الأزمات المتوارثة والمستجدة»، مضيفًا: «ما جرى للثورة العرابية بعد هزيمتها أسس لعمليات تجريف متواصلة».
وتابع: «اغتيلت أولى حلقات الثورة الوطنية المصرية (يقصد شخص عرابي) من جهات متناقضة شملت سلطات الاحتلال البريطاني، وأسرة محمد علي، وقيادات ذات وزن وتأثير، مثل أحمد شوقي ومصطفى كامل»، مضيفًا: «ارتبك الضمير العام حتى إنه لم يعد يدرك لماذا ثار وكيف انكسر، ومن أبطاله، ومن خونته».
عرابي في الميزان
إن إصدار حكم قاطع على شخصية تاريخية بحجم أحمد عرابي سيحمل نتيجتين لا ثالث لهما، إما مفاقمة الظلم الذي وقع عليه ممن وصفوه بـ«المتمرد الفاشل»، وإما تضخيم ذاته في موكب من وصفوه بـ«الثوري والعظيم»، لكن نظرية جناح الفراشة قد تحمل مخرجًا لائقًا من هذا الموقف.
وتشير هذه النظرية إلى أن النتائج الأولى لنظام ديناميكي، حتى وإن كانت ضعيفة، يمكن أن ينتج منها أحداث كبيرة على المدى البعيد، ويمكن تطبيق هذه المقولة على مسارات الحركات الاجتماعية وتأثيرها الذي يتعدى لحظة حدوثها ويستمر لسنوات، ويؤثر بشكل أو بآخر في أي حراكات مستقبلية.
ووفق الكاتب صلاح عيسى في كتابه الثورة العرابية، فإن قضية عرابي كانت عادلة ومتمثلة في «بناء جيش وطني من 18 ألف جندي وإنشاء برلمان، وإقالة حكومة رياض باشا، وإنهاء التدخلات الأجنبية».
الكاتب نفسه تابع: «الثورة رغم فشلها العسكري لأسباب لوجستية، كانت لبنة في بناء وعي وطني مصري ضد الاحتلال، وظلت نارًا تحت الرماد استعرت من جديد في ثورة 1919، ومهدت الطريق لتحرر التراب الوطني من الاستعمار البريطانى 1954م».
وبصفة عامة، يمكن اعتبار تلك الثورة حدثًا رئيسيًّا في القرن التاسع عشر، لأنها أول حراك يرفع شعار «مصر للمصريين» شعارًا معبرًا عن دولة قومية مصرية، وتحدثت لأول مرة عن وضع دستور حاكم، وتأسيس مجلس نواب وفق النموذج الأوروبي.
كما شهدت هذه الثورة أول اصطفاف شعبي خلف شخصية مصرية منذ عقود طويلة، ومن ثم يمكن عدها بداية حقبة القومية المصرية، وتمهيدًا لأحداث لاحقة مثل ثورة 1919م وغيرها من التحركات الاجتماعية المعارضة للقصر والإنجليز.
وتاريخ مصر يعج بالأحداث الكبيرة التي انتهت نهايات مأساوية، ولذلك ليست تلك الثورة استثناء، ولا يمكن تحميل المبادِر مرارة الهزيمة رغم عدالة القضية والأهداف، وفي هذا الإطار، قال الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل: «لم تستكمل ثورة في مصر: أجهضت الثورة العرابية بعد فترة وجيزة من انطلاقها، وضربت ثورتي 1919م و1952م في منتصف الطريق، واختطفت ثورة يناير (2011) في أولها».
وبدلًا من إهالة التراب على من بادر وقاد الحراك وتوجيه الاتهامات والسباب، لا بد من البحث والتأمل لمعرفة سبب فشل الأحداث الاجتماعية الكبرى في مصر، وفق السناوي في مقاله «اعتذار إلى أحمد عرابي» المنشور في جريدة الشروق المصرية.
ختامًا، رغم أن عرابي لم يحظ بمديح الكثير من كتاب عصره، فإنه كان يحتل مكانة مرموقة في وعي الشعبي المصري، وفي هذا الإطار، تنقل المؤرخة لطيفة سالم في كتابها «عرابي ورفاقه في جنة آدم»، عن وثيقة للخارجية البريطانية، أن «منزله بعد عودته من المنفى لم يخل منه الزوار، وخاصة الفلاحون، وكذلك الطبقة الوسطى والباشوات، وإنه عندما كان يؤدي الصلاة في مسجد السيدة زينب يمتلئ المسجد عن آخره، حيث يمضي الآلاف لتحيته وتقبيل يده، وقد تعذر على البوليس حفظ النظام من كثرة الزحام».